واحدة من أسباب الإخفاقات والإنتكاسات التي حصلت في العراق هو رهن أغلب سياسيي العراق لإرادة بلدهم وتسليم مقدراته الى ايران، حتى ذهب أغلب كبار خبراء الشأن السياسي الدولي الى القول ان وضع سياسيي العراق لبيض بلادهم في سلة إيران هو أحد أهم حالات الاخفاق والانتكاسات التي شهدها هذا البلد.
إن أغلب دول العالم التي تعاني من أزمات ومشكلات سياسية متفاقمة، يسعى سياسيوها وبرلمانيوها لإقامة ( لوبيات سياسية ) وعلاقات ( متناظرة ) مع مختلف دول العالم المؤثرة في الساحة الدولية، لا ان يرهنوا إرادة بلدهم بيد قوة كبرى أو دولة إقليمية ، سعسا منهم الى الحصول على دعم دولي متعدد الاتجاهات ، بدون أن يكون لطرف دولي معين الوصاية على مقدارات بلدهم ، ولوضع حد لكل من يفكر أو يحاول أن يرهن تلك الاردة لمصلحة بلد معين في المنطقة، يسعى لاستغلال احادية العلاقة وقوتها مع أطراف معينيين لفرض أجندته ووصايته على البلد الذي قبل سياسيوه ان يكون مصير بلدهم بيد تلك الدولة ذات التأثير الأحادي الجانب.
وايران تعد المثل الأسوأ في هذه العلاقة، يوم إرتضى كثير من سياسيي هذا البلد ان يرهنوا ارادة العراق بإيران، وهذا البلد ان بقي على هذه الشاكلة سوف لن تقوم له قائمة بعد الان ، بل لن يكون لدى ملايين مواطنيه بقية أمل في ان يتخلصوا من قبضة ايران وتحكمها الكامل في ملف بلادهم ، حتى تحول العراق الى تابع لايران ليس لسياسي بلده القدرة على إتخاذ القرار الصائب للخروج من المآزق والأزمات وخيبات الأمل المريرة التي عانى منها العراق لأكثر من عشرة أعوام.
كان من المفترض أن يسعى ساسة العراق ومن خلال نواب البرلمان والشخصيات المؤثرة في عالم السياسة العراقية الى إقامة ( لوبيات ) من العلاقات مع الدول المجاورة للعراق سواء مع محيطه العربي او الاسلامي او الدولي دون الاخلال بقدرة بلادهم على ان يكون لها حق التحكم في مصير شعبها ومستقبلها ، ومن شأن هذه ( اللوبيات ) المتعددة العلاقات سواء مع ايران او تركيا او السعودية او دول الخليج ومصر ومع اوربا والعالم الغربي ومع روسيا، ان تكون تلك (اللوبيات) عامل قوة يخدم حالة ( التوازن ) في علاقات العراق مع جميع دول العالم ، بدون أن يكون لأحد القدرة على التحكم في القرار العراقي وكيف يكون شكل النظام السياسي وكيف يكون بمقدورهم السيطرة والتحكم في ثروات بلدهم، وفي مواجهة كل الاعداء المحتملين او التحديات التي قد تواجه العملية السياسية إن أريد لها النجاح او تسعى لتقيل حالات الفشل والاخفاق الى حدها الأدنى.
وعلى صعيد الدول الكبرى كان على ساسة العراق ان لايرهنوا ارادة بلدهم بالولايات المتحدة كليا ، حتى وان كان الامريكان سببا في تنصيبهم على كراسي السلطة في العراق ، وهم من سهلوا لهم ان يكون لهم شأن في عالم السياسة بعد ان كان كثير منهم مغمورين ، ولا أحد يعرف عنهم شيئا من شعب العراق ، وكان عليهم ان يقيموا من العلاقات المتوازنة مع روسيا والصين ودول الاتحاد الاوربي ما يقدم خدمة كبيرة لبلدهم ، سواء رفض الامريكان توجهات من هذا النوع او لم يشجعوها، ولو أقام ساسة العراق علاقات متوازنة مع الدول الكبرى المؤثرة حتى وان كان بمستوى أقل من مستويات العلاقة مع الامريكان لكان ذلك في خدمة بلدهم ولخلصهم من كثير من الإشكالات التي حصلت ، ولكان وضع العراق أفضل بكثير.
