23 ديسمبر، 2024 7:33 م

العامل الاقتصادي والشعور الوطني

العامل الاقتصادي والشعور الوطني

كل الذين كتبوا عن دوافع الثورات السياسية ، وبحثوا في بواعث الهبّات الاجتماعية ، لاحظوا – في الغالب الأعم – إن الطبقات الفقيرة والشرائح المسحوقة والفئات المهشمة ، هي التي كانت دائما”بمثابة الصاعق الذي فجرها والداينموا الذي حركها . لا بل إن جلّ المفكرين والمنظرين الذين قادوا تلك الثورات ونظموا تلك الهبّات ، كانوا قد قطعوا أشواطا”كبيرة في عملية الانسلاخ عن الطبقات الغنية (البرجوازية) التي ولدوا فيها أصلا”أو تحدروا منها لاحقا”، لينخرطوا من ثم ضمن صفوف تلك الجماهير المضطهدة من السلطة والمغيبة عن التاريخ ، والأمثلة على ذلك كثيرة سواء أكان على صعيد التاريخ القديم أو الحديث . وحين نتكلم عن العامل الاقتصادي وأثره في منظومة الوعي ، فإننا في حقيقة الأمر نتحدث عن دافع المصلحة الذاتية ودوره في بنية العلاقات الاجتماعية ؛ إن لجهة التجاذب والاستقرار بين المكونات أو لناحية التنابذ والاحتراب بين الطبقات . ولهذا فان كل موضوع يطرح لمناقشة الكيفية التي يتولد فيها (الشعور الوطني) في خضم الأزمات  والصراعات ، لا يعدو أن يكون ضربا”من الحذلقة الفكرية والمرافعة الخطابية ، ما لم ينطلق من أرضية (العامل الاقتصادي) الذي لا يحدد فقط مواقف الأفراد والجماعات حيال قضايا الحياة المطروحة فحسب ، وإنما يؤطر سلوكياتهم وينمذج تصوراتهم وينمط قيمهم . ولعل ما كتبه ذات مرة الفيلسوف الألماني المشهور (لودفيغ فيورباخ) قد لامس الحقيقة الانطولوجية حين قال (( إذا لم تكن لديك بسبب من الجوع والبؤس ، أي مواد غذائية في الجسم ، فليس لديك أيضا”أي غذاء للأخلاق لا في رأسك ، ولا في مشاعرك ، ولا في قبلك )) . في حين نجد أن الأديب الفرنسي المعروف (أناتول فرانس) كان قد عبر عن ذات الحقيقة بأسلوبه الأدبي قائلا”(( إن البشر يكونون أقل توحشا”عندما يكونون أقل بؤسا”، وان أوجه تقدم الصناعة تحتم على المدى الطويل بعض التلطيف في طباعهم . لقد أخبرني أحد علما النبات إن الزعرور الذي ينقل من تربة جافة إلى أرض غنية يغير فيها أشواكه إلى ورود )) . صحيح كل الصحة إن الإنسان – خلافا”لكل الكائنات التي يشاطرها محيطه – لا يحيى فقط على رغيف الخبز ، وانه بحاجة – لكي يعيش حياة تتوافر فيها شروط الأمان الإنساني والكرامة البشرية – إلى مقومات أخرى روحية / رمزية لا تقل ضرورة – إن لم تعتبر أكثر أهمية في بعض الأحيان – عن المقومات المادية / واقعية . ولكن من الصحيح أيضا”، بالمقابل ، إن تلك المقومات سوف تفقد بريقها في وجدانه ويتلاشى معناها في ذهنه ، طالما أنها باتت مؤسسات مشخصنة تخدم مصالح البعض ضد البعض الآخر من جهة ، وأضحت خطابات مؤدلجة تعكس روى هذا الفريق على حساب ذاك من جهة أخرى . ولأنه كائن (يعي) طبيعته الاجتماعية و(يدرك) حاجاته الاقتصادية ، فان بارومتر ولاء الإنسان سيكون شديد الحساسية إزاء الفوارق الاجتماعية والتمايزات