23 ديسمبر، 2024 2:25 م

العامل الديني عند ماركس.. واقع الانعكاس ونقد الاغتراب

العامل الديني عند ماركس.. واقع الانعكاس ونقد الاغتراب

مقدمة:

 تبدو ظاهرة التدين لصيقة بالوجود الاجتماعي للإنسان الواعي ولذلك تطرح على كل إنسان ينتمي الى ‏جماعة يتصرف في شؤونها نظام سياسي معين، وهي ظاهرة يبحث فيها أيضا كل عاقل ومفكر وقد اهتم ‏فيلسوف الرجة كارل ماركس بالدين بشكل مباشر صريح وبطريقة ضمنية منذ بداية مشواره الفكري وبشكل ‏مبكر ولذلك شكل الدين وحده من بين كل المسائل النظرية والعملية المنطلق والمدخل إلى بقية المسائل ‏الفكرية وهو ما جعل المسألة الدينية تبرز في هذا السياق بقوة وبكثافة وتحتل قيمة نظرية وعملية على ‏صعيد منظومة ماركس المعرفية وعصره.‏

ان المعضلة الرئيسية التي يتصدى الفكر المعاصر لحلها هي المعضلة الدينية لأن صلابة الخطاب الديني ‏وشموليته تصطدم بمرونة الواقع وحدثية صيرورة التاريخ وأن أهم الصعوبات التي تواجه العقول الحرة ‏على صعيد التفكير الفلسفي في الديني هي النزول من عالم النص إلى عالم الواقع والتوفيق بين المحتوى ‏المطلق والثابت للنص الديني وبين حركة الواقع النسبية، وعندما تجعل نخبة من الاكليروس من لغة النص ‏ميدان عملها وتحرص على نقل عالم القداسة النصية وتفسيرها والتعبير عنها باستخدام اللغة العادية فان ‏الدين يصبح الحقل الرئيسي لقلب العلاقات الحقيقية بين الإنسان والله وبين الذات والموضوع ويسقط ‏الإنسان خارج الصفات التي تخص نوعه. ‏

يمكن أن نقسم آراء النقاد والمؤرخين حول علاقة ماركس بالعامل الديني إلى فريقين: الأول يصنفه ضمن ‏التيار الإلحادي اللاأدري الذي ينكر وجود الله والغيب والبعث ويحارب الدين بلا هوادة ويمثله مارسيل ‏نوتش وواكنهايم [2] وبولتزير وغيره كثير وفريق ثاني يعدل الموقف الأول ويلطف اللغة ويعتبر ماركس قد ‏تعامل مع الدين تعاملا فلسفيا تاريخيا عقلانيا وأنه يبحث باستمرار عن القاع الإنساني في التجربة الدينية ‏والإمكانيات الهائلة التي تتضمنها الأديان في أية مشروع انعتاقي تحرري ويمثله غرامشي وماوتسي تونغ ‏وروزا لكسمبور وبدرجة أقل ألتوسير وبيير بيغو. [3]

‏ لكن السؤال الذي يطرح هنا هو: ماهو الطابع النوعي الخاص الذي اكتسبه العامل الديني ضمن الخطاب ‏الفلسفي لماركس؟ هل باستطاعتنا أن نستنبط أصالة فكر ماركسي على الصعيد الديني؟

هل صحيح أن ‏الماركسية مثلها مثل أي فلسفة ملحدة تعادي الدين وتعتبره أفيون الشعوب؟ هل تقوم الماركسية بمحاربة ‏الدين ومعارضته في المطلق أم أنها تنزل الدين في إطاره التاريخي وسياقه الاجتماعي مثله مثل أي فكرة ‏بشرية أخرى؟ ألا تعامل الدين من زاوية فلسفية وعقلية وتاريخية؟

هل هذا الموقف المناهض هو فريد ‏ومبتكر وخاص بها أم أنه يمتد إلى أصول عميقة وبعيدة في التفكير البشري؟ ألا ينطلق من رؤية تضع ‏الإنسان وليس الله مركز اهتمامها وتفكيرها وتضع الحياة الدنيا وليس الآخرة هدفا لها؟

هل يصح وصف ‏الماركسية بالفلسفة الملحدة إذا ما كانت متفقة مع الأديان في مناهضة استغلال الإنسان للإنسان؟ ما الفرق ‏بين الإيمان والإلحاد إذا كانا ينطلقان من مشكلة واحدة ويقفان على الأرضية نفسها؟ ألا تكون في هذه ‏الحالة الماركسية فلسفة لاهوتية تنطلق من مشكلة الله لتعلن رفضه؟ ‏

