23 ديسمبر، 2024 5:23 م

العالم يحتفل بعيد الطفولة أطفالُنا، غداً، هل سيصفحون؟

العالم يحتفل بعيد الطفولة أطفالُنا، غداً، هل سيصفحون؟

 يحتفل العالم هذه الأيام بالطفولة، جاءت هذه الفكرة، إذ أدرك المربون والمعنيون بحياة الطفل أهمية هذه المرحلة العمرية وأبعادها المستقبلية في حياة الفرد والمجتمع. فالطفولة من عمر الإنسان تمثل الأساس الذي يبنى فيها وعليها كل ما يشكل شخصيته مستقبلاً، إذ ترسم خلالها الملامح الأصيلة للخُلق والسلوك عموماً. والشخصية تركيبة معقدة ذات مكونات مترابطة يكمل بعضها بعضاً، ويخضع جميعها لأنظمة نفسية تتصارع فيما بينها صراع الخير مع الشر، ومن يحل صراعاتها، فذلك النظام الواعي المتوازن، الذي يعمل وسيطاً عقلانياً ليقرر الصواب من الخطأ. وتتشكل شخصية الإنسان خلال تلك السنوات المبكرة من الطفولة، فكل ما يتلقاه من مثيرات، ويكتسبه من معلومات ومعارف، يسجل في ذاكرته دون وعي منه ويبقى أثره في نفسه مدى الحياة. وغالباً، فإن الطفل ينسى أحداث طفولته التي سجلتها ذاكرته ولم يعيها، وما تلقاه خلال حواسه الخمسة، إلا أن آثارها النفسية تبقى. فاللاشعور، والذي يمثل خبرات الماضي السحيق بالنسبة لمدى عمر الإنسان، يحتفظ بتلك الذكريات مطمورة، ويعمل بها أيضاً دون وعي من صاحبه نفسه، فكثير من سلوكاته لا يفهمها، ولا يعرف أسبابها ولا أهدافها، كما لا يتمكن من تغييرها، فتلك الخبرات الغابرة، تكون قد تحكمت به إلى أبعد الحدود، وسيطرت على سلوكه عقلاً ووجدانا. لذا فما نحن عليه إنعكاس لماضينا. وإن أدركنا ذلك بطريقة او بأخرى، لربما تمكنا من تعديل أو تغيير تلك الجوانب التي لا نحبذها في شخصياتنا، وهو عادة ما يكون صعباً لمن لا يعي أسباب ما هو عليه، مما قد يتطلب علاجاً نفسياً.
  وتأسيساً على ذلك كله، وفضلاً عن دور الوراثة والفطرة التي يخلق بها الإنسان، فهو ابن بيئته طفلاً أم كبيراً، والظروف التي يعيش فيها أياً كانت جيدة أم سيئة، هي ما يصنع منه بالتالي إنساناً خيراً أم شريرا. وإن عرفنا ذلك، تطلب منا التعامل مع الطفل بوعي شديد وحذر بما يتناسب مع متطلباته، وبما يضع بغاية الاعتبار أهمية مرحلة الطفولة وخطورتها.
   إن رعاية الطفل مثالها كما رعاية المرزاع الذي يحابي على زرعه ويهتم به بدءاً من اختياره للبذرة السليمة، والتربة الصالحة للبذار، ورعايته نبتته في سقيها وحمايتها من الأوبئة والحشرات الضارة..، وتقويمه لها حينما تميل بها الرياح باتجاهات خاطئة، فيسهر عليها، حتى إذا كبرت وأثمرت، صار ينعم بحصاده لثمارها، ويأخذ قسطه من الراحة بين حين وآخر، إذ تكون قد قويت وصارت قادرة على تحمل بعض ما يواجهها من مضار. هكذا هي رعاية الطفل حتى يبلغ ما يكفي من قوة العقل والجسد.
   لقد أدرك العالم قديماً وحديثاً هذه الحقائق، وأدركنا كمسلمين أهمية التربية منذ الصغر لإعدادهم للحياة الهانئة السعيدة في دنياهم، وللسعادة الأبدية في الدار الآخرة. والمسؤولية الأساسية تقع على الآباء والقائمين على رعاية الأبناء، في قوله تعالى (يا أيُها الذين آمنوا قُوا أَنفُسَكُم وأهلِيكُم ناراً وقُودُها الناسُ والحِجَارة) وما يمكن أن يكونوا عليه، هو نتيجة ما نشأوا عليه. وقول النبي الأكرم محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام (ما مِن مولودٍ إلا يُولدُ على الفِطرة، فأبواهُ يهودانهِ أو يُنصرانهِ، أو يُمجِسانهِ) كذلك ومن بعد، فتقع على المؤسسات المعنية مسؤولية التربية وإعداد الإنسان للحياة، والتي تخضع لفلسفة الدولة وتوجهاتها..