الاقتصادية ، التي يرى أنها تهضم حقوقه ويعتقد أنها تهدد مصالحه ، لاسيما وأن أقرانه ممن يشاطره (المواطنة) ينعمون بخيرات وطنه على حساب تعاسته ، لا لشيء إلاّ لكونه قد يختلف عنهم بالدين / المذهب ، أو القومية / الاثنية ، أو المنطقة / الجهة ، أو القبلية / العشيرة . ولذلك بقدر ما ترتفع نبرة الدعوات الرامية إلى تغليب الشعور الوطني على النعرات الهامشية ، وبقدر ما تتعالى الصيحات المتوخية إعطاء الأولوية للهوية المعيارية قبل الهويات الفرعية ، دون أن يلمس المستهدف منها سوى استغلال انتماءاته التحتية ، وتوظيف ولاءاته الجانبية ، واستثمار أصواته الانتخابية ؛ إما لتمرير موقف سياسي لهذه الجهة أو تلك ، أو لتعزيز مكاسب حزبية لهذا الطرف أو ذاك . بقدر ما سيلعن المجتمع الذي ولد فيه وتربى في كنفه ، ويكفر بالوطن الذي ينتمي إليه ويحمل هويته ، ويطيح بالرموز التي كان يجلها والقيم التي كان يتغذى عليها . إذ لا شيء أصعب على الإنسان من أن يشعر بالغربة وهو بين أهله ، ولا شيء أكثر مرارة من أن يتجرع الهوان وهو في وطنه . والحال ما المسوغ الذي يحمله على التغني بالمشاعر بالوطنية ، وهو يعاني شظف العيش اليومي ويتألم من لسعات الحاجة المستديمة ، في وطن تحسده أمم الأرض وشعوبها على سخاء ثرواته ؟! . وما الوازع الذي يحثه لكي يلهج بمكونات هويته العراقية ، في الوقت الذي ما برح يدفع فاتورة تمسكه بها والدفاع عنها ذبح يومي لأبنائه وتشريد مستمر لعائلته ؟! . وما الدافع الذي يشده لكي يحافظ على مقومات شخصيته الاجتماعية ، في الوقت الذي تغمط حقوقه وتهان كرامته ويستباح مصيره وتهدر حياته ؟! . والأنكى من ذلك انه بات على قناعة تامة بان تلك الدعوات الطوباوية والخطابات السياسية ، بدلا”من أن تخلق له نعيما”ينتشله من بؤسه ويغدق عليه بخيراته ، فإذا بها تمعن  بزجه في أتون جحيم مستعر لا تسلم من شروره حتى أجياله المقبلة . ولهذا فان كل المحاولات التي تبذلها السلطات الحكومية وكل المناشدات التي تطلقها المرجعيات الدينية والاجتماعية وكل المبادرات التي نطرحها المؤسسات الاجتماعية ستذهب سدا”كما الصرخة في واد أجرد ، ما لم يضع أصحابها باعتبارهم إن المطالبة بمراعاة الامتثال للرموز الوطنية ، والتمسك القيم الدينية ، والاحتكام للمثل الأخلاقية ، لن تنفع ولا تجدي فتيلا”. طالما أن فساد المسئولين السياسيين يأكل يابس المواطن وأخضره ، وطالما إن زعماء القتل وتجار الموت يمسكون بخناقه ويعبثون بمصيره . فالوطن قبل أن بزج في أتون السياسة ويصبح سلعة تباع وتشترى في سوق المساومات الحزبية والتجاذبات الطائفية ، كان ملجأ دافئا”وملاذا”حميما”يحمي أبنائه من مظاهر العوز والفاقة ، بحيث يأمنهم من خوف ويطعمهم من جوع . ولذلك فالخطاب القرآني كان صريحا”حيال هذه المسألة حين ذكر في سورة (البقرة) الآية (126) ، على لسان النبي إبراهيم عليه السلام ما يلي (( رب اجعل هذا البلد آمنا”وارزق أهله من الثمرات )) صدق الله العظيم .

 [email protected]