إعتمد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي سياسة مرنة جداً عكس سلفه المتشدد نوري المالكي، الذي خاصم جميع الاطراف السياسية وقاطع شركاؤه في ما سمي بالعملية السياسية. وإذا عدنا الى يوم إختياره لتولي هذا المنصب في ٨ سبتمبر ٢٠١٤، سنجد إن إختياره جاء من خلال عملية قيصرية سعى الجميع الى هذه الولادة بإستثناء إيران التي تمسكت بالمالكي بإعتباره رجلها الاول في العراق، فالاكراد أرادوا التخلص من المالكي بأي ثمن، بعد أن شدّد عليهم وخاصة في مسألة تصدير النفط دون رقابة الحكومة المركزية. والسنّة الذين قمعهم المالكي في ساحات الإعتصام بقسوة، وجدوها فرصة للتخلص منه، باستثناء عدة شخصيات سنية موالية له، سميت بسنّة المالكي. والأهم من كل هولاء، كانت الولايات المتحدة أول الساعين لإخراج المالكي من العملية السياسية، لمولاته المطلقة لإيران، ولإعتراضه على سياسة الولايات المتحدة في العراق، ولم تغفر له سعيه الجاد لإخراج القوات الأميركية من العراق بموجب إتفاقية الإطار الإستراتيجي ين البلدين أواخر عام ٢٠٠٩. وفي خضم البحث عن بديل للمالكي، تناسى الجميع إن العبادي هو من نفس الحزب الإسلامي للمالكي، الآ وهو حزب الدعوة، وهو في الأساس حزب موالٍ لإيران. والواقع، إن الكل كانت في حمى البحث عن شخص ضعيف الشخصية، لا يقدم ولا يؤخر، وغير قادر على عمل شيء، ينال رضا جميع الاطراف بضمنهم إيران. فلم يجدوا أفضل من العبادي للعب هذا الدور، وظّل ينظر اليه على إنه شيعي معتدل. ولكن النظريات شيء ومتطلبات الواقع شيء أخر.
فأمام تنامي الغضب الشعبي في العراق نتيجة إحتلال داعش لثلث مساحة العراق، وإنهيار الجيش الذي كلف أكثر من ١٢ مليار دولار، أمام مسلحي تنظيم الدولة الإرهابي. وضعف الخدمات الاساسية كالكهرباء والماء والصحة والتعليم والطرق، وغير ذلك. إضافة الى تدهور الاقتصاد العراقي، والدعوة للتقشف، وتذبذب دفع المرتبات الشهرية في بعض المناطق، وجد العبادي نفسه محاصرا بين غضب شعبي يدعو للإصلاح وبين متطلبات الدول المتورطة في الشأن العراقي وفي مقدمتهم الولايات المتحدة وإيران، بالإضافة لمتطلبات شركائه في العملية السياسية والذين تعودوا على الفساد بكل اشكاله طيلة ١١ سنة، بحيث يعرقلون أي مسعى للإصلاح.
وقد إتبع العبادي مسترشداً بمبادىء حزبه القائمة على الكتمان والتقية وعدم توضيح الصورة، سياسة مسك العصا من الوسط، أو المشي على الحبل، معتقداً بانها أنجح سياسة في ظل كل هذه التعقيدات. فلم يصطدم مع الاكراد ولكنه بنفس الوقت لم يعطهم ما كانوا يطمحون اليه. وهو لم يتخذ إجراءات قمعية ضد السنّة ولكنه في ذات الوقت أهملهم. وحتى بالنسبة للاقليات فهم لم يقف ضدهم، كما لم يعطهم شيئا. وبإختصار شديد، فإنه على الصعيد الداخلي إتبع تكتيك عدم التأزيم وصولا لستراتيجية قضاء أربع سنوات ولايته بشكل سلس، على أمل تجديدها لولاية ثانية، وهو حلم لا يراود أي لاجىء عراقي في دول الغرب، نظر لامتيازات المنصب الكبيرة في العراق والتي تصل الى ملايين الدولارات وبشكل يفوق نظرائه حتى في أكثر الدول تقدماً.
