23 ديسمبر، 2024 4:30 ص

ظل السيد رئيس مجلس الوزراء، حيدر العبادي، يركض وراء التغييرات الوزارية ويدعو الى تعديلات في نظام المحاصصة وكثر حديثه عن الإصلاح السياسي وممانعة القوى المضادة للإصلاح ، ويبدو أن هذا اللهاث المحموم، رغم أنه لم يقترن بوقائع ملموسة على الأرض، هدّ عليه سرب الزنابير (لا أحب عبارة عش الدبابير).السيد العبادي لم يستطع خلال سنة ونصف أن يخط لنفسه مساراً يميزه، أو على الأقل يظهره كقائد فعلي، رغم أنه حصل منذ البداية على دعم إقليمي ودولي لم يحصل عليه سلفه الذي جاء مرتين، في كل مرة عبر خضم أزمة سياسية حادة كما هو معروف، بل أن العبادي لم يستطعْ أن يبرهن قط أنه ليس جزءا من منظومة الحكم المتهمة بالفساد والإفساد وظلت تهم منصبه الوزاري في حكومة أياد علاوي تلاحقه، ولم يتمكن من إتخاذ اي قرار في أيٍّ من بنود منهاجه الحكومي، تجعل الناس يشعرون أنه فعلاً رئيس الوزراء القادر على القيام بأعباء الحكم، والذي ينتظرون منه أن يضع حدا لمعاناتهم، وكان شبح المالكي يطارده باستمرار، وراجت شائعات وأقاويل تتحدث عن إحتدام الصراع الخفي بين الرجلين، مع أرجحية موازين القوة لصالح المالكي على إفتراض نفوذه في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى فضلا على ضمانه لدعم زعماء الميليشيات المتنفِّذة.لم ينجح العبادي في كسب تأييد الكتلة التي ينتمي إليها وانعكس ذلك على وضعه المهزوز في التحالف الوطني الكتلة الأكبر في البرلمان. لم يتقدم في تنفيذ متطلبات الإصلاح السياسي، وملفات الفساد ظلت على حالها تتفرخ وتنشر العدوى، والمشاكل مع الإقليم لم تحل، والإرهاب زاد شراسة في إستهداف المدنيين رغم النجاحات التي حققتها القوات المسلحة والحشد الشعبي، وإذا كان المالكي قد أضاع الموصل فإن العبادي أضاع الرمادي، ولولا ذلك، لربما كان الجهد الحربي الذي صُرِف على تحرير الأخيرة قد حرر لنا الموصل الأن وتم طرد داعش نهائياً من العراق.عندما خوله البرلمان الصلاحيات اللازمة لتطبيق أفكاره في الإصلاح ومحاربة الفساد وتأهيل وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة بما يعيد لها الكفاءة المطلوبة والأهلية المرجوّة، ووافق بالإجماع على ورقته الإصلاحية في سابقة لم يشهد مثلها البرلمان العراقي في دوراته المتعاقبة وأشكاله المختلفة: الوطنية والإنتقالية والدائمية، تحت ضغط الشارع ودعم المرجعية،  تفاجأ الناس بتواضع قراراته وإجراءاته الإصلاحية، حيث أفاد بيان صادر من مكتبه في آب 2015، أنه أصدر جملة  من التوجيهات التي وصفها بالفورية، تقضي بتقليص  اعداد الحمايات لكل المسؤولين بضمنهم الرئاسات الثلاث، والغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، وابعاد جميع المناصب العليا عن المحاصصة الحزبية والطائفية، وترشيق الوزارات والهيئات لرفع الكفاءة وتخفيض النفقات، والغاء المخصصات الاستثنائية للرئاسات والهيئات ومؤسسات الدولة والمتقاعدين منهم، وفتح ملفات الفساد السابقة والحالية باشراف لجنة “من اين لك هذا”. لكن ما تحقق على أرض الواقع إقتصر بالدرجة الأساس على ترشيق كابينته الوزارية من 33 الى 22، بإلغاء خمس وزارت ودمج 6 أخرى من ذوات الإختصاصات التي قيل أنها متشابهة، مع تعهد بعدم فقدان أي موظف لحقوقه وأن الجميع سيلتحقون أوتوماتيكياً بوزرات الدمج، وكان ذلك تعهداً مضحكا أفقد الترشيق مقاصده، بل وزاد الطين “وكسة” بمضاعفة البطالة المقنَّعة في دوائر الدولة، وعكس المعنيون هذه الإجراء في توفير 300 مليون دولار، بينما ملفات الفساد التي تتحدث عنها الدوائر الرسمية والشعبية تقدّر بالمليارات، أما بقية فقرات البيان فقد ظلت حبراً على ورق.ورغم أن هذه الإجراءات لم تقترب إلا بخجل، وعلى إستحياء، من الرؤوس الكبار والكروش المترجرجة، إلا أنهم لم يغفروا له على مايبدو إلغاء المناصب وتقليص الحمايات وتخفيض الرواتب والمخصصات فسارعوا الى سحب التخويل الذي منحوه وحصوره في كرسيِّه.من حلاوة الروح، إنتفض العبادي وأراد أن يقلب الطاولة على الجميع بالدعوة الى حكومة التكنوقراط، وفي الواقع من الصعب التكهن بسبب ومقصد السيد العبادي في هذه الدعوة. إذا كان مقتنعا بها فتلك دلالة على عدم إستيعابه لتعقيدات الوضع السياسي والإجتماعي للعراق، وغربته في دهاليز عملية الحكم التي تديرها على السطح، توازنات المصالح بقدر القوة التي يملكها كل طرف داخلياً وخارجياً، ويهيمن عليها تحت السطح صراع الطوائف والأعراق ببعديه التاريخي والإقليمي،  رغم أنه عاش في تلك الدهاليز منذ تمددها في جسد الجمهورية العراقية الثانية. أما إذا كانت الدعوة تكتيكية فتلك دلالة دهاء وحنكة يحسد عليها العبادي لأنها أصابت الجميع بمقتل.مفهوم حكومة التكنوقراط يكتنفه الكثير من الحماس المجتمعي والدعم الجماهيري ويرتبط في أذهان العامة بتسنّم العلماء والحكماء والأمناء لمقاليد الأمور وتسخير علومهم وحكمتهم ونزاهتهم وإخلاصهم في خدمة الدولة والمجتمع ورفاهية الإنسان، ولكنها في أذهان السياسيين ترتبط بتهديد نفوذهم وتبديد منافعهم والقضاء على مكانتهم، فنزل الطرفان الى الشارع ويبدو أن الغلبة في النهاية لن تكون للعبادي بحال، بعد توارد أسماء بدلائه.
[email protected]