إن الإشكالية المركزية التي نسعى إلى إبرازها هي: هل أن الدين مشكلة تعترض البشرية في طريقها إلى ‏الوعي بذاتها أم عامل مهم من عوامل التقدم والنهوض؟‏

عندئذ يمكن تقسيم هذه الإشكالية إلى مجموعة من الأسئلة الفرعية هي: ‏
هل أن الماركسية هي التي تحارب الدين ام أن رجال الدين هم الذين يحاربون النزعات الفلسفية العقلية ‏والتحررية التي تشهر بهم وتمثل خطرا يهدد مصالحهم واستمرارية السلطات التي يدعمونها؟

هل تأتي شدة ‏هجوم رجال الفكر على المؤسسة الدينية من أن هذه الفلسفة هي من حيث الجوهر فلسفة مادية دنيوية أم ‏أن ذلك كان نتيجة الموقف المحافظ الذي يتخذه رجال الدين من الصراع الاجتماعي والسياسي وتحالفهم مع ‏الطبقات المسيطرة ضد الطبقات المحرومة؟ ألا توجد علاقة بين إنكار الماركسية لمبدأ الملكية الخاصة ‏وإبداء العديد من التحفظات تجاه العامل الديني؟ ‏

من جهة مقابلة هل يحمي الدين الملكية الخاصة ويبرر تراكم الثروة على شكل الإنتاج الرأسمالي أم أنه ‏يشرع للملكية العامة ويحرم الاحتكار والربا واستئثار طبقة اجتماعية بمعظم الثروات ويرفض كل أشكال ‏التفاوت واللامساواة والظلم على الصعيد الاجتماعي؟

ماذا تعارض بالضبط الماركسية من العامل الديني؟ هل ‏تقف ضد الدين مطلقا وتعتبره مجرد مرحلة تاريخية يمر بها الفكر البشري ونمط من العلاقات التي يقيمها ‏الإنسان مع نفسه والآخر والعالم في ثوب معتقدات وطقوس أم أنها تعارض تدخل رجال الدين ومؤسساته ‏في أمور الحياة اليومية والسياسية باسم فكرة متعالية يصبغون عليها القداسة والاطلاقية؟

لماذا يتحفظ ‏الماركسيون على مشاركة رجال الدين في السياسة ولا يعاملونهم كبشر يعبرون عن مصالح مطموحات ‏الطبقات الاجتماعية التي ينحدرون منها وليسوا مقدسين ولا مفوضين من طرف الله ولا يمثلون الدين؟

هل ‏تقول الماركسية بأن الأديان هي سبب الحروب والنزاعات التي شهدها التاريخ البشري أم أنها تعترف ‏بكونها ساهمت في ترسيخ ثقافة السلم والتسامح والتكافل بين الأفراد والمجموعات والدول؟

ألا يجب أن ‏تدافع الماركسية عن نقاء الدين وعن إيمان ما بعد الدين وكاعتراف فردي بالحقيقة الوجودية ضد التشويه ‏والتحريف الذي يتعرض له في الحياة العامة؟

أليس من الأجدر أن يتبنى الماركسيون فكرة لاهوت الثورة ‏والأرض والتحرير حتى يفكوا العزلة عنهم ويتصالحوا مع واقعهم الحضاري وثقافتهم الوطنية ويدافعون ‏على إعطاء الشرعية لأحزاب مدنية تقدمية ذات مرجعية دينية؟

أليس من الأجدر أن يدور حوار جدي ‏ومسؤول بين رجال الدين والإيمانيين من جهة والعلمانيين والناشطين الوضعيين حول فكرة المجتمع المدني ‏وحقوق الإنسان والتنمية والديمقراطية دون ادعاء العصمة والقدسية ودون إنكار الدين وإلغاء مسائل ‏الإيمان والعقيدة؟

تتمثل خطة البحث في مشكل الدور الذي يعطيه ماركس إلى العامل الديني في تجاوز النظرة التبسيطية التي ‏تعتبر الماركسية فلسفة ملحدة والتفطن إلى الدور الحساس الذي يلعبه الدين في تأخر المجتمعات وتقدمها ‏ولذلك اخترنا مفصلة عملنا إلى ثلاث لحظات منطقية هي:‏
‏- الاغتراب الديني والنظر إليه كانعكاس إيديولوجي كاذب للعالم.‏
‏- نقد الدين هو الشرط الممهد لكل نقد سواء للمجتمع أو للاقتصاد أو للثقافة والفلسفة.‏

