رغم ان نتائج الانتخابات لم ترجح كتلة سياسية واحدة بحصاد الاكثرية المطلقة، الا ان فوز سائرون بالمركز الاول دون غيرها من الكتل عزز من حظوظ الدورة الثانية للعبادي.
وقد ادرك رئيس الوزراء المنتهية ولايته اهمية الامر. وسارع يسابق الزمن للقاء الصدر لرفع رصيده النيابي وضمان مقبوليته عند تيار الكتلة الاكبر. الزيارة وان بانت في شكلها وعجلتها عفوية، الا انها سعت لتحقق مجموعة اهداف سياسية مدروسة.
فزيارة العبادي لمقتدى محاولة ذكية للخروج من مأزق المرتبة الثالثة في التسلسل الانتخابي والقفز الى افاق رسم معالم الكتلة الكبرى لتأمين دورته الثانية. وبذلك يكون العبادي قد ضرب عصفورين بحجر. الاول انتشل نفسه من السقوط في قبضة خصومه السياسيين واستخدامه كرة المراوغة بين اقدامهم. والثاني ترسيخ مزاعم تبني الصدر ترشيحه لرئاسة حكومة تكنوقراط.
ويبدو ان زيارة العبادي لمقتدى أتت أكلها من قريب. اذ دفعت بالعامري الفائز بالمرتبة الثانية لزيارة مقتدى في داره على قاعدة “مرغما اخاك لا بطل”. وهي زيارة وان غلب عليها الطابع الشكلي الدبلوماسي، الا انها حملت في مضامينها مدلولات سياسية مهمة. ووضعت امكانية تشكيل اتئلاف ثلاثي يجمع فيه الاكثرية النيابة المطلقة. وتكون قد حسم نزاع القوم وكل المتطلعين الى امكانية تمزيق القوى السياسية الشيعية، للدخول خلسة من خلال اختلافاتها.
رئيس بدر سابقا، والفتح حاضرا، لا يتحرك من دون ايح او توجيه خارجي. ولقاءه بمقتدى يفتح الابواب على مصرعيها ليس بين العامري والصدر فحسب – وان كان في الظاهر صحيحا- بل بين التوجه الايراني في العراق ومقتدى الصدر. اذ يدرك قاسم سليماني اهمية عدد المقعد النيابية الصدرية من جهة، وخطورة ترك مقتدى طمعا للسياسية السعودية.
ان مساعي المحور السعودي ورهاناته على ادارة الملف السياسي من خلال الانفتاح على مقتدى الصدر واستغلال شعبيته ليس بالامر الهين كما يظن الامير بن سلمان. فمقتدى هو ابن المرجعيات والثقافة الشيعية الحوزوية التي يستمد منها كل قوته الشعبية. ولن يستطيع تخطي الموروث العقائدي الشيعي والتحول الى المعسكر المعادي تحت اي ذريعة. ولو جاز ذلك قولا وليس فعلا، فان التفكير بالانتقال بحد ذاته الى المحور السعودي يكفي لانهاء دوره السياسي واضافة الى الديني ان لم تكن حياته ايضا. وهو امر يدرك جيدا.
كما وان ايران تدرك من جانبها ايضا، ان حجم النفوذ السعودي في العراق لا يتجاوز المساحة الطائفية مهما سعت وبذلت من سخاء. وانها دولة قاصرة في فهم الواقع العربي ناهيك عن العراقي. ولا تمتلك غير المال لاستمالت الرجال. وهذا وان صح فلن يكون على مقبول على المستوى العقدي والثقافي والاجتماعية. فثقافة ابن الرافدين لطالما جعلته ينظر بزدراء وتدني للثقافة الخليجية عموما والسعودية خصوا. وهي لا تشكل في تصنيفه الا مستوى بدائي وحالة مترامة من الجهل والتخلف. لا يزيدها ثروتها الا خبالا. ولم تحصل ولن تتمكن تلك الشعوب من التاثير على الواقع العراقي الا بالقدر اليسير لدى المرتزقة من الافراد.
وعلى ما يبدو ان ايران فهمت رسالة مقتدى ومطالبه بضرورة ترشيح رئيس وزراء وطني عراقي. وادركت ضرورة قبول فكرة الولاية الثانية للعبادي وسحب العامري من حلبة الصراع والمنافسة على منصب رئيس الوزراء. وهي ضربة مزدوجة الابعاد تلبي رغبة الصدر ومن يدور في فلكه من جهة، وتطمئن الجوار الاقليمي والدولي من جهة اخرى.
ان نجاح سياسة الاحتواء الايراني للقوى الشيعية للحقبة الماضية تفرض التسليم بالقناعة الكافية بلا تشكيك بمقدرتهم على ممارسة نفس النهج للمرحلة القادة. وان الاهتمام بدورهم الريادي لا يحجبهم عن ترك مساحات محددة للدور الدولي والاقليمي من دون اللجوء الى سياسة قطع الايادي او المصادمات. فسياسة الاحتواء الايرانية جاهزة لتلبية كل ما يطمح به مقتدى وزيادة شريط بقاء الكرة تحت سيطرتهم والنتائج محسومة سلفا لصلحهم.
