23 ديسمبر، 2024 10:25 م

العاصفة المستمرة – مراجعة وترجمة

العاصفة المستمرة – مراجعة وترجمة

يعتبر الكتاب الذي نحن بصدد ترجمة ابرز الافكار الرئيسية التي وردت فيه  من بين مجموعة الكتب التي تناولت احداث 2/ آب/ 1990 وحرب 17/ ك1/ 1991. وهو الاول تقريباً الذي يجيب بالتفصيل على عدد من الاسئلة المهمة التي كانت غامضة حتى صدوره، على الرغم من مرور اكثر من عقدين على ذلك الحدث.
وترتبط بعض هذه التساؤلات بالفكر الاستراتيجي الذي حكم تعامل العراق مع الحدث وادارته له، والاسباب التي دفعت الرئيس الامريكي وقتئذ جورج بوش الى انهاء الحرب فجأة، ودور اسلحة الدمار الشامل في الحرب، والدور الاسرائيلي المباشر وغير المباشر.
تنطلق اهمية الكتاب، من انه يستند الى تقارير سرية مخابراتية وعسكرية امريكية واسرائيلية، واتصالات امريكية باطراف غير معلنة حول الازمة. كما يحلل الكتاب كثيراً من المعلومات التفصيلية التي تنشر لاول مرة، ويمكن- استناداً الى ذلك- التعرف على طبيعة العلاقات الامريكية الاسرائيلية وقت الحرب على العراق، والتوتر الذي شابها وقتئذ، ودور الاسلحة النووية الاسرائيلية، ومفهوم الردع الاستراتيجي.
كما يكشف الكتاب عن انه لو كانت الحرب قد استمرت اسبوعاً آخر لكانت اسرائيل قد تدخلت، ولهذا اوقف بوش الحرب. وكان واضحاً كذلك، ان التهديد باستخدام اسلحة الدمار الشامل العراقية كان مسؤولاً هو الاخر بشكل مباشر عن القرار الامريكي بوقف العمليات العسكرية. ثم اخيراً، يطرح المؤلف تصوره لمستقبل الحد من التسلح، ومدى تأثيره على السلم العالمي في العقود الثلاثة القادمة من القرن الواحد والعشرين.
يبدأ المؤلف بسرد الاسباب التي دفعت العراق للاعتقاد بان المعارضة الدولية والامريكية لدخوله الكويت ستكون قليلة، والسبب الاهم هو انه استرجع تودد واشنطن المستمر له خلال حربه مع ايران. فقد تولدت لديه ثقة بأنه من غير المحتمل ان تقف الولايات المتحدة في طريقه، وربما يكون العراق قد تلقى ضوءاً اخضر من واشنطن فيما يتعلق بدخول الكويت. ففي الخامس والعشرين من تموز عام 1990، ابلغت السفيرة الامريكية لدى بغداد ابريل غلاسبي القيادة العراقية، ان واشنطن ليس لديها رأي في النزاعات العربية- العربية. والسبب الثاني، اسلحة العراق في ذلك الوقت كانت اكثر من كافية لعدم تشجيع اية معارضة لدخول الكويت او ربما يكون هذا هو ظن القيادة في العراق التي رأت ان ترسانتها المكثفة من اسلحة الدمار الشامل خاصة القدرات الكيمياوية المعروفة، مظلة استراتيجية تثني اي تدخل يعرقل مخططها.
وفي شهادته امام لجنة العمليات الحكومية في مجلس الشيوخ الامريكي، قال ويليام ويبستر مدير المخابرات المركزية الامريكية في ذلك الوقت: ان النظرة الى العراق وقت دخول الكويت تتلخص في انه يمتلك قدرات كبيرة من الاسلحة الكيمياوية، حتى ان الجيش العراقي وصف بانه اكبر جيوش العالم خبرة في استخدام الاسلحة الكيماوية في ميدان القتال.
وجاءت هذه الخبرة نتيجة لجوء العراق المتكرر الى هذه الاسلحة خلال حرب السنوات الثمان مع ايران. وبالفعل، فان العراق استخدم الاسلحة الكيمياوية خلال الفترة من عام 1983 الى عام 1988 على نطاق واسع غير مسبوق منذ الحرب العالمية الاولى. وتم دمج قوات كيمياوية خاصة مسؤولة عن نقل واستخدام الاسلحة الكيمياوية في كل صنوف القوات المسلحة العراقية. وفي ذات الوقت كان لدى الجيش العراقي وحدات للدفاع الكيمياوي والاستطلاع الكيمياوي والاشعاعي والتحليل والارصاد الجوي ومعالجة التلوث الكيمياوي.