‏- الدين شيء حقيقي له قاع أنساني ويمكن أن يكون دعامة للرفض والاحتجاج والثورة.‏
ما نراهن عليه هو تفادي النظرة التبشيرية الدعوية لقضايا الإيمان ونقد كل توظيف نفعي واستعمال أداتي ‏للدين والبحث عن الإدراك العلمي لهذه المسألة في واقعنا التاريخي وعلمنته بشكل انسي قصد التعويل عليه ‏كعامل مساعد في كل دمقرطة ممكنة للفضاء العمومي.‏

‏1- حقيقة الاغتراب الديني:


‏ ” لم يتجاهل ماركس المسيحية تجاهلا تاما بما أنه اهتم بالناحية الاجتماعية . وقد جاء من مدارس ‏مسيحية…” [4]‏

من المعلوم أن ماركس لم يعش أزمة دينية في سنوات الشباب مثل عدة فلاسفة آخرين تجعله يثور على كل ‏المعتقدات التي ورثها بحكم التنشئة التربوية ولكنه لم يبد ميلا شديدا تجاه اللاهوت مثل بقية عامة الناس ‏ولم يكن حريصا على إقامة الشعائر الدينية أو متحمسا لها وإنما توجه منذ البداية نحو التفكر والاستبصار ‏والبحث عن نظرة معتدلة إلى هذه المسائل الشائكة.

اللافت للنظر أنه أنجز رسالة دكتوراه حول المادية ‏القديمة انحاز فيها إلى التصور الطبيعي عند أبيقور على حساب النزعة المادية الميكانيكية الفجة التي ‏نجدها عند ديموقريطس بل انه كان أميل إلى تبني الأفكار الفلسفية التي تنقد الاتجاه المثالي وتعترض على ‏الأفكار الغيبية وترفض الأقوال الميتافيزيقية باعتبارها تتجاوز عالم التجربة وتبتعد عن الواقع الموضوعي ‏وكان بالتالي أميل إلى الإيمان بديانة الطبيعة والتي جعلته يستمد أفكاره الدينية من الهيجليين اليساريين ‏وخاصة فيورباخ الذي نادى بإحلال المعرفة الإنسانية مكان المعرفة الإلهية.‏

هذا الموقف ظهر جليا للعيان عندما مال ماركس إلى تبني الأفكار العلمية المبتكرة في عصره وخاصة ‏نظرية داروين البيولوجية في التطور واقترب من المناهج الوضعية التي شيدها أوغست كونت والنقدية ‏الكانطية وأعجب بالتحاليل الاجتماعية الاقتصادية لبعض الاشتراكيين رغم إغراقها في الطوباوية وهجومه ‏الكبير على علم الاقتصاد الليبرالي.‏

إن الأساسي في نظرة ماركس للدين هو ربطه لهذه الظاهرة الثقافية المنتشرة في الوسط الشعبي بالعزاء ‏الوهمي والسعادة المزيفة وقد فسر فيلسوف البروليتاريا تشكل الظاهرة الدينية بعملية الانعكاس الكاذب ‏للواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه الإنسان، وقد أدى ذلك إلى اعتبار الدين سبب ظهور الوعي الزائف ‏ووقوع الناس في الاغتراب والبقاء في وضع مقلوب.

في هذا السياق يقول أنجلز في مناهضة ديهرينغ:” كل ‏دين لم يكن سوى انعكاس خيالي في أدمغة البشر لقوى خارجية تهيمن على الوجود اليومي…” ‏

إن الدين يقيد أياد الإنسان بواسطة إكليل من الزهور وصورة المقدس عند المتدين هي صورة الأزهار ‏موضوعة على القيد ولاسيما وأنه يمكن أن يكون مصدر شقاء الإنسان وبؤسه ويعطل البشر عن الانصراف ‏نحو تغيير واقعهم ولذلك نجد ماركس يصرح في مقدمة لنقد فلسفة الحق عند هيجل:” إن الدين زفرة ‏المخلوق المضطهد وضمير عالم ليس له ضمير، كما هو روح الأوضاع التي ليس لها روح…انه أفيون ‏الشعب.”‏

