محاولة الكتابة عن عالم كبير من طينة ووزن الدكتور محمد اركون، تجربة مهمة وضرورية لكنها شاقة .لان فكر محمد اركون يتميز بالغزارة والموسوعية والدقة الكبيرة مما يصعب على غير المتخصصين مثلي الادعاء بالاحاطة الشاملة بفكره و مخرجاته النظرية والفكرية. لكن قررت المغامرة وركبت موج التحدي لاكتب اسطرا قليلة لا توفي الرجل ما يستحقه من دراسات ومناقشات ولكن على الاقل للمجتهد المخطئ اجر الاجتهاد . لمحمد اركون اسهامات هامة تأسيسية فيما يتعلق بفهم المنظومة الاسلامية بجميع مكوناتها ، بل انه من الداعيين الرئيسيين لإعمال منتجات الفكر العلمي النقدي لتفكيك واعادة بناء تصوراتنا وتمثلاتنا عن الفكر واللاهوت الاسلاميين خصوصا وان المنهجية الكلاسيكية التي تتكئ على الفكر الدوغمائي انتشرت واستولت على افهام الناس وحصرت تفكيرهم في مسلمات يقينية ايمانية يصعب التشكيك فيها بالنسبة للمؤمنين بها ، لذلك تصدى محمد اركون بشجاعة وبفكر تنويري تحرري في كتاباته العديدة المنتقدة للعقل الدوغمائي المسيج لاي افكار تحررية ، لذلك قال محمد اركون في بداية كتابه قضايا في نقد العقل الديني ،؟ كيف نفهم الاسلام اليوم؟ مايلي :”ان الصعوبة الكبرى التي تواجهنا هنا تكمن في كيفية تحرير العقل النقدي من القيود الابستمية و الابستمولوجية التي فرضها العقل الدوغمائي على جميع الممارسات الفكرية والثقافية التي قام بها الفكر البشري منذ انتقاله من المرحلة “البدائية” او “الوحشية” (بحسب مصطلح كلود ليفي ستروس) الى مرحلة الزراعة المدنية…… الواقع ان العقل الدوغمائي اغلق ما كان مفتوحا ومنفتحا . وحول ما كان يمكن التفكير فيه بل ويجب التفكير فيه الى ما لا يمكن التفكير فيه. ونتج عن ذلك تغلب ما لم يفكر فيه اثناء قرون طويلة على مايجب التفكير والابداع فيه “. استطاع محمد اركون بمنهجه النقدي ان يعيد صياغة تساؤلات ممنهجة عن مسلمات طالما اعتبرها العقل المستكين الى المسلمات يقينا ، لذلك استعان محمد اركون بعدة علمية تضم علم الفيلولوجيا وعلم الانثربولوجيا والسوسولوجيا وبالعلوم الانسانية الاخرى في تحليل الخطاب والنص الدينيين وفي تحليل الظاهرة الدينية وتبنى في مقاربته التحليلية ما اسماه بالتمرد العقلي ضد الممارسات الاعتباطية للعقل والاعراض عن قوانين البحث العلمي . “لقد سبقنا ابو حيان التوحيدي الى مثل هذه الاشارات والتنبيهات ، واظهر دور التمرد العقلي ضد الممارسات الاعتباطية للعقل ، والاعراض عن قوانين البحث العلمي المعتمد على المناظرة المتقيدة بشروط علمية واخلاقية واجتماعية مضبوطة.رحم الله ابا حيان الذي علمني القيمة الفكرية للتمرد العقلي اذا ما ضاق المجال امام الممارسة الهادئة و”المنهاجية ” للعقل.”
بذل الدكتور محمد اركون جهودا مضنية من اجل انجاز نقلة نوعية في الفهم العلمي للدين الاسلامي حيث ناضل ضد الاطروحات الجاهزة والتصنيفات الكلاسيكية المكررة والمفاهيم السطحية الشائعة و طالب بقراءة علمية للنص الديني وفي صلبه القران الكريم لذلك دعا في عدد من كتاباته الى عدم ادعاء احتكار فهم النص القراني وادعاء استنفاذ كل معانيه وفهمه فهما مطلقا متعاليا عابرا لكل الازمان والحقب ، يقول محمد اركون :” لقد آن الاوان لكي “يقرأ” المسلمون القران ، لكي يفهموه على حقيقته ، لكيلا يقولوه ما لا يريد قوله ، آن الاوان لان يكفوا عن اسقاط هلوساتهم السياسية عليه ،لان يعترفوا به ككتاب ديني اولا وقبل كل شئء .آن الاوان لان يروه في نسيجه اللغوي الحقيقي القائم على الرموز الرائعة والمجازات المتفجرة التي تسحر الالباب.”…وبالتالي فالخطاب المجازي او الرمزي لا يمكن اختزاله الى معنى احادي الجانب ، لا يمكن سجنه في قوالب جامدة كما فعل الفقهاء والمتكلمون والمفسرون الكلاسيكيون فيما بعد وذلك لتلبية حاجات المجتمع المفهومة في وقتها.” ولكنهم اذا اخذوا المعنى المجازي على اساس انه حرفي اعتقدوا انهم استنفدوا المعنى وهم لم يستنفدوه وانما قيدوه.”