ويدلل اسلوب استخدام الجيش العراقي للاسلحة الكيمياوية في الحرب مع ايران على خبرته المنظمة فقد كان الاستخدام وفق المراحل التالية:
1- الدفاع الكيمياوي لوقف الهجمات الايرانية حيث استخدم خلالها غاز الخردل ثم غاز الاعصاب.
2- مرحلة انتقالية من عام 1986 حتى اوائل 1988، جرى خلالها استخدام الاسلحة الكيمياوية في المناطق التي شكلت نقاط انطلاق لوأد الهجمات الايرانية في مهدها او اضعافها.
3- استخدام الضربات بغاز الاعصاب بكثافة في ربيع وصيف عام 1988 بشكل منظم ومخطط. وفي اذار عام 1988 استخدم الجيش العراقي -كما اكد الخبراء البلجيكيون والبريطانيون–  الاسلحة الكيمياوية ضد الاكراد في حلبجة، حيث كشف هؤلاء انه جرى بالتحديد استخدام غاز الخردل والاعصاب الكلوريد سيلتوجين الذي يتعامل مع الدم بسرعة.
واستناداً الى هذه الوقائع ينطلق مؤلف الكتاب الى استعراض فكر القيادة العراقية. فاستخدام الاسلحة الكيمياوية ضد الاكراد كان وسيلة لتوجيه رسالة… فالقيادة العراقية تؤمن ايماناً لا يتزعزع بفاعلية استراتيجية يمكن ان يطلق عليها اسم (الردع الارهابي) فهي تختار الوسيلة التي تسبب اقصى درجة من الصدمة، وارهاب المعارضين، وتدفعهم للخضوع. ومثال ذلك استخدامها في الاول من اذار عام 1988 صواريخ سكود (الحسين) في قصف طهران راح ضحيته ثمانية الاف شخص بين قتيل وجريح مما دفع ذلك ربع سكان المدينة الى الفرار خشية استخدام العراقيين الغازات الكيماوية . وعندما شبه الايرانيون الهجوم العراقي على الاكراد في حلبجة باستخدام امريكا القنابل النووية في الهجوم على هيروشيما وناغازاكي عام 1945، شاع الرعب في العالم مما اقنع القيادة العراقية بأن لديها رادعاً قوياً فعالاً. ويأتي اعلان صدام حسين بنفسه قبل عدة شهور من دخول القوات العراقية الكويت، امتلاك العراق سلاحاً كيمياوياً مزدوج الاستخدام غير موجود الا لدى الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفيتي فقط، كان في اطار الاعداد لدخول الكويت رغم انه كان قد صرح بأن الهدف هو ردع اسرائيل عن التفكير في مهاجمة العراق، وهذا يبرهن على فكره وايمانه بالردع الارهابي امام الخصوم.
وفي الواقع، فان العراقيين تعهدوا اتخاذ خطوات لتركيز انتباه العالم على استعدادهم باستخدام الاسلحة الكيمياوية عشية الهجوم على الكويت. ففي خطوة غريبة على عادة العراقيين في استخدام الشركات كستار او اللجوء الى اطراف ثالثة وسيطة لشراء المواد الحساسة، حاول العملاء العراقيون الحصول على ترياق ومضادات لغاز الاعصاب من بريطانيا قبل ايام من دخول الكويت، وقد كشفت ذلك مجلة (جينز) العسكرية البريطانية في 24/ آب/ 1990. ولما لقى العراقيون صدوداً في بريطانيا اتجهوا الى المانيا والسويد.
وارتبطت قناعة العراق ايضاً بأنه لن تكون هناك سوى مقاومة قليلة –ان وجدت اصلاً- بدخول الكويت بقدرات اخرى كان الاعلان عنها اقل من الاعلان عن القدرات الكيمياوية وهي القدرات البيولوجية.
يقول جوناثان توكير في كتابه – دروس برنامج الحرب البيولوجية العراقي- انه عندما دخل العراق الكويت كان قد انفق بالفعل اكثر من مائة مليون دولار على برنامج الاسلحة البيولوجية الهجومية، وكان لديه مخزون كبير من مواد الحرب البيولوجية.
