23 ديسمبر، 2024 3:02 م

العاهات الأخلاقية

العاهات الأخلاقية

-1-
ليس ثمة من علامات فارقة تستطيع من خلالها تشخيص العاهات الكامنة في النفوس …

انّ الابتسامات العريضة تُخفي وراءها في كثير من الأحيان، أحقاداً دفينة تنتظر ساعة الانتقام …

ومن هنا قال الشاعر :

لا يُغرّنْكَ مظهر مستعارٌ

فكثيرٌ من الأصحاء مرضى

-2-

لا يشترط في المرض أنْ يكون من الأمراض الفتاكة الشهيرة كالسل والطاعون والجدري …

انّ سواد القلب من أكبر الأمراض …

وسوادُ القلب ليس الاّ اضمار السوء للآخرين ، فضلاً عن العزوف الكامل عن الاسهام في عمليات البر الاجتماعي والنفع الانساني …

-3-

وهؤلاء المرضى الذين تخفى امراضهم علينا، وتبقى مطويةً الى ان تخرج من مكانها :

يتبوأ بعضهم المناصب العليا والوظائف الخطيرة ، فيستغلون مواقعهم للتنفيس عن تلك المخزونات النفسية الرهيبة .

انهم يبادرون الى (عَزْل) من يكرهون وإبعاده عن عمله فيقطعون بذلك رزقه غافلين انّ قطع الأرزاق مساوق لقطع الأعناق …

-4-

حدثنا حارث نجل الراحل يوسف غنيمة ت 1950 – احد وزراء المالية في العهد الملكي – عمن روى له :

” انه في جلسة مجلس الوزراء في عهد أرشد العمري ، اختلفت آراء الوزراء بشأن نقطة قانونية ، وحسما لذلك اقترح أبي أنْ يتصل باحد الموظفين المتضلعين في هذا الموضوع .

رفع سمّاعة الهاتف وقال لمأمور البدالة :

ان يطلب له فلان بن فلان .

لما سمع ارشد العمري اسم الموظف ثارت ثارتُه لخصومة سابقة بينهما،

وأخذ ورقة بيضاء وسلّمها الى أبي ، وطلب منه ان يكتب أمر (فصل) هذا الموظف لمدة خمس سنوات .

بعد ان فرغ أبي من الكتابة أعاد الورقة الى العمري فلما قرأها إكفهر وجهه …،

عوضا عن أنْ يكتب ابي أمر الفصل رَفَعَ استقالته من الوزارة وقال للعمري :

(ضميري لا يرتاح لفصل هذا الموظف الكفؤ النزيه في عمله ،

لذا أترك الموضوع لمن يخلفني للبت فيه )

عند ذاك :

أعاد العمري الورقة ، وأغلق الموضوع “

السياسي الاديب يوسف غنيمة / ص310-311

أقول :

لقد أراد العمري فصل موظف نزيهٍ لا لشيء الاّ لثارات قديمة … وحسابات سقيمة ..!!

وقد ضرب الراحل (يوسف غنيمة) مثالاً رائعا للمروءة والانسانية ، حين قدّم استقالته رافضا إصدار الأمر بفصل ذلك الموظف النزيه …

كان ذلك بدافع من ضميره النقي

والمشكلة اليوم أنّ كثيراً من السلطويين منحوا ضمائرهم اجازات طويلة…!!

نامت ضمائرهم ، والنومُ – كما هو معلوم- شبيهُ الموت ..!!

-5-

ولماذا نذهب بعيداً وقد فصل مؤخراً د.(سنان الشبيبي) من وظيفته –كمحافظ للبنك المركزي – وهو خبير دولي وذو كفاءة عالية ، ومن أكثر الموظفين نزاهة ونظافة ..

ولم يُكْتَفَ بالفصل ، بل أحاله المسؤول التنفيذي المباشر السابق الى القضاء، ليحكم عليه بالسجن ..!!

ولكنه كان خارج العراق، فلم يمض في السجن ساعة واحدة .

وحين عاد الى الوطن ، – بعد ان توّلى د . حيدر العبادي رئاسة مجلس الوزراء – راجع القضاء فبرأ ساحته، ولو كان هناك دليل للادانة لما صدر القرار القضائي بالبراءة …

وهكذا اتضحت للعيان الخلفيات المريضة التي كانت وراء العزل والاحالة الى القضاء .

-6-

إنّ من المفارقات المرّة :

بقاء اللصوص والمختلسين في مناصبهم دون أن تهبّ عليهم الرياح الساخنة ، وعَزْل أصحاب النزاهة والخبرة، خلافا لكل القواعد والموازين الاخلاقية والانسانية والقانونية والحضارية ، فضلاً عما يقتضيه الدين من التمسك بأهداب العدل والموضوعية …

-7-

لقد ترجم (الذهبي) في تاريخ الاسلام ج32 / ص153 شاعراً يكنّى بأبي سعد ، اسمه محمد بن علي ، عُزِلَ من عمله، دون أن يكون قد أخلّ بشيء من واجباته فقال :

عُزلتُ وما خنتُ فيما وليت وغيري يخونُ ولا يُعْزَلُ

وهذا يَدّلُ على أنَّ مَنْ يُولِّي ويعزلُ لا يَعْقلُ

وكما قيل قديماً :

الجنون فنون …!!