هنا يطرح سؤال محوري وجيه ؟، هل اكتفى الدكتور محمد اركون بنقد الموروث الديني ام انه اقترح بدائل عملية للخروج من حالة الانحباس النظري والتفسخ السياسي الذي بني عليه هذا الانحباس ؟ .
الحقيقة ان المرحوم محمد اركون قام بمجهود نظري و اسهام واضح في تقديم اجوبة عن كيفية الخروج من المازق الذي اوقعنا فيه العقل السكولاستيكي التقليدي ، حين اعتبر اركون ان المهمة العاجلة امامنا هي :” اعادة قراءة كل التراث الاسلامي على ضوء احدث المناهج اللغوية ، والتاريخية ، والسوسيولوجية ، والانثربولوجية (اي المقارنة مع بقية التراثات الدينية ، وبخاصة ما حصل في الغرب المسيحي) .ثم القيام بعدئذ بتقييم فلسفي شامل لهذا التراث لطرح ما اصبح ميتا فيه ومعرقلا لحركة التطور ، والابقاء على العناصر الصالحة من اجل استخدامها في البنيان الجديد.”
لا يمكن فهم واستيعاب الفكر التنويري والحداثي للمفكر محمد اركون دون التعرف على الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية التي اثرت في بناء شخصيته منذ ولادته وطفولته في قرية تسمى عين العربا بمنطقة القبايل الامازيغية بالجزائر اثناء الاحتلال الفرنسي للجزائر ، حيث تأثر المرحوم محمد اركون بمفكرين امازيغيين كبيرين نقشا اسمهما في سجلات الادب الامازيغي المقاوم باللغة الفرنسية ويتعلق الامر ب مولود معمري صاحب رائعة “la colline oubliéeالذي اعاد الاعتبار للذاكرة الجماعية القبايلية وعبر عن روح ثقافة لا يمكن اماتتها او محوها وكذلك الكاتب مولود فرعون صاحب الابداع الادبي المتميز le fils du pauvre. كما ان الدكتور محمد اركون تاثر بعدد من كبار المفكرين منذ تعيينه استاذا مساعدا في السوربون سنة1962 كمبرز في اللغة والاداب العربية ، من هؤلاء المفكرين المؤرخ بروديل وخاصة اهتماماته بتاريخ المتوسط وهي اهتمامات تتقاطع مع انشغالات الدكتور محمد اركون كما انه تاثر بنقاشات وكتابات بول ريكور وخاصة المنشورة في المجلة الفرنسية الذائعة الصيت esprit كما انه استفاد من المنهج التفكيكي لجاك دريدا خصوصا في اسهاماته النظرية في نقد التقاليد الميتافيزيقية و كان لكتابات ونظريات ميشيل فوكو وفتوحاته الابستيمولوجية وقطائعه المعرفية التاثير الكبير على فكر ومنهجية الدكتور محمد اركون. . يقول محمد اركون في استجواب اجراه مع الباحث رشيد بن الزين مايلي : “oui, l’un des changement les plus important dans ma propre évoultion fut certainement du a Michel Foucault ,a la rupture dans son approche épistémologique. ».
سيظل المفكر محمد اركون حاضرا بيننا بفكره التنويري ومقارباته التحليلية العلمية و سيبقى نبراسا تهتدي اليه كل الارادات الباحثة عن ارساء ثقافة ديموقراطية متحررة من اسار الخرافة والتضليل والتبجيل ، حيث ان فكر اركون يمكن الباحثين والمهتمين وصناع القرار الثقافي والفكري من الاطلاع على المخفي والمغيب واللامفكر فيه في الثقافة والتراث الاسلامي ويعطي للاجيال اللاحقة ارضية فكرية ونظرية صلبة لبناء عقل متحرر يستطيع مسألة اليقينيات و تفكيك الافكار والمسلمات الجاهزة وبناء ثقافة علمية قادرة على انتشالنا من التخلف والنكوص والتبعية بكل اشكاها.
المنسق الوطني للعصبة الامازيغية لحقوق الانسان
باحث في قضايا التنمية والديموقراطية وحقوق الانسان
دبلوم السلك العلي في التدبير الاداري من المدرسة الوطنية للادارة-الرباط-
دبلوم المدرسة الوطنية للدراسات السياسية
دبلوم المعهد الدولي لحقوق الانسان ستراسبورغ