ووفقاً لمعلومات المخابرات الامريكية فان العراق قام في خريف عام 1990 بوضع خطط لنشر احد عناصر الحرب البيولوجية جواً، وعلى ذلك، فانه من غير المحتمل ان تصدر القيادة العراقية مثل هذا الامر ما لم تكن واثقة بدرجة معقولة من ان جيشها لديه بالفعل القدرة العملية على تنفيذ مهمة خطيرة كهذه.
والخلاصة، هي ان برنامج الاسلحة البيولوجية العراقي قد صمم عملياً وفعلياً قبل ازمة 2/ آب/ 1990، بفترة طويلة، ويمكن القول انه ما لم تكن القيادة العراقية قد ضمنت خيار الاسلحة البيولوجية لما اقدمت على دخول الكويت.
وعلى الرغم من ضوء واشنطن الاخضر، ومظلة اسلحة الدمار الشامل العراقية، وسلوك بغداد المخادع، فان العراق فوجئ باعلان الرئيس الامريكي جورج بوش قراره في الثامن من آب عام 1990، بارسال القوات الامريكية الى الخليج، ورافق ذلك اصرار امريكي على انسحاب عراقي كامل وفوري وغير مشروط من الكويت.
والواضح ان القيادة العراقية ارتكبت في سياق تقديرها الخاطئ حول احتمال التدخل الاجنبي ضدها خطأين:
الاول- انها بالغت في تقدير قيمة اسلحتها الكيمياوية كرادع استراتيجي، فعندما اعلن الرئيس الايراني الراحل خميني بعد استخدام العراق الاسلحة الكيماوية ضد ايران، انه يتجرع السم ويرضخ للسلام. ثم بكى هاشمي رافسنجاني رئيس البرلمان الايراني في ذلك الوقت حين وصف اثار استخدام العراقيين الاسلحة الكيمياوية، ظنت القيادة العراقية ان لديها سلاحاً قادراً قدرة مطلقة على صد الجيوش الحديثة ايضاً، ووصلت الى الاعتقاد الى انه ليست هناك قوة خارجية تجرؤ على التدخل العسكري لأن قوتها ستكون عرضه لهذا السلاح المرعب. واعلن صدام حسين بنفسه بعد يوم واحد من دخول القوات العراقية الكويت، ان الخليج سوف يتحول الى مقبرة للذين يفكرون في شن أي عدوان.
الثاني- هو ثقة هذه القيادة في ان معارضيها خاصة الولايات المتحدة لديهم معلومات اكيدة وموثوق بها حول مدى تقدم قدراتها البيولوجية. فعلى الرغم من ان اجهزة المخابرات الامريكية وغير الامريكية شكت لفترة طويلة في ان العراق يجري بحوثاً منذ فترة طويلة على استخدام التيفوئيد كسلاح بيولوجي فأن المسؤولين الامريكان كانوا يرون انه يبدو ان ثمة دليل على ان العراق استخدم الاسلحة الجرثومية ضد الاكراد. وجاء موقف المسؤولين الامريكان بناء على الوثيقة المؤرخة في 3/ آب/ 1986، والتي تردد ان عناصر من الحزب الديمقراطي الكردي عثروا عليها، وتشير الى قائمة بالمواد الكيماوية والبيولوجية كانت بأيدي القوات العراقية، وبعد ذلك تفشت حمى التيفوئيد في السليمانية واودت بحياة (150) شخصاً.
وقد تكون القيادة العراقية قد بالغت في تقدير قدرات المخابرات الغربية، فنتيجة لخبراتها معها كان لدى بغداد تصور يعلي من شأن قدرة المخابرات الامريكية على جمع المعلومات وارتبطت هذه الخبرة بالتعاون بين الجانبين لمنع انتصار ايران في الحرب مع العراق. بينما في الواقع ان المخابرات الامريكية اعتبرت قدرة العراق وقت دخوله الكويت على انتاج اسلحة بيولوجية غير ذات قيمة، وجاءت هذه النتيجة رغم ارسال العراق عدداً كبيراً من طلابه في بعثات لدراسة علم الاحياء المجهرية –المايكروبيولوجي- والسُميات في الجامعات البريطانية وعدد من المعاهد الفرنسية.
