23 ديسمبر، 2024 8:34 م

العامل الآلي … ومستقبل العمل المأجور ….؟؟

العامل الآلي … ومستقبل العمل المأجور ….؟؟

يتسارع استخدام التكنولوجيا الرقمية في مختلف النشاطات الانتاجية الصناعية والزراعية وفي الخدمات بغالبية أصنافها. وما يثير قلق الاقتصاديين والباحثين الاجتماعيين ان هذا التسارع غير المسبوق في وتيرته وتطوره معبرا عنه بالعامل الآلي يتم على حساب العامل البشري. فهذا الأخير يصبح يوما بعد يوم موضوع تنافس حاد مع العمل المؤتمت في مجالين مهمين ، الأول – في جانب نوعية السلع المنتجة والثاني – في تكلفتها حيث تتطوران في غير صالح العمل المأجور. وبنتيجة هذا تتحول فروعا انتاجية مادية وخدمية كثيرة من الاستخدام كثيف العمل ( العمل المأجور) الى الاستخدام كثيف رأس المال (الروبوت) مما أدى الى تزايد معدلات البطالة بين القوى العاملة البشرية وهذا بالضبط ما يقلق العاملين بأجر الذين لم يستغنى عن خدماتهم بعد وأولئك الباحثين عن العمل دون جدوى.

التقدم التكنولوجي الذي عبرت عنه المكننة نهاية القرن التاسع عشر كان الظاهرة الأبرز في تلك الفترة من التاريخ فحينها كانت الزراعة القطاع المهيمن في الاقتصاد العالمي. ففي الاقتصاد الأمريكي كان 40% من قوة العمل البشرية تعمل وتعيش من العمل المزرعي يعاونهم 22 مليون حيوان مزرعي في مجالات حراثة الأرض والتنقل ونقل الأسمدة والمعدات والمحاصيل وغيرها. وبعد مرور قرن من الوقت انخفض عدد العمال الزراعيين الى 2% فقط اجمالي قوة العمل الأمريكية وتم الاستغناء عن جميع الحيوانات المزرعية ، حيث حل محلها 5 ملايين تراكتور متعدد المهام تعمل بوقود الديزل فأصبحت الزراعة أوفر انتاجا وأعلى ربحا وأقل مشقة. بنفس الوقت الذي تحول فيه العمال الزراعيين الى القطاع الصناعي والخدمي في المناطق الحضرية التي بدأت في التوسع والتقدم بنفس الوتيرة. وخلال الحرب العالمية الثانية كانت الصناعة توظف 40% قوة العمل المأجور خارج قطاع الزراعة انخفص عددها خلال السبعين عاما التي تلت الحرب الى 9% فقط وما يزال عددها يتناقص. ( 1)

لكن الخطر الماثل حاليا وفي المستقبل هو العامل الآلي (الروبوت ) الدي يزحف بسرعة نحو مواقع الانتاج الواحد بعد الأخر مهددا بالبطالة ليس قوة العمل غير الماهرة بل قوة العمل الماهرة أيضا. ويجري استثمار أموالا طائلة في انتاج أجيال جديدة من العمال الآليين للقيام بمختلف المهام بما فيها تلك التي يتعذر على العامل البشري القيام بها لخطورتها ودقتها. ففي الصين الشعبية يوجد مقابل كل عشرة آلاف عامل بشري 30 روبوتا وفي اليابان 323 روبوتا وفي كوريا الجنوبية 437 روبوتا وفي المانيا 282 روبوتا وفي أمريكا 152 روبوتا. وبحسب شركة الأبحاث التكنولوجية الأمريكية IHS فان مبيعات الصين من الروبوتات ستصل الى 211000 روبوت عام 2019 مقارنة بـ 55000 ألف روبوت بيع عام 2014 وسيكون هذا بالطبع على حساب قوى العمل البشري. (2)