إلا أن المشكلة كانت تكمن على الصعيد الدولي. فإيران لها طموحاتها في تصدير ثورتها لكل دول المنطقة، وتعتبر العراق، البوابة الرئيسية لتحقيق ذلك. وفصائلها المسلحة تتدفق من العراق الى سوريا ولبنان، وغيرها. والعراق شاء أم أبى، فهو متورط في شبكة أموال كبيرة تغذي فصائل موالية لايران تمتد من العراق الى سوريا ولبنان والبحرين واليمن وصولا الى بريطانيا. لذا فقد إعتمد العبادي عدم مواجهة هذه الطموحات رغم تعارضها مع استقرار العراق، وهكذا أخذ قاسم سليماني قائد فيلق القدس يصول ويجول في العراق، وتبعا لذلك أنشئت عدة فصائل مسلحة، قدرت ب ٥٥ فصيل مسلح، و١٠٠ ميليشيا مسلحة بحسب تصريح العبادي نفسه. وإضطر في نهاية المطاف تشريع قانون لها يمنحها الشرعية، سمي بقانون هيئة الحشد الشعبي أواخر عام ٢٠١٦. وعلى الرغم من إن العبادي لم يقم بزيارة إيران ولو لمرة واحدة طيلة حكمه، إلا إنه ظّل يتغاضى عن الكثير من تصرفاتها، ولم يتخذ موقفاً واضحاً من تنامي نفوذها المتزايد في العراق.
وبالمقابل، زادت مخاوف الولايات المتحدة ودولا أخرى لها مصالح في العراق، مثل تركيا والسعودية وغيرها جراء تنامي قوة الحشد الشعبي، وزادت خشيتها من أن يلعب هذا الحشد دوراً في رسم ساسة العراق لاحقاً، بعد التخلص من داعش. ومن هنا جاءت تصريحات العبادي بأن الحشد لن يكون له أي دور في السياسة بعد القضاء على داعش.
وبعد تولي إدارة ترامب سياسة الولايات المتحدة مطلع هذا العام، ولان معظم أفراد طاقم هذه الادارة هم من المعارضين لنفوذ إيران المتزايد في العراق، فقد جرى دعوة العبادي لزيارة واشنطن في ١٦ أذار ٢٠١٧. ونقلت الادارة الأميركية مخاوفها الى العبادي، ومطاليبها منه. وبوحي هذه المخاوف والمطالب خرج العبادي ليصرح في المعهد الامريكي للسلام مساء ذلك اليوم، ليعبر عن خطته في حلّ الحشد الشعبي قائلا: “نعم الكثيرون يقبلون بسيادة القانون، لكن هنالك من يرفض خروج الحشد الشعبي وقوات الحشد الشعبي من العملية السياسية. وطبعا لا يمكن أن يكون الشخص منخرطا في العمل السياسي والعمل العسكري في آن واحد. لذا نحن نحاول أن نطبق وننفذ هذا القانون ونضع منظومة تعنى بهذا الموضوع وللتعامل مع قوات الحشد الشعبي وأن تشرف الحكومة على هذا الموضوع، ونحن نشكرهم ونقدّر لهم صنيعهم، ولكن عليهم أن يلقوا السلاح بنهاية المطاف. هنالك البعض من سيعود الى منزله ويبدي إستياءه خصوصا عندما يشعر بأن البلاد لم تثّمن ما قام به. لكننا نحن نقول أننا نثّمن ونُشيد بما قمتم به، لكن هنالك قانون ينبغي أن يطبق وينفذ على الجميع. وإذا ما قبلتم هذا القانون فأنتم معنا، ومن يرفض فينبغي أن تلقوا أسلحكتم وإلا أعتبرتم خارجين على القانون. أنا قلت ذلك في العراق وعلى الملأ وأكرر ذلك داخل العراق وخارجه، ومعظم عناصر الحشد الشعبي يقّرون بذلك. هل هناك صعوبات أو تحديات؟ الصعوبات تكمن في رفض البعض في الإلتحاق بالقوات الأمنية والعسكرية. وهذا يدفع أخرين لحمل السلاح وهذا ما لن نسمح به، وكما ذكرت فإن القانون يطبق على الجميع وملزم للجميع، وهذه مسؤولية البرلمان، ومن يرفض ذلك فإنه لن يعتبر ضمن هذه المنظومة”.