، وبما توفره من ظروف ملائمة لتحقيق أهدافها التربوية. فقول النبي الأكرم (كُلكُم راعٍ وَكُلكُم مَسؤولٌ عن رَعيِتهِ) فإن كان الإنسان يولد بطبيعة خيرة، فالتربية هي من تحافظ على فطرته أو تبدلها. والتربية القاسية والظروف السيئة بأسبابها وأشكالها المختلفة، تترك آثارها النفسية والجسدية على الطفل المباشرة أو غير المباشرة، فهناك ما ينتظرهم مما احتفظ به اللاشعور، لينذر بمستقبل محبط. فلا نتوقع أقل من مخلوقات تحمل بين جنباتها الحقد والكراهية لما يحيطها، ومن تسبب في تعاستها. وقد لا يقتصر الأمر على هذا، فلربما يُمسوا أدوات خطيرة على مجتمعها عموماً، وعلى وذواتها أيضا.  
    الأطفال في بلادنا فقدوا المعاني التي نعرفها ويعرفها كل العالم عن الطفولة، حاجاتها، متطلباتها..فالحاجات الأساسية من الغذاء، والصحة، والحاجة إلى اللعب والمرح،…. والحاجة للأمان..كلها ما عادت تعبر عن نفسها. كثير من أطفالنا لا يدركون أنهم اطفال، بل مسؤولون عن أمور أكبر من قدراتهم وطاقاتهم، أما البراءة فما عاد لها في حياتهم من وجود.
   نجوب شوارعنا لنرى ذلك المشهد المتكرر، أطفال ينتشرون فيها وكأن لا مكان لهم سواه، كأنه ملاذهم ومأمنهم. الطفولة في بلادنا عذاب مبكر، وهذا العذاب بحد ذاته أحسن ما يمكن أن يحصلوا عليه من أن ينجوا من القتل بالتفجير، أو تأخذهم الفيضانات، وحين تسقط عليهم الخربات، أو تجذبهم أعمدة الكهرباء المبتلة، هذا غير التعرض لأشكال مختلفة من العنف الجسدي، والأذى النفسي في الشوارع والأزقة كما في البيوت، إن كان لهم حتى ما يسمى بالبيوت. أطفالنا اليوم صاروا أجزاء تعويضية، يعوض بها ما فقده أثرياء العالم، فتأخذ منهم بطرق مشبوهة غامضة، أو صريحة، فمن ذا الذي يسأل ومن ذا الذي يحاسب. وعندما يفقد الطفل كل ما يميز مرحلته العمرية هذه، فما بقيت له من طفولة.
   أما الأطفال الذين حظوا بنعمة رعاية الأهل والأقرباء والبيت الآمن.. فهولاء وضعت لهم فخاخ من نوع آخر ليصنع لهم نوع ما من اللا شعور. هم أفضل معاشاً، إنما ليسوا أفضل مستقبلا. هؤلاء تتوفر لهم احتياجات الطفولة بلا دراسة ولا تقوى.. تستقبل عقول هؤلاء الأطفال كل ما يمكن أن يجعل حياتهم مرفهة، إنهم الأطفال المدللون. تنتشر في أسواقنا صنوف من الألعاب والتقنيات الغريبة المصممة لأهداف ذات أبعاد اجتماعية وسياسية وعقائدية..كما يشاهد الأطفال الكثير من البرامج التلفزيونية ذات المضامين الخطيرة، تغرس ببطء في عقولهم فتشكل أرضية قوية لما ستكون عليه شخصياتهم، بطرق تفكيرهم، وأنماط سلوكهم المنحرفة. فهناك أفكار للإلحاد، وللعنصرية، وأفكار تزين القبح، وتقبح الجمال، أفكار لزرع الإنانية والفردية….وكثير مما سيأتي بثماره المُرة. هذا هو واقع الأطفال في بلادنا، هم لا يعرفون أنهم يُسرقون، وأن كثير منهم، هناك من يعمدون لإعدادهم وحوشاً بأجساد بشرية. وأدواتا لمنافعهم المشبوهة.
   أطفالنا اليوم، ماذا عنهم غداً، إن صاروا أدوات للشر طيعة يحركها من صنعها من قبل، هل سيعون أنهم كانوا يوماً أبرياء، وأنهم وقعوا فريسة للشر وصانعيه؟، هل سيدركون؟ وإن أدركوا، فهل سيصفحون عمن كانوا السبب وراء فقدهم براءتهم، مستقبلهم، حياتهم؟. وإن لم يصفحوا، ألا سيكون الحق لهم، ومعهم؟.