في هذا العام 2015 أعلنت الشركة الصناعية الصينيةShenzhen Evenwin Technology    انها ستتخلى قريبا عن 90% من عمالها الـ1800 ليحل محلهم الروبوت أما العمال الباقون فسيبقون في الخدمة للاشراف على عمل الربوت ، وهذه واحدة فقط من آلاف الشركات الصينية التي تنوي التحول الى الأتمتة الرقمية الجديدة. ويتوقع الاقتصاديون بان 47% من القوى العاملة حاليا سيحل محلها الروبوت وان كثيرا من المهام التي يقوم بها ذوي الياقات البيض سيقوم بها الروبوت مثل اعمال المحاماة والمحللين الماليين ومعدي التقارير وكتابة السمفونيات وفن الرسم. أما مهنة التعليم والرعاية الصحية فستبقى في بعض الدول الصناعية لفترة مستثناة من الآتمتة قبل أن يحل الروبوت بالتدريج محلها دون أن ينفي ذلك ان دولا صناعية أخرى قد حلت الروبوت محل العمل البشري في مثل هذه الخدمات . ففي اليابان مثلا يستخدم الروبوت في المستشفيات لمساعدة كبار السن على القيام والجلوس في الكراسي المتحركة ، لأن الروبوت يقوم بهذا العمل بأقل تكلفة من العامل المأجور ولهذا السبب فانه ينتشر. ويتوقع ان يقوم الروبوت المستقبلي بدور الحيوان المنزلي (القطة أو الكلب مثلا)  أو القيام بأعمال البيت كاعداد الطعام وتنظيف البيت والحمام  وحتى عملية الجنس.

 المتخصص الأمريكي في صناعة أجهزة الكومبيوتر مارتن فورد (3)  يتوقع ان ترتفع نسبة البطالة الى 75% نهاية القرن الحالي وان المهن التي ستنجو من البطالة هي فقط تلك المتخصصة في التكنولوجيا الرقمية. لهذا فان التفاوت الطبقي وعدم المساواة الاجتماعية فستزداد وسيكون تأثير ذلك على النمو الاقتصادي واضحا وما سيواجه العالم بنتيجة ذلك هو كارثة ليست كالكوارث الناتجة عن سخونة الغلاف الجوي أو الكوارث الطبيعية الأخرى ، بل بسبب التغيرات التكنولوجية المتسارعة التي يصعب على الاقتصاديين والمجتمع التنبؤ بها. فالبطالة بنسبة 10% التي عانت منها غالبية الدول الصناعية أثناء أزمة الرهن العقاري2007 – 2008 لاتشكل غير خمس نسبة البطالة المتوقعة في المستقبل.

ان عقول أغلب الاقتصاديين في الدول الرأسمالية تفكر وتنظِر ( بكسر حرف الظاد) رأسماليا وهم لذلك لا يخرجون عن افتراضات أفضلية اقتصاد السوق. فهجرة رؤوس الأموال الى الدول الأخرى واستخدام العامل الالي بدل العامل البشري في رأيهم أداتان شرعيتان لتحقيق أقصى الارباح وبناء عليه لا ينبغي تحميل الرأسماليين والنظام الرأسمالي مسئولية ما يتعرض له العمال بنتيجة تلك الأدوات. ولهذا لم يوجهوا في معالجاتهم الفكرية لمعضلة عمالهم المتعطلين النقد لحكوماتهم عن لا أباليتها تجاه هذه الهجرة وعن  تبعات تسريح العمال من وظائفهم دون تأمين مصادر بديلة تؤمن لهم ولأطفالهم حياة كريمة. ويلاحظ أيضا على أولئك الاقتصاديين حساسيتهم المفرطة تجاه موضوع زيادة دور الدولة الاقتصادي في حياة المجتمع كأن تكون لها مؤسساتها الاقتصادية لايجاد نوع من التوازن بين دورها كمدافع عن مصلحة المجتمع ودورها في ضمان حرية نشاط رجل الأعمال. فمنذ الثورة الصناعية الأولى لعبت الدولة دور المدافع عن حرية تحقيق الارباح بما فيها الهيمنة على دول أخرى واستغلال مواردها الاقتصادية دون مراعاة لمصالح شعوبها.