وأياً كانت معلومات المخابرات الامريكية عن اسلحة العراق الجرثومية والكيماوية، فان دخوله الكويت كان في اعتقاد قيادته بلا مخاطر على الاطلاق، وكانت الظروف الدولية مواتية. اما قدرات العراق من اسلحة الدمار الشامل السرية فهي اكثر من كافية لمنع اي معارضة لدخول الكويت، وعلاوة على ذلك، فان خيار الاسلحة البيولوجية التي مازالت وقتها سرية قد اعطى القيادة العراقية قوى تدميرية بنفس الخطورة الموجودة لدى قوى عظمى او هكذا اعتقدت القيادة العراقية، وتبين في وقت لاحق ان اسلحة الدمار الشامل في ايدي العراق جعلت دخول الكويت واقعاً لا محالة.

مفهوم الردع الاستراتيجي:
قامت استراتيجية العراق بداية على تفضيل حرب الردع مع الولايات المتحدة على القتال الفعلي. واذا تمكن العراق من تجنب القتال واندلاع الحرب، فانه كان سيحقق هدفه في عدم مواجهة تحد لضم الكويت. وفي هذه الحالة كان العراق سيسيطر على (195) مليار برميل من النفط تشكل (20%) من احتياط العالم المعروف، وحوالي (65%) من احتياطي الدول الاعضاء في منظمة الدول المصدرة للبترول (اوبك) ما يجعله القوة المحددة للاسعار بالمنظمة.
والاهم من ذلك هو ان بتجنبه القتال كان سيحمي منشآت انتاج الاسلحة النووية والكيمياوية والبيولوجية، بل انها كانت تقوى بفعل الثروة النفطية الاضافية فضلاً عن دور العراق بالمنطقة وما وراءها كما تراه القيادة العراقية، سوف يكون اقرب الى التحقيق. لذا فقد فوجئ العراق بارسال امريكا قواتها الى السعودية في اوائل آب/ 1990، وفي 15 من الشهر ذاته لجأ العراق الى تسوية النزاع الحدودي مع ايران حول شط العرب. وقبل فجأة معاهدة الجزائر المبرمة عام 1975 التي كان قد الغاها عام 1980. واستهدف العراق بذلك اتاحة الفرصة لسحب قواته من الحدود الشرقية مع ايران ودفعها الى الجنوب على الحدود مع الكويت استعداداً للمواجهة مع قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة.
ولانه لم يكن واثقاً من نيات القوات الهجومية الامريكية المرسلة للخليج، فقد تحدث العراق كثيراً عن المخططات الامريكية ضده واراد بذلك استثارة الدعم العربي والاسلامي، واعتبر ان نشر القوات الامريكية فرصة لتحويل الاهتمام من الهجوم على الكويت الى تصوير الامر على انه نضال من اجل العروبة والاسلام. ونعكس عدم تأكد العراق من دوافع واشنطن في معالجة الازمة في امرين:
اولهما- الاشارة الى رغبته في الاسلام.
وثانيهما- التعهد بسحق الاعداء لو هاجموه.
ولهذا فقد عبرت قيادته ذات مرة: لا نريد الحرب رغم اننا قادرون على سحق اي عدوان.
لقد كان خيار التدمير الشامل العراقي هو محور هذه الاستراتيجية. فعن طريق الاشارة الى اسلحة الدمار الشامل استهدف العراق إثناء اي شخص في واشنطن عن الدعوة للقتال، اما دعوته للسلام فكان هدفها تقوية معسكر السلام في الغرب ومساندة موسكو في جهودها للحيلولة دون اندلاع حرب كارثية.
وجاءت عملية احتجاز الرهائن الغربيين وتوزيعهم على المنشآت العسكرية من قبل بغداد والافراج عنهم، مرهون بسحب القوات الامريكية من السعودية، والوعد بعدم الهجوم، وبانهاء المقاطعة التجارية، واصبح السؤال لماذا لجأ العراق الى هذه الخطوة التي وصفها بانها رادع لمنع الحرب. والاجابة هي ان العراق لم يتوقع قدرة الجيش العراقي على شن حرب بالاسلحة الكيمياوية او انه لم يثق بعد في فعاليتها. وهذه المسألة تلقي الضوء على رؤية القيادة في العراق للردع بشكل عام خاصة الردع في مواجهة عدو متفوق قوي، فهو يرى انه لكي تردع عدواً مثل الولايات المتحدة فانه لا بد من استخدام الردع الارهابي، وهي استراتيجية تعتمد على ادخال الرعب على قلب العدو من مغبة استخدام اي اجراء ضده، وهذا السلوك ممقوت في الفكر الغربي فكان الردع ضد العراق نتيجة تراكمية لهذا السلوك في حين ان توازن الردع الغربي يتسم بالحساب الدقيق غير المرعب، فان الردع الارهابي يغرق في الدماء وهو ما اشارت اليه القيادة العراقية عندما حذرت من ضخامة اعداد القتلى من المدنيين، فضلا عن العسكريين عند محاربة العراق، فالردع الارهابي ليس نتيجة عقيدة او فكر مصاغ بعناية ولكن كان امتداداً طبيعياً للنهج الذي تسلكه القيادة في العراق في الحياة السياسية القائم على ادوات ووسائل العنف لتحقيق اهدافها.