على هذا النحو يعرف الناطق الرسمي باسم الطبقة العاملة الدين بأنه تعويض خيالي وجزاء معنوي وعزاء ‏عن الشقاء الواقعي في هذا العالم لأنه يمكن أن يقدم توفيقا وهميا خالصا للتعارضات الواقعية القائمة ‏ويمتص التناقضات ويلغي التباينات بشكل التفافي، انه مجرد تعبير عن الإذعان والسلوى وعقيدة سلبية ‏تلجأ إلى تبرير علوي وتحث على الخنوع والركون، انه انعكاس للشقاء الواقعي ويكون عزاء وتخدير ‏ومواساة وهمية وتعبير عن العجز وتبرير للبؤس والتعاسة، كما أنه يمثل شكلا مغتربا لوعي الذات، وهو ‏وعي الذات عند الإنسان الذي لم يجد نفسه.‏

غني عن البيان”أن الدين هو النظرية العامة لهذا العالم وخلاصته الموسوعية ومنطقه في شكل شعبي ‏وروحانيته وحماسته وعقوبته المهنية وأساسه الكوني من أجل العزاء.” والمقصود بذلك أن الدين اغتراب ‏إيديولوجي يجعل الذوات تشعر بقدرتها على الاستغناء عن الواقع والإذعان لسلطته بالاستناد إلى انفصال ‏التجربة اليومية لدى الإنسان المضطهد الممزق والذي يحتاج إلى العزاء والتعويض.‏

إن الدين هو في معظمه إيديولوجيا تخفي مصالح ورغبات القوى التي أنتجتها وهي انعكاس زائف مشوه ‏تظهر فيه العلاقات بين البشر مقلوبة وتجعل من الأوهام الذاتية وكأنها أفكار صحيحة تحدد نمط حياتهم وان ‏المبادئ والأحكام اللاهوتية يمكن أن تقوم بالتعويض عن المهانة وتبرر الشرور وتفسر ذلك بالابتلاء ‏والمحن وتتستر عن الاضطهاد بتصور قيام جزاء عادل في الماوراء وتدعو إلى احتقار الذات والجبن ‏والضعة والذل والخنوع”. ‏

يقول ماركس:”إن المبادئ الاجتماعية للمسيحية قد بررت نظام العبودية البالي ومجدت في العصور الوسطى ‏نظام القنانة السائد وقادرة على الدفاع على قمع البروليتاريا ولو أظهرت أثناء ذلك بعض الأشياء.”،لكن ما ‏المقصود بالاغتراب الديني؟ وبعبارة أخرى كيف يوقع الدين الإنسان في الاغتراب؟

إن الحقيقة المؤلمة لحياة الناس على الأرض هي واقع اغترابهم اليومي عن ذواتهم بحيث تمثل شخصياتهم ‏صورة عن الإنسان المغترب الفاقد تماما لهويته. والمفارق أن الذي يقود إلى الاغتراب ليس الأفكار ‏المجردة والغيبيات بعيدة المنال بل الأسس المادية للإنتاج الاجتماعي والشروط التقنية التي تتطور في ‏المجتمع الحديث.

والاغتراب لم يعد يقتصر على العامل بل تعدى ذلك إلى قيمة العمل ذاتها ووصل إلى حد ‏اغتراب الثقافة بأسرها لأن هناك تضامن عميق بين الاغتراب الاجتماعي والاغتراب الثقافي والاغتراب ‏الديني . ‏

في هذا السياق يقول أنجلز عن الانحراف الذي حصل في المسيحية الأولى:” هذا التعويض السماوي هو ‏الذي أصبح ذات يوم أفيونا مدهش الأثر كانت السلطة تستخدمه لجعل الناس يقبلون تعاسة الدنيا بانتظار ‏وعود الآخرة…” غير أن الاغتراب لما كان هو الفعل الذي تطرح بها الذات الموضوع وتتخارج معه فان ‏الدين يمثل لحظة الاغتراب الذاتي والخضوع لقوانين الدولة الشمولية يمثل لحظة الاغتراب الجزئي أما نمط ‏الملكية الخاصة وتراكم الثروة بشكل غير مشروع والاحتكار والتفاوت في تقسيم العمل وفي التوزيع ‏واللاتكافىء في التبادل فهو يمثل لحظة الاغتراب الكلي.‏