ومن هذا المنطلق حاول الاقتصادي الأمريكي الأستاذ بول كروكمن الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد معالجة مشكلة العاطلين عن العمل التي يتسبب بها الاستخدام المتزايد للعامل الألي. فيذكر بهذا الصدد في مقال له في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية ان الشركات التي استعاضت عن العمل المأجور بالروبوت تحقق أرباحا طائلة  من وراء ظهر العمال الذين تم التخلي عنهم وهم ليسوا قليلي المعرفة بل من حملة أعلى الخبرات التي حصلوا عليها نتيجة التعليم والتخصص وهي مكلفة. العمال الذين تم الاستغناء عنهم لم يعودوا قادرين على ايجاد عمل وان المهن التي غادروها أما حل محلها الروبوت أو غادرت الى دول اخرى كالصين والهند وتايلاند والفلبين وغيرها من الدول الصاعدة. يقترح كروكمن كحل لمشكلة هؤلاء العمال استحداث منافع اجتماعية تضمن لهم حياة كريمة يجري تمويلها من خلال الضرائب التي تفرض على الشركات التي تستخدم الروبوت بدل العمل المأجور وتحقق ارباحا عالية. ويقترح أيضا تخفيض ساعات العمل الأسبوعية من 40 ساعة حاليا الى 30 ساعة في الأسبوع إذ سيجبر هذا الشركات والمشاريع الانتاجية على استخدام المزيد من الأيدي العاملة لتعويض الساعات المفقودة خلال الأسبوع. لكن العمل ساعات أقل سيعود بدخل اقل على العاملين مما سيقلل الرغبة على الانفاق بمعنى آخر خفض الاستهلاك ولهذا الأخير تاثير سلبي على الاقتصاد في حين زيادة الاستهلاك تساعد في زيادة الناتج القومي.

لم يستعر كروكمن ولا غيره أي من أدوات السياسات الاقتصادية الاشتراكية لمعالجة التبعات الناتجة عن الاستخدام غير الممنهج للتقدم التكنولوجي. ومعلوم ان اخضاع أي نشاط اقتصادي لخطة اقتصادية وطنية يجنب المجتمع الأضرار التي تنتج عن سوء توزيع واستخدام وتطويع التكنولوجيا الجديدة. ان الأولوية في التخطيط هي مصلحة المجتمع بينما يشكل أقصى ربح الذي يسعى له أرباب العمل الأولوية على مصلحة المجتمع وهو السائد حاليا ولذلك لا توجد أية قيود على حرية الشركات الكبرى في اختيار وتطبيق التكنولوجيا المتقدمة غير مبالية بالمصير البائس الذي تدفع اليه ملايين العمال الذين يتم تسريحهم من وظائفهم بعد أن حلت الروبوتات مكانهم. لأن المخططين بنفس الوقت الذي يقررون فيه استخدام العمال الآليين يخططون أيضا لاعادة توزيع قوى العمل الفائضة على مواقع انتاجية وجغرافية أخرى يضمنون لهم دخلا مجزيا يكفل لهم ولاطفالهم الحياة المستقرة التي يستحقونها وفي الوقت نفسه يضمنون القوة الشرائية اللازمة لاستهلاك وفرة الانتاج الناتجة عن استخدام الروبوتات.

لكن هناك بعض الاقتصاديين من لا يرى المخاطر التي يشكلها استخدام التقدم التكنولوجي على فرص العمل التي أشرنا لبعضها في السطور السابقة. فالأستاذان مارك مورو وسكوت انديز(4) يعتقدان أنه ليس من الضروري أن يؤدي استخدام الروبوت الى بطالة واسعة ويوردان لذلك مثال ألمانيا. فألمانيا أدخلت الروبوت في الاستخدام الصناعي أكثر من اي دولة صناعية أخرى في الفترة 1993 – 2007 حيث فقد على إثر ذلك 19%  من العمال الصناعيين وظائفهم وكذا الحال في ايطاليا وفرنسا وكوريا الجنوبية في حين فقد 33% من القوى العاملة في أمريكا بالرغم من استخدامهم الروبوت بنطاق أوسع منها. ويذكر الكاتبان ان دخول الروبوت في الصناعة قد زاد من استخدام العمال متوسطي وقليلي المهارة فليس من الضروري أن تزداد البطالة مع اشاعة استخدام الروبوت. بل هناك مؤشرات على زيادة استخدام العمل المأجور وتحسين الأداء الاقتصادي وتشجيع الآبتكار والتجديد وزيادة الانتاجية لسنين طويلة قادمة بالاضافة الى تغيرات اجتماعية ايجابية. ان للروبوت في رأي الاستاذين مونرو وأنديز تأثيرعلى استخدام العمل البشري ، لكن مدى ذلك التأثير ووضوحه يظل مجالا مفتوحا للتقييم سلبا أو ايجابا. فالأتمتة المتقدمة ستأخد وقتا حتى يتم استيعابها وقد تتباطأ هنا وهناك.