وبمجرد وصوله الى العراق، التقى بقادة فصائل الحشد الشعبي يوم ٢٥ أذار ٢٠١٧، لمدحهم قائلا: “إن كلامنا مع الادارة الامريكية كان واضحاً بأن لدينا مقاتلين أبطالا بدونهم لم يتحقق النصر ونحن نعتز بهم وواجبنا رعاية حقوقهم”.
ويبدو من هذا الموقف المتناقض في مسألة واحدة حساسة هي الحشد الشعبي، وفي وقت قصير لا يتجاوز إسبوع، بأن العبادي كمن يسير على الحبل، فيتمايل يميناً ويساراً للاحتفاظ بتوازنه. لا بل والاكثر من ذلك، وفي إعتقادنا إنه كمن يسير في حقل من الألغام سرعان ما سينفجر عليه لغم ما، وسيقضي عليه سواء أطال الزمن أو قصر، لان العمل بهذا الشكل لا يحتمل الخطأ إلا لمرة واحدة فقط.
وقد برزت مواقف عديدة أكثر حدة، إلا إن العبادي ظّل ينتهج نفس السياسة. ومن هذه المواقف مسألة رفع العلم الكردي فوق دوائر وموسسات الدولة الرسمية في محافظة كركوك المتنازع عليها بتاريخ ٢٢ آذار من هذا العام، وإصرار التحالف الكردستاني على إبقاء العلم على الرغم من صدور قرار من البرلمان العراقي برفض ذلك. وصدور موقف أكثر حدة من الموقف العراقي، من دول الجوار إيران وتركيا برفض رفع غير العلم العراقي في هذه المحافظة، إلا إن العبادي كان أكثر مرونة وطالب الاكراد بعدم رفعه لاحقا. وقد فسّر البعض هذا الموقف من العبادي، بأنه لا يريد أن يتقاطع مع الاكراد لضمان تجديد ولايته للمنصب مرة أخرى. وهو نفس الموقف الذي لطالما إنتهجه في مسألة تصدير الاكراد للنفط العراقي بدون موافقة الحكومة الإتحادية.
وعلى الصعيد الدولي أيضا، فإن العبادي لم يكن أقل تناقضاً. ففي العلاقة مع السعودية قال العبادي عام ٢٠١٦، بأنه: “بإعتراف الحكومة السعودية في عام ٢٠٠٧ فإن ٥ الاف مفخخ إنتحاري سعودي قام بعملية في العراق”. إلا إنه عاد في ٣١ آذار ٢٠١٧ ليصرح في مقابلة حصرية مع قناة الحرة قائلا: “ هناك إنطباع لدى السعودية بأن العراق يتبع إيران، وهناك إنطباع لدى عامة الشعب العراقي بأن السعودية تدعم الإرهاب، والإنطباعان خاطئان”.
وبالفعل، فقد أدركت الإدارة الأمريكية تماما شخصية العبادي بعد تلك الزيارة، لذا فإنها لم تنتظر طويلا، بل أرسلت كبير مستشاري البيت الابيض جاريد كوشنر وهو صهر ترامب في الثاني من نيسان الجاري، ليطلع على الوضع في العراق عن كثب، في الوقت الذي زادت فيه هذه الادارة من إرسال القوات الامريكية للعراق.
إن هذا النمط من السياسة لا يمكن إعتباره سياسة حيادية بأي حال من الأحوال، بل هو نوع من المراوغة، لطالما مارسها أعضاء الاحزاب الإسلامية وبضمنهم حزب الدعوة الإسلامية في العراق، ولطالما مارسه العبادي أيضا طيلة ثلاث سنوات من حكمه في مسائل عديدة أولها الإصلاح السياسي. وهذه السياسة لن يكتب لها النجاح كما قال السفير السوفيتي تسايسيف في أحد الاستقبالات زمن عبد الناصر، كما أورده محمد حسنين هيكل في كتابه ناصر والعالم: “إن عدم الأنحياز مثل السير على حبل مشدود، ولن يصمد عدم الأنحياز ويبقى طويلا”. لاسيما وإن خصوم العبادي كثيرون ويتربصون به منذ وقت طويل. وإن حمى التنافس الانتخابي قد بدأت من الان، وإن الوقت بدأ ينفذ أمام الادارة الامريكية.