أي ان إرتهان إرادة العراق ومستقبله بيد دولتين هما ( الولايات المتحدة وايران ) كان خطأ ستراتيجيا أفقد العراق الكثير من مقومات الحفاظ على وحدته الداخلية ولما ضاعت ثرواته وهدرت أو سرقت بهذه الطريقة الموغلة في ضياع مستقبل العراق ووصوله الى حافة الافلاس المالي والسياسي ، بل ان ارتهان ارادة العراق للامريكان والايرانيين هو من دمر مستقبل العراق واوصلوه الى هذا المصير الذي لايحسد عليه.
والأخطر من ذلك ان إبعاد شخصيات مؤثرة في الساحة العراقية كانت تقيم علاقات متميزة مع مسؤولين رفيعي المستوى في تركيا والسعودية ودول الخليج وربما مع دول الإتحاد الاوربي وروسيا هو واحد من أسباب الانتكاسات وحالات الفشل التي حصلت في العراق، وكان على البرلمان العراقي ان يبني ( لوبيات ) من العلاقات مع الدول الاقليمية ويشجع اقامة ذلك النوع من العلاقات ويحافظ على قوة علاقة تلك الشخصيات وبخاصة القوية منها لخدمة مصلحة العراق لا ان يتم ابعادهم عن ساحة التأثير والعمل السياسي الفاعل، وكان إبعاد نواب رئيس الجمهورية وحتى نواب رئيس الوزراء الذين تربطهم علاقات متميزة مع دول اقليمية وغربية ومع حكومة كردستان واحدا من القرارات المرتجلة التي حصلت في العراق وتحت مبررات غير مقبولة ، وهي ربما أضرت بالعراق اكثر مما خدمته، وبخاصة أسامة النجيفي وأياد علاوي وصالح المطلك وحتى بهاء الأعرجي ونوري شاويس كونهم أما رؤساء كتل كبيرة او مسؤولين رفيعين فيها ، بل وحتى نوري المالكي نفسه كان جزءا من (صفقة سياسية) شكلت على إثرها حكومة العبادي أصلا والتي كانت حصيلة (توافقات سياسية) بين الكتل ، ولم يكون بمقدور العبادي من الصعود على قمة هرم السلطة في العراق بدون تلك ( التوافقات ) ، وان كان المطلوب في وقتها ابعاد المالكي من سدة السلطة العليا فهناك جوانب أخرى يمكن من خلالها تقليم أظافره لكنه مايزال حتى الان يمسك بقوة بملفات مهمة ، وهو كما يقال يدير دفة السلطة من خلف حجاب، ويبدو العبادي وهو يرتجف ويتخذ من القرارات المرتبكة أكثر مما يسير باتجاه الانفراج ، يضطر في نهاية المطاف للتراجع عنها حتى وان لم يعترف انه تراجع عن كثير من القرارات.