لكن بصرف النظر عن الآراء المتفائلة هذه فان هناك حقيقة تزداد وضوحا من يوم ليوم وهي ان استخداما متزايدا للعامل الآلي يجري على نطاق واسع في الدول الصناعية لأنه أقل تكلفة من العمل البشري وبنتيجة ذلك يتزايد عدد العاطلين عن العمل ولهذا تبعاته الاقتصادية والاجتماعية التي تتطلب المعالجة وايجاد الحلول. فهل توقع أحدنا حلول اليوم الذي لن تجد السلع في الأسواق من يقتنيها حتى بأبخس الأسعار بسبب البطالة الواسعة.؟ فمع سيادة استخدام الروبوت في أكثر مواقع الانتاج سيزداد الانتاج السلعي وفرة بنوعية عالية وبأسعار متدنية بسبب قلة تكاليف عمل الروبوت وانتاجيته العالية مقارنة بالعمل البشري وبنتيجتهما يرتفع هامش الارباح التي يحققها أرباب العمل. لكن في ظل تزايد اعداد العاطلين عن العمل الذين أزاحهم العامل الآلي من وظائفهم فلن تكون القوة الشرائية المتاحة في السوق كافية لاستيعاب المعروض من السلع رغم انخفاض أسعارها فمن لا دخل لهم لا قوة شرائية لديهم لاقتناء السلع.

 فالطلب على سلعة من السلع مادية أو خدمية لا يعتبر بحد ذاته حافزا على الاستثمار وزيادة الانتاج مالم يكن مسنودا بقوة شرائية كافية تضمن لارباب العمل الربح الدي يسعون اليه . العمل المأجور هو مصدر تلك القوة الشرائية التي تدفع الناس الى اقتناء السلع بقصد استهلاكها في حين لا تمتلك الروبوتات هذه القوة. ” فحينما يحول الرأسمالي جزء من رأسماله الى قوة عمل بشرية فانه لا يستفيد مما يأخذه من قوة العمل فحسب بل ومما يدفعه لها. فرأس المال ( الأجر) الذي يدفعه الرأسمالي لقوة العمل يتحول الى ضروريات الحياة التي باستهلاكها تتجدد عضلات وأعصاب وعظام وأدمغة العمال القائمين بالعمل كما يعمل على تشجيع توالد عمال جدد. بمعنى ان وسائل العيش ( الأجر ) التي دفعها الرأسمالي مقابل قوة العمل يعاد تحويلها الى قوة عمل جديدة يستغلها في ادامة انتاجه وتحقيق الأرباح واعادة انتاج رأس المال وهو الهدف الأخير للرأسمالي.” (5)

فالاستهلاك الفردي للعمال هو السبيل الوحيد للابقاء على حياتهم وتكاثرهم كجزء من الطلب الفعال من جهة واستمرارهم في العملية الانتاجية لزيادة المعروض من السلع المنتجة في السوق من جهة ثانية والتي بناء عليها يتفاعل عرض السلع مع الطلب عليها فيحقق المنتجون الأرباح وهو الهدف من العملية الانتاجية برمتها سواء تم ذلك عبر المنافسة أو الاحتكار. وفي هذا الجانب ( الاستهلاك الفردي أو الجماعي من جانب العمال ) يختلف دور العامل الآلي عن دور العامل البشري ، فهذا الأخير ينتج ويستهلك بعكس العامل الآلي الذي ينتج لكنه لا يستهلك. والسؤال بعد ذلك لمن ينتج العامل الآلي المستقبلي اذا ما تم التخلي عن قوة العمل البشرية التي تشكل قوتها الشرائية الحافز الرئيسي لانتاج السلع للسوق؟

المراجع:

1-      CHRISTOPHER  MATTHEWS,CAN ROBOT BRING MANUFACTURING JOBS BACK TO THE US, TIME,27/9/2012

2-      JAMES  HAGERTY,MEET THE NEW GENERATION OF ROBOTS FOR MNUFATURING, THE WALL STREET JOURNAL 2/6/2015

3-      MAX  NISEN, ROBOT ECONOMY  COULD CAUSE UP TO 75% UNEMPLOYMENT, BUSINESS INSIDER.COM ,28/1/2013

4-      MARK MURO AND SCOTT ANDES, ROBOTS SEEM TO BE IMPROVING PRODUCTIVITY, NOT COSTING JOBS, HARVARD BUSINESS REVIEW, 16/6/2015

5-    كارل ماركس ، رأس المال ـ الفصل الثاني والعشرون ص . 63