23 ديسمبر، 2024 4:27 ص

العالم بين الأزلية والإحداث عند كانط

العالم بين الأزلية والإحداث عند كانط

” إذا حاول العقل أن يقرر فيما إذا كان العالم محدودا، أو لانهائيا من حيث المكان، فسيقع حتما في تناقض وإشكال، فالعقل مسوق إلى التصور بأن وراء كل حد شيئا أبعد منه، وهكذا إلى ما لانهاية له. ومع ذلك فإن اللانهاية في حد ذاتها شيء لا يمكن إدراكه”

كانط، نقد العقل المحض،

يطرح كانط الإشكال التالي:هل العالم أزلي أم له سبب أحدثه؟

في البداية العالم من حيث هو نسق مكتمل من الواقع هو وهم من أوهام العقل يصعد بشكل غير مشروع من خلاله من الشرطي المعطى إلى اللاّشرطي المفترض أي بعبارة ابن رشد يقيس الغائب على الشاهد.

العالم لا يمكن معرفته بطريقة استدلالية بالانطلاق من مبادئ ميتافيزيقية لأن ما يمكن معرفته هو الكون أي الظواهر المكانية والزمانية غير المعروفة التي يوحدها الذهن بواسطة مقولاته القيلية دون أن يصل بها إلى الوحدة النهائية. لكن اذا جاز الحديث عن عالم فيزيائي ومقاربة معرفية للعالم في الفلسفة النقدية عند كانط التي تحاول التأليف بين مقولات الذهن ومعطيات التجربة،

من جهة أخرى يخضع كانط في كتاب نقد العقل المحض ظاهرات العالم بماهو فكرة كوسمولوجية الى المعالجة الريبية التي تطرحها الأفكار الترسندنتالية الأربع ويظهر وقوعها في جملة من النقائض المحتمة.

” تلك هي حقا الحالة مع مفاهيم العالم ولعلها لهذا السبب بالضبط تدفع العقل، طالما هو معلق بها، الى نقيضة محتمة:

أولا- لو افترضنا أن العالم ليس له بداية فإننا نقوم بتراجع متتال يبلغ الأزل المنقضي ، ولو سلمنا بأن له بداية كان من الضروري أن يفترض البدء زمنا يتقدمه . أما من جهة السؤال عن كم العالم فإن القول بكونه لامتناهي ولامحدود يفضي إلى الإقرار بأنه كبير جدا بحيث يصعب على الذهن البشري تصوره ، ولو قلنا بأنه متناهي ومحدود لكان صغير جدا وقريب من المكان الفارغ والمانع لكل تجربة ممكنة.

ثانيا- إذا كانت كل ظاهرة في المكان أي كل مادة تتألف مما لا يتناهى من الأجزاء فإن تراجع الانقسام هو أبداء كبيرا جدا على الأفهام. وإذا توقف الانقسام المكاني عند نقطة بسيطة فإن هذا التراجع سيكون صغيرا جدا على فكرة اللاّمشروط التي يتميز بها العالم وبالتالي يفسح المجال للتراجع نحو عدة أجزاء كامنة فيه.

ثالثا- اذا سلمنا بأن ما يحدث في العالم هو نتيجة قوانين الطبيعة ، فإن سببببية السبب هي بدورها شيئا يحدث ، وسنرغم على الصعود أثناء التراجع ضمن سلسلة الشروط حتى أسباب أعلى من دون توقف. أما إذ قلنا بأن العالم يتكون من مجموعة من الأحداث تكون محدثة بحرية وتلقائيا ، فإن العقل البشري سيهتم بالعثور على سبب وفق حتمية وجود قانون للطبيعة ولو جاء في صورة الاقتران الضروري بين الأحداث.

رابعا- لو سلمنا بكائن ضروري إطلاقا سواء كان العالمَ نفسه أو شيئا في العالم أم علة للعالم، فإننا سنضعه في زمن بعيد بلانهاية وإلا خضع لوجود آخر أقدم عصي عن الفهم ولا يمكن قط الوصول إلى إدراكه. من جهة مقابلة لو كان كل ما ينتمي الى العالم ( مشروط أو شرط) حادثا، فإن كل وجود معطى سيكون صغيرا جدا ولا يمكن إدراكه بالفهم البشري وسيضطر إلى البحث عن وجود آخر يخضع له. الخلاصة: أن فكرة العالم هي ، في جميع الحالات، هي صغيرة جدا على التراجع الخبري وعلى كل مفهوم ذهني.

النتيجة: التجربة الممكنة هي وحدها قادرة أن يعطى لمفاهيم (العالم) واقعا ومن دونها ليس أي مفهوم سوى فكرة دون حقيقة واقعية وليست له أي صلة بأي موضوع خارجي. كما أن الأفكار الكسمولوجية هي مؤسسة على مفهوم فارغ ومتخيل وحسب وعن الطريقة التي بها يعطى لنا موضوع هذه الأفكار.

(عمانوئيل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، دار الانماء القومي، بيروت، طبعة ، صص253-254-255.

“إن كل شيء في العالم المحسوس ذو وجود مشروط تجريبيا، وليس فيه أي محل بالنظر الى أي خاصية أي ضرورة لامشروطة…لا يتضمن العالم الحسي سوى ظاهرات، لكن هذه مجرد تصورات هي بدورها أبدا مشروطة حسيا، وبما أنه ليس لدينا البتة أشياء في ذاتها كموضوعات، فانه ليس مخول لنا القفز إلى الخارج والمغادرة للبحث عن علة لوجودها… ولا يؤدي إلى تراجع تجريبي يعين الظاهرات.” ص284.

لقد عمل كانط على التقليل من قيمة الخلق الالهي للعالم والرفع من شأن الخلق الاستيطيقي للأعمال الفنية وذلك في كتابه نقد ملكة الحكم بعد أن بين في كتاب نقد العقل المحض المزاعم الخاطئة التي تمسكت بها الكوسمولوجيا والتيولوجيا العقلانية واستحالة اعطاء مضمون ايجابي الى فكرة الخلق وتعذر الصعود الى مفهوم الاله الخالق والاكتفاء بفكرة مهندس العالم architecte du monde أي الاله المنظم أو الموجه.

لقد رفض كانط كليا مسألة خلق العالم والإله الخالق في الجدلية المتعالية وخاصة في لعبة النقائض وكان الحل الذي ارتضاه لمشكل الخلق يرتكز على تفسير السبب الذي يجعل المشكل لا يملك أي حل وبالتالي يدعو إلى إتباع الاستعمال المشروع للعقل الذي يسند له وظيفة توجيهية للبحوث التي يقوم بها الذهن.

من تبعات النقد الكانطي هو بروز النظريات التطورية والمادية والوضعية وتأكيدها بصفة مجتمعة على أن مسألة خلق الله للعالم اتضح أنها غير صالحة من الناحية التاريخية وغير ممكنة من الناحية النظرية.

فهل يمكن اعتبار الخلق الفني للعالم الذي ينسب إلى الله بالمعنى الكانطي هو بمثابة خلق نسبي للعالم؟

المرجع:

عمانوئيل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، دار الإنماء القومي، بيروت، طبعة 1989.