وقد اثبتت ردود الفعل الامريكية على تهديدات العراق بالدمار الشامل صحة رؤيته. فعندما اعلنت بغداد في شهر ايلول/ 90، انها اجرت تجربة لصاروخ سكود (الحسين) مسلحاً برأس كيمياوي، وانشاء مراكز لمكافحة التلوث الكيماوي في جنوب العراق، فيما بدا انه استعداد لاستخدام الغازات السامة، كتب ويليام ويبستر مدير المخابرات الامريكية في ذلك تقريراً يقول: ان العراق يعد قواته لحرب كيمياوية.
ويأتي السؤال: لماذا اختار العراق الاقتصار طوال هذه الفترة على التهديد باستخدام الاسلحة الكيمياوية، وبقيت الاسلحة البيولوجية في الخلف لمنع امريكا من شن الحرب؟
اولا- لان القيادة العراقية لم تكن فيما يبدو مقتنعة بان الحرب وشيكة، فقد دخل العراق الكويت بعد ان توصل حسبما هو محتمل الى نتيجة مفادها ان واشنطن مازالت نوعا ما ميالة اليه، ويعود هذا الاعتقاد الى اتجاه ادارة بوش الايجابية نحو العراق في فترة معينة، فضلا عن اعتقاد العراق، ان امريكا وعت جيداً درس فيتنام.
ثانياً- اعتقاد القيادة العراقية، ان ترسانتها الكيمياوية ستكون رادعة الى جانب سجلها في الردع الارهابي مع ايران والاكراد. وكان ظنها ان هناك فرقاً بين نشر القوات الامريكية للدفاع عن مصالح الولايات المتحدة في السعودية، وبين شن حرب ضد عدو مدجج باسلحة دمار شامل. وهذا ما اشار اليه صدام حسين خلال لقائه مع غلاسبي مذكراً اياها بخبرة العراق في الحرب مع ايران قائلاً: ان مجتمعكم لا يمكن ان يقبل عشرة الاف قتيل في معركة واحدة. وكان طبيعيا ان لا يفترض العراقيون ان واشنطن سوف تخاطر بشن هجوم وهي تعلم تماماً ان العراق لن يتردد في استخدام اسلحة كيمياوية، وعلاوة على ذلك، فانه حتى شهر ت2/90 كان مسؤولوا ادارة بوش يعلنون ان القوات الامريكية المنتشرة بالسعودية هي قوات ذات طبيعة دفاعية هدفها حماية السعودية من عدوان عراقي محتمل.
ثالثاَ- لو كان العراق قد اعلن عن قدراته من الاسلحة البيولوجية فانه كان سيخاطر بالتعرض لضربة وقائية امريكية في وقت، الاسلحة البيولوجية في مرحلة التجميع، وهنا كان المحتمل ان تكون بغداد قد وضعت في اعتبارها اعلان رئيس لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب الامريكي (ليس آسبن) يوم 28/ ايلول/ 1990، عن ان المخابرات الامريكية تعتقد ان العراق نجح في تطوير اسلحة بيولوجية وانه سيكون قادرا على نشرها في اوائل عام 1991، وجاء ذلك بعد ايام من اعلان ويبستر مدير المخابرات الامريكية صراحة لاول مرة ان العراق لديه مخزون ذو قيمة من الاسلحة البيولوجية، غير ان آسبن اضافة ان المعلومات حول قدرات العراق من الاسلحة البيولوجية كانت عاملاً واحداً ورئيسي في قرار ادارة بوش بشأن موعد بدء العمل العسكري ضد العراق، هذا ما ترك انطباعاً بان الولايات المتحدة قد تسعى لاستباق تطوير الاسلحة.

