لايبدو رئيس الوزراء العراقي الدكتور حيدر العبادي في أفضل أحواله هذه الأيام وهو على الأرجح قد ألف هذه الحالة منذ تكليفه بتشكيل الحكومة صيف العام الماضي لا بسبب تركة سلفه وزعيم حزبه الثقيلة فحسب بل لافتقاره لمواصفات رجل الدولة وعدم امتلاكه لملكة اتخاذ القرارات الحاسمة ، لذا يبدو طبيعيا وفي ظل هذه الظروف اقتراب العراق من حافة الافلاس وهو يخوض حربا تستنزف موارده الاقتصادية والبشرية دون أمل قريب بنهايتها ناهيك عن انعدام الخدمات والتي أدت الى غرق العاصمة بغداد مع زخات المطر الأولى وتسببت باندلاع احتجاجات شعبية الصيف الفائت وحتما استمرار الصراع اللامنتهي على السلطة ومكاسبها من قبل أطراف العملية السياسية.
لقد سقط العبادي في اختباره الأول عندما عجز عن استثمار الترحيب المحلي والأقليمي والدولي بتكليفه برئاسة الحكومة لتصحيح مسار العملية السياسية على نحوا يرضي شركائه الأكراد الذين وقعت معهم بغداد اتفاقا نفطيا سرعان مادب الخلاف عليه والسنة وأكتفى العبادي بمنحهم موافقة على ورقة مطالبهم مع وقف التنفيذ متراجعا أمام ضغط تيار الصقور الشيعية المدعومة من طهران ، ولابد من الاشارة الى ان تطبيق بنود تلك الورقة سيفضي تلقائيا لتغيير وجه العملية السياسية وهو ذات المعنى المقصود الذي يقف خلف تنحية المالكي رغم فوزه بالانتخابات البرلمانية وتكليف العبادي فلم يكن الخيار حينئذ هو المفاضلة بين رجلين من حزب الدعوة طبعا بقدر ماكان الأمر ترجيحا لكفة رؤية أمريكية تهدف لحكم يتجاوز الطائفية شاملا جميع الطيف العراقي دون استحالة تطوره لاحقا للادارة اللامركزية أو حتى الفيدرالية على رؤية ايرانية تهدف للمحافظة على مركزية الحكم يتسيد بموجبه طرف واحد وقد يفضي لديكتاتورية مستقبلية.
العبادي قطع كالعادة نصف الطريق وتوقف فلا حافظ على قوة وهيبة موقع رئاسة الوزراء ولم يكن في الوقت نفسه بقادر على الوفاء بالوعود التي قطعها لشركائه داخليا وسار على نهج سلفه وظن ان بامكانه مسك العصا من النصف بين طهران وواشنطن خارجيا دون أن يدرك ان نجاح المالكي في سنواته الثمانية في المحافظة على توازن علاقاته بين الولايات المتحدة وايران لايعود لدهائه السياسي انما لتلاقي أجندات الطرفين وتوافق مصالحهما في الملف العراقي وهو الأمر الذي أصبح ماضيا بسقوط الموصل والتداعيات المتلاحقة للأزمة السورية وهو مايجعل من الموازنة بين أجندات الطرفين المتضادة في العراق أمرا مستحيل مع مارتبه ذلك من ضرورة حسم رئيس الوزراء لخياراته والمضي في احداها حتى النهاية في السياسة الخارجية والسعي لتشكيل كتلة برلمانية موسعة مؤيدة له وداعمة لقراراته داخل البرلمان في مجال السياسة الداخلية .