فايران دول كبرى في المنطقة، ولها مصالحها القومية واستراتيجية خصوصا في العراق. وهي تعي طبيعة النزاع الاقليمي والدولي ورغبة اسرائيل في تازيم مناطق التماس الجغرافي وزعزعتها كمنهج استنزافي لقدراتها. لكنها صاحبة تجربة عريقة امتد نفوذها مناطق استراتيجية مهمة في المنطقة واصبحت تدير الصراع بعيدا عن امنها وحدوها، وطالما توج ذلك الصراع لصالحها في معظم الاحيان.
ورغم ان من قاد التغيير واساس للعملية السياسية الحالية في العراق هي امريكا وليست ايران. الا انها فشلت في استيعاب الواقع العراقي لجهلها بخصوصيات المجتمع وثقافته الرافض للوجود الاجنبي. وقد اعادت ترتيب اوراقها وسحب جنودها وحسر دورها في مراقبة التجربة “الديمقراطية” بحذر يشوبه الشكوك.
وعلى كل حال، فان طموحات مقتدى الصدر التي باتت تحفزه لممارسة دور المرجعية السياسية في العراق. وان قبوله للعامري يصب بهذا الاتجاه شريطة سحب الاخير رغبته في رئاسة الوزراء. فهو لايجد في خلافه مع العامري كما هو مع المالكي. فالاول يقع في خانة التكتيك والثاني يمثل الخط الاحمر. ولو شاءت الاقدار ورعى الصدر للائتلاف الشيعي الجديد فان نقلة نوعية ودفعة معنوية ستضيف على دوره في المستقبل السياسي العراقي.
وانه من ممكن ولازال، ان ينحيا الغريمين – العبادي والمالكي – خصومتهما ويشكلا كتلة سياسية دعوتية لتكون قطب رحى الائتلاف الشيعي تجمع من حولها بقية المكونات السياسية وتصبح الكتلة النيابة الاكبر. لكن عوامل نفسية وشخصية تقف دون امكانية الحدوث. وان المالكي الطامح للعودة إلى رئاسة الوزراء بشخصه أو بتسمية بديلا عنه لا يمكن بمكان أن يكون جسرا لولاية ثانية للعبادي الذي شق عصى الطاعة عليه وفق فهم الاول. أما العبادي الذي بعثته رسالة السيد السيستاني من رحم العدم الى الوجود، فلا يجد في عودة المالكي الى السلطة الا هدرا للمال العام ونشر الفساد واثارة النعرات الطائفية وتأزيم للعلاقات الدولية والاقليمية وبالتالي افشال التجربة السياسية من اجل مصالح شخصية..
ولا يكفي أن يتمتع العبادي بحظوظ ومقبولية دولية واقليمية، ما لم يمتدد التأييد الى ساحة القوى الكردية لتحقيق التوافق. وهناك حفنة من العقبات البرزانية تنتظر العبادي. فمطالب مسعود لن تكون هينة هذه المرة. وتجربة كركوك وايقاف الميزانية المالية لكردستان وغيرها من الامور ستكون حاضرة على طاولة المفاوضات. وسقف المطالب الكردية ستكون مرتفعة هذه المرة. ولن تحقق الولاية الثانية الا بعد ان يحصل البرزاني على جمل من التنازلات والاقرارات، تقف في طليعتها رد اعتباره السياسي ، وضمان دوره في القرار العراقي المركزية ثانيا، وحصته الوزارية بما فيها السيادية ثالثا..
وهذا سيفتح شهية القوى الكردية الاخرى لرفع سقوف مطالبها تجد في طليعتها الاتحاد الوطني الكردستاني..
كما وان مطالب الكتل السنية رغم تشتتها وانفراط عقد الوئام بينها وانخراط مجموعة تحت مظلات كتل سياسية غير طائفية قد يرتفع سقف مطالبها لو استطاع ان تشكل ائتلاف رصين فيما بينها..
وفي ظل ما تقدم من قراءة سريعة لمجاريات الواقع، تبقى شخصية السيد العبادي حجر الزاوية في الموضوع. فمرونته وان كانت تحسب لصالحه، الا انها تشكل عاقة في تحرير قدرته على ادارة الصراع المراثوني القادم. وغياب فوزه الساحق يجعله اكثر تواضع في الحوار واكثر عرضة للابتزاز. اضافة الى حفنة من المؤاخذات على كرزمته الشخصية التي اسهمت في عدم تحقيقه للاكثرية الساحقة.
فهل يستطيع العبادي الخروج عن طبيعته الرمادية ليمارسة المراوغة السياسية باحتراف تضمن له الولاية الثانية؟ هذا ما ستكشفه الأسابيع القادمة.