على هذا النحو فان الاغتراب الديني هو اللحظة التي يحقق فيها الانعكاس المقلوب احتلاله الكلي للوعي ‏وبالتالي لا تعود صلة الإنسان مع ذاته ومع الأشياء في صورة مطابقة وصحيحة بل في وضع مشبوه ‏ومقلوب بحيث يقدم الوهم على الحقيقة والتعويض الخيالي بدل الإشباع الواقعي وعالم السماء على عالم ‏الأرض وتنتصر لغة العجز والتمني والانتظار على المبادرة والفعل والانخراط.‏

إن الدين عند ماركس هو شمس وهمية تدور حول الإنسان بما أن هذا الأخير ظل منذ زمان لا يدور حول ‏نفسه والحل هو أن يدور الإنسان حول نفسه لأن ذاته هي الشمس الحقيقية التي ينبغي أن يدور حولها ‏وليس الأشياء الخارجية التي يضفي عليها طابع القداسة.

عندئذ” لا يحدث الاغتراب الديني في حد ذاته إلا ‏في الوعي، في الضمير الباطني للإنسان، لكن الاغتراب الاقتصادي يحدث في الحياة الواقعية”. لذلك يعرف ‏ماركس الدين على أنه الوعي الذاتي للإنسان الذي أضاع ذاته، والغريب أنه كلما وضع أشياء أكثر في قوة ‏مطلقة موجودة خارج العالم كلما حفظ أشياء أقل في نفسه وهو كذلك شمس وهمية تترك الناس يدورون ‏حول أنفسهم عوض الدوران حول العالم.‏

‏إن ضياع الفلسفة في الدين هو انعكاس لضياع أعمق هو الاغتراب الديني الحقيقي الذي يتجلى في مفهوم ‏الإيديولوجيا. لهذا فإن “ما يهم ماركس ليس الفرد المجرد ولا الوعي والنفس الزكية التي تتحدث عنها ‏الأديان والفلسفات بل الإنسان الذي يعمل ويكابد والنفس التي تموت بسرعة وهي تبتعد عن الدين لأنه يعمل ‏على تهميشها أو على الأقل سلب هذا الفرد هنا…” [5]‏

يربط ماركس بين الاغتراب الديني والاغتراب الاجتماعي ويحاول العثور على أسباب الاغتراب الاجتماعي ‏في العامل الاقتصادي وضمن ظروف العمل وعلاقات الإنتاج ويربط بين مفهوم الاغتراب والاستغلال ضمن ‏نظام الأجرة .

و”إذا كان الاغتراب وقع التطرق إليه كمفهوم نظري فان توسيعه المتزايد ينبغي أن يلزمنا ‏بالقول أن كل عمل مغترب هو مستغل… إن هيمنة القبلية من طرف نموذج الاغتراب على كل النشاطات ‏ليس له من نتيجة سوى الاستغلال” [6].لكن، كيف فعل ماركس آليته النقدية في قضايا الإيمان والاعتقاد؟

‏2- نقد الايديولوجيا الدينية:


‏”هذه الفلسفة تمتلك مقصد نقدي مزدوج: تأخذ شكل النقد الحقوقي عندما تواجه السلطة السياسية وتأخذ ‏شكل نقد الدين عندما تواجه السلطة الروحية…” [7]‏

ظل ماركس مهتما بكيفية خلاص الإنسان ككائن منتج وعمل على تحريره من استعباده ومن اغترابه في ‏نطاق علاقات الإنتاج الرأسمالية وتموضعه بواسطة شروط الإنتاج والبضائع ولذلك اقترح كحل نقد الدين ‏وإلغاء الملكية والثورة الاجتماعية وإقامة دولة الطبقة العاملة حتى تحل النزعة الإنسانية والفكر العلمي ‏محل الخرافة والوهم والميتافيزيقا والمثاليات.‏

‏” إذا كانت الطبيعة الإنسانية هي الأسمى بالنسبة للإنسان فإنه ينبغي حينئذ أن يكون أول قانون وأسماه هو ‏حب الإنسان للإنسان، الإنسان هو اله الإنسان هذا هو المبدأ العملي العظيم…” وهو ما أكد عليه ذات مرة ‏في بعض من مسوداته: “إن الفلسفة النقدية في كفاحها ضد العالم لا تقف فقط ضد هذا العالم وإنما أيضا ‏ضد الفلسفة التي كانت تسوده إلى ذلك الحين” . “ماركس مثل بقية الهيجليين الشباب الآخرين يتصور النقد ‏في علاقة مرجعية مع الفلسفة وبالتحديد كتحقيق للفلسفة”. [8]‏