وعلى ذات المنوال خذل العبادي التظاهرات المليونية المطالبة بالاصلاح في اختباره الثاني حين فوضته الحشود الشعبية التحرك ضد الفساد وتعزز موقفه بحصوله على الضوء الأخضر من المرجعية الدينية في ذات الاطار لتكون المحصلة اصلاحات ورقية ذات طابع اداري تقشفي وجهت نصف ضربة لمراكز القوى بحرمانها من مناصبها دون القدرة على ازاحتها تماما أو محاسبتها على تجاوزاتها أو مجرد التأثير على نفوذها في مؤسسات الدولة وهو ماجعلها تستوعب الصدمة سريعا وتسعى اليوم وستحاول مجددا في قادم الأيام الانقضاض عليه بشتى السبل المتاحة خاصة بعد ركوبها لموجة الاصلاحات !! وهو ماقابله رئيس الوزراء بمحاولة هامشية لاستخدام التظاهرات (بعد فقدانها للزخم الشعبي) كورقة ضغط ضدها !
عدم قدرة الحكومة على مكافحة الفساد وضعف دور القضاء في محاسبة الفاسدين دفع رئيس الوزراء لاتخاذ اجراءات تقشفية غير مدروسة مثل تعديل سلم الرواتب والذي لايمكن فهمه سوى في سياق تكفل المواطنين بتسديد العجز الحاصل في ميزانية الدولة نتيجة سوء الادارة والفساد الحكومي !! وهوما ساهم بتزايد النقمة الشعبية على الحكومة .
مأزق العبادي الحالي يكمن في تحديد وجهة حكومته في اطار الحرب على الارهاب أما للتحالف الرباعي أو التحالف الدولي وهو سائر في سياق احترام العراق لالتزاماته الدولية والمتمثلة بالاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة الموقعة من قبل الحكومة السابقة وهو التحدي الأكبر الذي يواجهه الآن في ظل ميل كتلة رئيس الوزراء السابق وفصائل في الحشد الشعبي للتدخل الروسي بحجة عدم وفاء الأمريكيين ببنود الاتفاقية وهو كلام حق يراد به باطل في ظل عدم التزام الحكومة السابقة نفسها بالتزاماتها ببناء الدولة وتشكيل قوات أمنية ذات طابع مهني !! وهو ما أدى بنهاية المطاف لسقوط الموصل واجتياح داعش للأراضي العراقية .
واقعيا يمر العراق اليوم بمرحلة صعبة ويقف على مفترق طرق فاما اللجوء لروسيا وهو مايسعى له تيار الصقور الشيعي ومايرافق ذلك من جعل البلاد ساحة لتصفية الحسابات الدولية وبالتالي استمرار التوتر الطائفي والاقتتال الأهلي وهو مايصب في مصلحة الارهاب ويؤدي تدريجيا لتقسيم البلاد .
أو تدعيم التحالف مع الولايات المتحدة وهو مايؤيده الكورد وتياري الاعتدال الشيعي والسني والسير قدما نحو الأقلمة وسيقع على العراقيين مهمة التعامل مع هذا الخيار بايجابية تسهم في تعزيز وحدة البلاد من عدمه ، وهو مايعني الحاجة الماسة لرجل دولة يتسم بالواقعية السياسية و قادر على تجاوز التأثيرات المذهبية والقومية والمناطقية واضعا نصب عينيه على المحافظة على وحدة البلاد واخراجها من مأزقها الحالي بأقل الخسائر لا بتقاسم كعكة السلطة والاستيلاء على المال العام وهنا تحضرني مقولة المفكر والزعيم الشهيد كمال جنبلاط ( السياسي الحقيقي ، أي رجل الدولة ، يجب أن تكون له دائما عين على المبادئ يستلهم منها مواقفه وتصرفاته ، وعين أخرى على الواقع المحيط بتطبيقها ) وهو مايتطلب منه الاستفادة قدر الامكان من التحالف الدولي في الحرب على الارهاب مع التلويح بدهاء بالورقة الروسية والاحتفاظ بها كورقة ضغط لتحفيز الأمريكيين على عدم التخاذل وتقديم المزيد.
مثل هذه الصفات غير متوفرة في العبادي قطعا والخبر السيء حقا هو عدم توفرها في الطبقة السياسية الحالية عموما وهو مايجعلنا مقبلين على أيام صعبة خاصة بعد صدور قرار استبدال العبادي من قبل جميع الأطراف المتصارعة بانتظار التوقيت المناسب والبديل الأنسب .