-1-
ليس ثمة من علامات فارقة تستطيع من خلالها تشخيص العاهات الكامنة في النفوس …
انّ الابتسامات العريضة تُخفي وراءها في كثير من الأحيان، أحقاداً دفينة تنتظر ساعة الانتقام …
ومن هنا قال الشاعر :
لا يُغرّنْكَ مظهر مستعارٌ
فكثيرٌ من الأصحاء مرضى
-2-
لا يشترط في المرض أنْ يكون من الأمراض الفتاكة الشهيرة كالسل والطاعون والجدري …
انّ سواد القلب من أكبر الأمراض …
وسوادُ القلب ليس الاّ اضمار السوء للآخرين ، فضلاً عن العزوف الكامل عن الاسهام في عمليات البر الاجتماعي والنفع الانساني …
-3-
وهؤلاء المرضى الذين تخفى امراضهم علينا، وتبقى مطويةً الى ان تخرج من مكانها :
يتبوأ بعضهم المناصب العليا والوظائف الخطيرة ، فيستغلون مواقعهم للتنفيس عن تلك المخزونات النفسية الرهيبة .
انهم يبادرون الى (عَزْل) من يكرهون وإبعاده عن عمله فيقطعون بذلك رزقه غافلين انّ قطع الأرزاق مساوق لقطع الأعناق …
-4-
حدثنا حارث نجل الراحل يوسف غنيمة ت 1950 – احد وزراء المالية في العهد الملكي – عمن روى له :
” انه في جلسة مجلس الوزراء في عهد أرشد العمري ، اختلفت آراء الوزراء بشأن نقطة قانونية ، وحسما لذلك اقترح أبي أنْ يتصل باحد الموظفين المتضلعين في هذا الموضوع .
رفع سمّاعة الهاتف وقال لمأمور البدالة :
ان يطلب له فلان بن فلان .
لما سمع ارشد العمري اسم الموظف ثارت ثارتُه لخصومة سابقة بينهما،
وأخذ ورقة بيضاء وسلّمها الى أبي ، وطلب منه ان يكتب أمر (فصل) هذا الموظف لمدة خمس سنوات .
بعد ان فرغ أبي من الكتابة أعاد الورقة الى العمري فلما قرأها إكفهر وجهه …،
عوضا عن أنْ يكتب ابي أمر الفصل رَفَعَ استقالته من الوزارة وقال للعمري :
(ضميري لا يرتاح لفصل هذا الموظف الكفؤ النزيه في عمله ،
لذا أترك الموضوع لمن يخلفني للبت فيه )
عند ذاك :
أعاد العمري الورقة ، وأغلق الموضوع “
السياسي الاديب يوسف غنيمة / ص310-311
أقول :
لقد أراد العمري فصل موظف نزيهٍ لا لشيء الاّ لثارات قديمة … وحسابات سقيمة ..!!
وقد ضرب الراحل (يوسف غنيمة) مثالاً رائعا للمروءة والانسانية ، حين قدّم استقالته رافضا إصدار الأمر بفصل ذلك الموظف النزيه …
كان ذلك بدافع من ضميره النقي
والمشكلة اليوم أنّ كثيراً من السلطويين منحوا ضمائرهم اجازات طويلة…!!
نامت ضمائرهم ، والنومُ – كما هو معلوم- شبيهُ الموت ..!!
-5-
ولماذا نذهب بعيداً وقد فصل مؤخراً د.(سنان الشبيبي) من وظيفته –كمحافظ للبنك المركزي – وهو خبير دولي وذو كفاءة عالية ، ومن أكثر الموظفين نزاهة ونظافة ..
ولم يُكْتَفَ بالفصل ، بل أحاله المسؤول التنفيذي المباشر السابق الى القضاء، ليحكم عليه بالسجن ..!!
ولكنه كان خارج العراق، فلم يمض في السجن ساعة واحدة .
وحين عاد الى الوطن ، – بعد ان توّلى د . حيدر العبادي رئاسة مجلس الوزراء – راجع القضاء فبرأ ساحته، ولو كان هناك دليل للادانة لما صدر القرار القضائي بالبراءة …
وهكذا اتضحت للعيان الخلفيات المريضة التي كانت وراء العزل والاحالة الى القضاء .
-6-
إنّ من المفارقات المرّة :
بقاء اللصوص والمختلسين في مناصبهم دون أن تهبّ عليهم الرياح الساخنة ، وعَزْل أصحاب النزاهة والخبرة، خلافا لكل القواعد والموازين الاخلاقية والانسانية والقانونية والحضارية ، فضلاً عما يقتضيه الدين من التمسك بأهداب العدل والموضوعية …
-7-
لقد ترجم (الذهبي) في تاريخ الاسلام ج32 / ص153 شاعراً يكنّى بأبي سعد ، اسمه محمد بن علي ، عُزِلَ من عمله، دون أن يكون قد أخلّ بشيء من واجباته فقال :
عُزلتُ وما خنتُ فيما وليت وغيري يخونُ ولا يُعْزَلُ
وهذا يَدّلُ على أنَّ مَنْ يُولِّي ويعزلُ لا يَعْقلُ
وكما قيل قديماً :
الجنون فنون …!!