إن الإنسان لا يغترب في العالم الديني وفي دنيا الماوراء دون أسباب واقعية في المجتمع والدولة والثقافة ‏ويكفي أن يسترد هذا الإنسان مادته التي خلصها عن ذاته وجسدها في الله حتى تظهر النزعة الإنسانية ‏بجلاء، في هذا الإطار يقول ماركس:” إن إلغاء الحياة المثلى في السماء يستلزم حياة مثلى على الأرض ‏تجعل من حلول مستقبل أحسن على الأرض لا موضوعا لإيمان أجوف بل إلزاما وواجبا على الإنسان ‏تحقيقهما…”

وبالتالي فان نفي الماوراء يكون نتيجته الحتمية إقامة حقيقة العالم الدنيوي وبالتالي ينبغي أن ‏نحذف الأساس الدنيوي الذي يرتكز عليه الاغتراب الديني ولن يكون ذلك ممكنا إلا بنقد الدين ، انه وادي ‏الدموع الذي يمثل الدين هالته المقدسة ونقده يعني الهبوط من السماء إلى الأرض. ‏

في هذا السياق يقول ماركس:” إننا نريد أن نحي جانبا كل ما يتلبس مظهر ما فوق الطبيعي وما فوق ‏الإنساني لأن مثل هذا الادعاء هو مصدر كل زيف وكذب…”إن نفي الماوراء هو السبيل الوحيد لعودة ‏الإنسان إلى حياة النوع لكينونته الحقيقية وتحقق الإنسانية مصالحة مع ذاتها لاسيما وأن الدين هو علاقة ‏الإنسان بذاته أي طبيعته الذاتية.ألم يقل ماركس:” الدين حلم العقل البشري بيد أننا حتى في الأحلام قد لا ‏نجد أنفسنا في الفراغ أو في السماء بل على الأرض وفي عالم الواقع…”؟

النقد هو موضوع الفلسفة وغايتها عند ماركس وهو امتحان موضوع ما بغية تحديد قيمته ونقد الدين يعني ‏البحث عن مشروعيته الاجتماعية والسياسية من دونها وتحرير لقيم الأرض من مطلقات السماء ولاسيما ‏وأن مسار الفلسفة النقدية عوض أن يصعد من الأرض إلى السماء يهبط من السماء إلى الأرض.

إن نقد ‏الأوهام الذاتية يسبق حتما نقد الأوضاع الواقعية ولذلك فإن نقد الدين هو شرط انتقال أي جماعة من ‏اللاعقل إلى العقل ومن الأسطورة إلى التاريخ وتحقيق المنعطف السياسي الذي يسمح بتعاصر اللامتعاصر ‏وإتاحة الفرصة إلى الإنسان بأن يحتل مكانا يليق به في هذا العالم. ‏

إن نقد الدين يسير جنبا إلى جنب مع نقد كل أشكال الوعي الزائفة الأخرى لاسيما وأن الظاهرة الدينية هي ‏ظاهرة تاريخية إنسانية لا يمكن عزلها عن بقية الظواهر الأخرى.

من هذا المنطلق لا يخرج الدين عن كونه ‏نتاجا تاريخيا للبشر في ظروف حياتهم اليومية وفي وضعهم التاريخي خاصة وأنه شكل اجتماعي للوعي ‏وثيق الصلة بالحياة الإنسانية التي انبثق منها ويستمد تصوراته ومكوناته النظرية المقدسة والدنيوية من ‏حاجات البشرية الواقعية وتطلعاتهم.يلبي الدين حاجتين .

الأولى نظرية وتتمثل في فهم الصلات التي تربط ‏الناس ببعضهم البعض وبالعالم والثانية عملية وتتمثل في تأكيد سيادة البشر على حياتهم الفردية. ألم تنتزع ‏كلمة الدين أفيون الشعب من سياقها الثقافي واللغوي والتاريخي ليبالغ في استعمالها في غير المعنى الذي ‏جعلت له؟ ألم يشر ماركس هو نفسه إلى القاع الإنساني العميق في الدين وما تتضمنه لغته من رغبات ‏إنسانية وتطلعات دنيوية؟

