الحديث عن تأثيرات ثورة الياسمين في تونس، يحتاج إلى الكثير من التحليل والى النظر بروية إلى ما يمكن أن يشهده العالم من تحولات في السياسة والإستراتيجيات والاتفاقات والأحلاف الدولية، ولعل مراكز ومعاهد الأبحاث العالمية مهتمة بدراسة التأثيرات الاجتماعية التي يمكن توقع حدوثها مع أزمات سياسية أو اقتصادية أو حتى كوارث طبيعية تحدث مستقبلا، وهذا ليس بغريب فالإحداث الكبرى التي تزلزل الثوابت السياسية والاجتماعية غالبا ما تجبر الباحثين على تتبع حركة المجتمعات، ولعل ذاكرتنا نشطة بما يكفي لنتذكر، كيف غير انهيار جدار برلين عام 1989 الخارطة السياسية الدولية وأدى بالنهاية بعد سنتين من ذلك إلى انهيار الاتحاد السوفيتي القطب الكوني الشرقي وكأنه بنيان من ورق، وانتهى بصمت عهد الحرب الباردة الذي استمر قرابة خمسة عقود، وبدا الحديث حتى من قبل اليساريين الذين كانوا يرون فيه قبلتهم عن الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها قادة اليسار أولا، ثم بدئوا بانتقاد الفكرة والنظرية الشيوعية، رغم أن المتفهمين للفكر الماركسي وخصوصا التنويريين منهم كانوا قد حددوا مكامن الضعف المتعلقة بالتطبيق وببعض تفاصيل الفكر الماركسي وليس النظرية بشكل عام، ولكن اليسار العربي رغم ضعفه، حاول أن يجد له مكانا في الحراك الشعبي إلا إن المال الخليجي وقرار الغرب بعدم إعطاءه الفرصة الممكنة أدى إلى سحب البساط من تحت أقدامه خصوصا في سوريا بل أدى ذلك أيضا إلى إجهاض المحاولة الروسية لدعمه، ومثله أيضا كان مصير التيار القومي الذي رفع الراية البيضاء أمام الأحزاب المذهبية والطائفية التي طالما حاربها وقمعها واسكت أصوات الناشطين فيها.. وبغياب اليسار وهزيمة القوميين أصبح الفضاء متاحا للتيارات الدينية كي تتسيد الموقف وتقود الربيع العربي بقوة ودعم أموال الخليج ورضا الغرب الذي اضطر للتعامل معها ولكنه أيضا، يعرف كيف يمكنه الاستفادة منها على المديات القريبة والبعيدة..
وعلى أية حال فان الذي جرى في تونس يشابه في جوهره إلى حد بعيد حركة الجماهير التي أسقطت جدار برلين بعد أكثر من ثمانية وعشرين عاما على بناءه، غير أن الفارق الوحيد هو أن الشعب في الألمانيتين عرف كيف يستفيد من هذه الخطوة ويستثمرها باتجاه تحقيق الوحدة والتقدم، فيما أضاع التونسيين فرصتهم الذهبية في الانتماء إلى العالم الحر وبناء دولتهم الحديثة، فالمتشددون الإسلاميون اليوم يستولون على الكنائس لتحويلها إلى مساجد ويهاجم بعضهم الجامعات بسبب الجدال حول النقاب فيما هاجم بعضهم دار سينما لأنها تعرض فيلما علمانيا كما قيل، إلا أن تأثيرات ثورتهم قد امتدت وستمتد أيضا وستؤثر على كل مراكز القرار والسياسة ليس في بلداننا بل في العالم الحر غربا والعالم المتطلع إلى التقدم شرقا والعالم النامي المتخبط بينهما..