واذا كنا بصدد تقييم قوة ومكانة الشخصيات العراقية المتنفذة في الساحة العراقية فلكل واحد منهم اخطاءه وهفواته وربما انتكاساته ، ولا أحد يسلم من تلك التهم او ما تم تسجيله عليه من ملاحظات، فسياسيو العراق ( كلهم في الهوى سوى ) كما يقال لكن في ظل هذا الواقع السياسي الذي فرضته متطلبات العملية السياسية التي أقاموها هم ورضوا بمسيرتها ان تكون على هذه الشاكلة فان الكل يتحملون مسؤولية التقصير والفشل والاخفاق وان كان المالكي يتحمل الجزء الأكبر من تلك الحالة المأساوية التي شهدها العراق اثر سقوط العديد من محافظاته بيد داعش وبخاصة الانبار ونينوى ، لكن لا أحد يمكن ان يعفي نفسه من جزء من حالات المرارة والاخفاقات التي حصلت في العراق، أي ان لا أحد ( مصونا ) من الاخطاء والزلات وحتى الانحرافات لدى البعض حتى وان كانت لدى البعض بدرجات متدنية ، لكن كان من المفترض حفظ الحد الأدنى من ( كرامات ) المكانة لهذا الذي تم اقرار وضعه السياسي لحين التوصل الى ( مخرج ) لأزمات الساسة أنفسهم ، من اجل ان لايصل حال بلدهم الى هذا المستوى من الانحدار، ولو حافظ الجميع على ( شعرة معاوية ) فيما بينهم لكان افضل وأجدى لهم، ولكان وقع المأساة أقل فداحة حتى وان اكتوى العراقيون من نيران سياساتهم وتخبطاتهم الكثير.
إن العراق بحاجة فعلا الى أن يعيد ( تصحيح ) مسار وحجم علاقاته ومستواها مع بعض الدول التي أضرت بالعراق،وتلك التي تفردت أو تحكمت بمستقبله، وان يقيم علاقات( متوازنة ) مع الجميع، سواء دولا كبرى أم دولا اقليمية ومجاورة ، وبدون تصحيح مسارات تلك العلاقات وبخاصة مع المحيط العربي عمق العراق المفترض ، وبناء نموذج إيجابي وفاعل ومسؤول مع الجميع واحترام مصالح تلك الدول المشروعة في العراق خارج اطارها ( الطائفي او المذهبي او القومي ) ، فلن يكون بمقدور العراق الوقوف على قدميه لقرن كامل من الزمان ولا بمقدوره إزاحة داعش وكل الجماعات المسلحة التي تتحكم بمصيره ، إن بقيت أوضاعه على هذه الشاكلة التي تتحكم فيه دولتان هما الولايات المتحدة وايران ، وربما تكون للاخيرة حصد الأسد من هذا التحكم الذي نجم عنه أغلب خيبات العراق وانتكاساته وهو من اوصل العراق الى هذا المصير الذي لايحسد عليه.
إن أفضل الحلول الناجحة لأزمات العراق هو تشجيع التوجهات المدنية غير المرتبطة بأية توجهات طائفية او مذهبية وإشراك كل العراقيين في حكم بلادهم، والمجيء بشخصيات ذات حس وطني مسؤول مشهود لها بالخبرة والكفاءة ولم تتلطخ ايديها بفساد وقتل للعراقيين وهتك لاعراضهم ولكرامتهم من أي نوع، لكي يقيموا دولة العدالة والمساواة ويعيدوا تصحيح تلك العلاقة المختلة كثير مع شعبهم أولا ومع محيطهم العربي والدولي ثانيا، ويقيموا علاقات متوازنة مع الجميع، وهم أنفسهم من يبنون دولة المؤسسات ويعيدوا للعراقيين كرامتهم التي هدرت، ويكون بمقدورهم التحكم بثرواتهم ومستقبل أجيالهم، وقد ترشحت في ذاكرة الرأي العام العراقي الان توجهات من هذا النوع للسير بالبلاد الى تحقيق الأمن والامان والاستقرار وطرد كل محتل وغاصب وسارق ومرتشي وجبان وعميل من اين أتى، واقامة دولة المواطنة التي يشعر العراقيون أنها هي الوحيدة التي من خلالها اقامة حكومة العدل والقانون والحرية المسؤولة الواعية، وان الله لقادر بعونه تعالى على تقريب هذا الأمل لدى العراقيين ، وما النصر الا من عند الله، انه نعم المولى ونعم النصير.