تبعا لذلك”إن نقد الدين يخلع السحر عن الإنسان من أجل أن يفكر ويفعل ويبدع حقيقته وهو يصبح عاقلا ‏عندما يكون إنسانا مخلوعا من القداسة” وبالتالي “لا يمكن أن يختفي الانعكاس الديني للعالم الواقعي عند ‏الإنسان إلا عندما تظهر له ظروف العمل والحياة العملية علاقات شفافة وعقلانية مع أمثاله ومع الطبيعة”. ‏‏[9]‏

لقد غادر النقد مع ماركس أرض الفلسفة المثالية والتمظهرات المجردة واصطف على يسار هيجل ليدخل ‏أرض اللاهوت والتصورات الأخلاقية وينجز نفسه فعليا عندما ثار على ماهو قائم ويصبح في خدمة التاريخ ‏والفعل السياسي والاجتماعي، إن النقد يتخطى مبادئ المعرفة وقوانين المنطق وأسس الأنطولوجيا ليشمل ‏الشروط الاجتماعية والتاريخية من أجل القضاء على الأوهام اللاعقلانية والايديولوجيا المثالية ولكي يثبت ‏أن المجتمع الأرضي هو مصدر الخير وأن الإنسان حامل قيم وأن الذات يمكن أن تكون مسؤولة عن ‏وجودها في العالم.‏

‏”إن لفظ الإيديولوجيا في القاموس الفلسفي الفرنسي يمتلك دلالة سلبية. انه يفترض نوعا من التجريد من ‏درجة ثانية بإشارته إلى خطاب حول الأفكار. لكنه سيعاد له الاعتبار في الفكر الماركسي رغم بقاء دلالته ‏غامضة, انه يشير إلى الأفكار بوصفها وسائل في الفعل والسجال السياسي. هكذا نتحدث كثيرا عن ‏الإيديولوجيا البرجوازية وعن الإيديولوجيا الاشتراكية ” أو البروليتارية” وعن الصراع الإيديولوجي عندما ‏يتعارض هذان الخصمان.” [10]‏

لا يمكن تحقيق نقد الدين تماما دون الانتهاء من نقد الإيديولوجيا البرجوازية ومن نقد الفلسفة المثالية لكن ‏ماركس يذهب إلى أبعد من ذلك بضمه نقده الجزئي للدين إلى نظريته الكلية في البراكسيس لاسيما وأن ‏أوهام الاستلاب الديني لا يمكن تبديدها بمجرد نقد الدين وإنما عن طريق الثورة والتغيير الشامل للحالة ‏الاجتماعية التي ولدت من تلك الأوهام، وهذا ما نعثر عليه عند ماركس في الإيديولوجيا الألمانية في ‏قوله:”إن الثورة لا النقد هي القوة المحركة للتاريخ وكذلك للدين والفلسفة وكل الأشكال النظرية.”‏
لكن إلى أي مدى يمكن أن نعتبر ماركس صاحب ديانة جديدة؟ أو بعبارة أخرى هل ترك
للدين وظيفة ثورية ‏ممكنة في إطار الحراك السياسي الذي يعرفه أي مجتمع؟

الهوامش: ‏
‏ [1] ‏André Comte-Sponville, l’esprit de l’athéisme, introduction à une spiritualité ‎sans Dieu,Editions, Albin Michel,2006,p9‎

‏ [2] ‏Wackenheim, Ch , la faillite de la religion d’après Karl Marx, Paris, ‎PUF,1963‎

‏ [3] ‏Pierre Bigo, Marxisme et humanisme, Paris, PUF, 3 éditions, 1961‎
‏ [4] ‏Marcel neusch , aux sources de l’athéisme contemporain, chretien malgré ‎lui,Ed centurion, 1977.p77‎

‏ [5] ‏Marcel neusch , aux sources de l’athéisme contemporain, chretien malgré ‎lui,Ed centurion, 1977.p80‎
‏ [6] ‏J .f. Lyotard ,dérive à partir de marx et freud, collection 10-18,UGE ‎‎,1973,pp141-142‎
‏ [7] ‏Emmanuel Renault, Marx et l’idée de critique, Ed PUF, 1995, pp7‎
‏ [8] ‏Emmanuel Renault, Marx et l’idée de critique, Ed PUF, 1995,pp17‎
‏ [9] ‏Karl Marx, le Capital‏,‏

‏ [10] ‏Henri lefebvre, problèmes actuels du marxisme, Ed PUF,1958, pp36‎

كاتب فلسفي