في العالم الحر، يعيش المواطن مشاكل وتحديات تتعلق كلها بلقمة العيش، إذ انه ومنذ فترة ليست قصيرة حقق كرامته واوجد القوانين والتشريعات التي تضمن حريته، وكأنظمة اجتماعية فان المجتمع الحر استبدل المقدسات بالحرية الشخصية التي لا يمكن الانتقاص منها، وبالحقوق الفردية التي يتوجب على المجتمع أن يصونها، ولذلك جاءت احتجاجات نيويورك أمام بيت المال في وول ستريت تحت شعار( لنحتل وول ستريت) والتي اتسعت وشملت ولايات أمريكية متعددة، ثم انتقلت إلى دول عديدة مستلهمة النموذج المصري كما يصف المراقبون ذلك، منصبة فقط حول جشع الشركات الكبرى وسيطرة رؤوس الأموال وتلاعبها بالقدرات الاقتصادية للفرد وليس المجتمع ككل، فلا احد يستطيع أن ينكر قوة الاقتصاد الأمريكي بشكل عام، ولكن لا أحد يستطيع أيضا أن يؤكد أن المواطن الأمريكي الاعتيادي يعيش في بحبوبة اقتصادية مطمئنة، ولهذا لم يعترض المحتجون الأمريكيون على نظامهم ولم ولن يطالبوا بإسقاط رئيسهم، بل انصب احتجاجهم على صعوبة الحصول على فرص العمل، وعلى التسارع في نمو رأس المال للأثرياء وازدياد الهوة بين الطبقة الرأسمالية المتنفذة وبين الطبقة المسحوقة الكادحة، على عكس شعوبنا العربية والإسلامية فإنها مبتلاة إضافة إلى الفقر المدقع في دول عديدة، بحكام جبابرة غارقين في مستنقعات التخلف والفساد والجهل رغم آلات الدعاية التي تحاول تلميع صورتهم، ولعل حصول بعض ملوك ورؤساء العرب الأميين على شهادات الدكتوراه الفخرية من جامعات خليجية وإسلامية واحد من تلك الأساليب السمجة التي تستهين بعقول الناس وتهدف بلا مصداقية رفع شان هؤلاء الذين يقال عن بعضهم أنهم لا يقرئون العربية بسهولة، ولكن الشعوب في الشرق والغرب المتخلفة منها أو تلك التي تعيش الحداثة وما بعدها، بدأت تشعر بعد ثورة تونس بقوتها وسلطتها الحقيقية وقدرتها على التغيير دون الحاجة لصناديق الاقتراع، خصوصا وان القوانين في العالم الحر تعطي الحق كاملا في التعبير عن الرأي بالطرق السلمية، ذات الطرق التي طرقها المصريون في ثورتهم، وإذا كان الحكام العرب قادرين على استخدام القوة والعنف والأسلحة الثقيلة والخفيفة لمواجهة إرادة شعوبهم فانه من المحال تماما على أنظمة الغرب اتخاذ ذات الأساليب، ولهذا فان الخطر المترتب على أية احتجاجات في أي مكان في العالم تحتذي بأسلوب ثورة الياسمين سيكون مريعا، وستكون نتائجه كارثية لأنها بالنتيجة ستؤثر بشكل أقوى وأسرع على العالم اجمع، وأمامنا في وقت قريب احتجاجات وإضرابات اليونان إبان الأزمة الاقتصادية التي عصفت بهم في أواخر عام 2009، والتي أجبرت الاتحاد الأوروبي على الوقوف بقوة إلى جانب الحكومة اليونانية لمساعدتها على تجاوز الأزمة لان استمرارها كان يهدد بانهيار الوحدة الأوروبية وعملتها، ولكن اليونانيين لم يكونوا قد عرفوا بعد ثورة الياسمين، ولو كانت أحداث تونس قد سبقت أزمة اليونان لكان الشعب اليوناني قد هب بأسره لإسقاط حكومته التي اتهمها آنذاك بالفساد، وبالتخاذل..
إن الدرس المهم الذي قدمته ثورة تونس للعالم اجمع هو أن الإمبراطوريات القائمة الآن في الشرق أو الغرب، مثلها مثل الدكتاتوريات، لم يعد بإمكانها تجاوز سلطة شعوبها، وبات على القياصرة أن يحسبوا ألف حساب لكل قرار يتخذونه من شانه أن يتلاعب بمشاعر الناس أو مستقبلهم ومستقبل أجيالهم، ولو كانت ثورة تونس قد حصلت قبل العام 2003 مثلا، فلا أتوقع أن العراقيين كانوا سيبقون صامتين إزاء صنمهم ولا كان للشعب الأمريكي أن يوافق على أن تشن إدارته حربها ضده حتى وإن كانت تحت الأغطية المهلهلة التي عرفناها مثل الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل أو الدفاع عن الشيعة والأكراد..