الاستعداد للحرب:
لم تدرك القيادة العراقية ان هناك خطراً حقيقياً لاندلاع الحرب الا عندما اعلن بوش في 8/ ت 2/ 1990، مضاعفة القوات الامريكية في الخليج لضمان ان لدى قوات التحالف خيارا عسكريا فعالا كافيا، ولكن في 16/ ك1، اعلن العراق انه سوف يطلق سراح الرهائن قريبا دون شروط معتبراً ذلك بادرة انسانية للمساعدة في حل سياسي للازمة. واظهر ذلك ان قيادته قد تخلت ولو مؤقتاً على الاقل عن الردع الارهابي، فهل خاف العراق من الحشد الامريكي لدرجة جعلته على استعداد للانصياع متخلياً عن قناعاته الذي كان عليه لفترة طويلة؟
الاجابة هي لا، ويعزز ذلك النفي عاملان:
الاول- هو انه وقاداته اكدوا مراراً ان العراق سوف ينتصر في الحرب ضد الولايات المتحدة. فقد طالبت القيادة العراقية الشعب العراقي بالتأهب لصد اي عدوان، وأكدت انه لا تخلي عن الكويت، وكان اطلاق سراح الرهائن في حد ذاته اشارة الى ان العراق قد استكمل استعداداته، وانه على ثقة من النصر، حتى ان قيادته ذكرت ان هذه الاشارة –اطلاق الرهائن- اصبحت ممكنة بعد ان حشد العراق دفاعاته الى الدرجة التي لم يعد بها يحتاج الى دروع بشرية.
الثاني- هو ان اطلاق الرهائن تزامن مع تحركات اخرى اشارت الى ان العراق يستعد ويقوي نفسه للحرب، وجاء تحرير الرهائن في اطار سياسة مزدوجة، فقد صعد من ناحية جهوده لمنع الحرب باعتبار ذلك هو النتيجة المفضلة لديه، كما كثف في ذات الوقت استعداداته لقتال تقليدي عزم على الانتصار فيه، واذا لم يحدث قتال فان العراق سيكون الفائز اذ انه في حالة التوصل لتسوية سوف يحتفظ العراق على الاقل ببعض حقول النفط الكويتية الغنية المستولى عليها، وسوف تخرج المنشآت الاستراتيجية والاقتصادية الرئيسية بالعراق رابحة وتتمتع بمكانة القوة الكبيرة في المنطقة، ولو اندلعت الحرب بعد كل ذلك فان العراق سيكون جاهزاً وسوف ينزل بعدوه الولايات المتحدة الهزيمة. وعلى اية حال، فان الخطين الذين سارا بهما العراق كانا يشيران الى ان صدام حسين ايقن ساعتها ان الحرب احتمال حقيقي.
ويثار السؤال: اذا كانت بغداد متأكدة من احتمال الحرب لدرجة ادت لاندفاعها الى استعجال تجميع الاسلحة البيولوجية كخيار، فلماذا لم تعلن عن هذا السلاح بمجرد ان اصبح فاعلاً عملياً في محاولة لردع الامريكيين؟
والاجابة، انه عند هذه النقطة بدا انه لا جدوى من السرية، فالولايات المتحدة بدت اكثر ميلاً لاحتمال خوض الحرب رغم تهديدات العراق بالاسلحة الكيمياوية، ومادام العراق جمع الاسلحة البيولوجية فان مخاطر التعرض لضربة وقائية استباقية باتت عند الحد الادنى، فهل الردع الارهابي يدعو القيادة العراقية الى الاعلان عن قدراتها من الاسلحة البيولوجية؟ الاجابة هي ان الحفاظ على خيار الاسلحة البيولوجية مختفية يكشف عن ثقة هذه القيادة في النصر. فقد كان لديها اقتناع بانها سوف تنتصر على الولايات المتحدة في الحرب بتكبيدها خسائر فادحة في القوات باستخدام الاسلحة التقليدية فقط، وحتى تردع الامريكان عن استخدام الاسلحة غير التقليدية، فقد اعتمدت على التهديدات الصريحة بالاسلحة الكيمياوية، وبناء على ذلك فانها قادرة على الابقاء على القدرات البيولوجية احتياطية كملجأ اخير.
لقد بدأت الحرب في 17/ ك 2/ 1990 بعملية عرفت باسم (عاصفة الصحراء) واستمرت معها جهود الردع المتبادل، وجاءت استراتيجية العراق نتيجة الردع الاستراتيجي الامريكي، فكان عليه –أي العراق- ان يدرك انه لا يمكنه اللجوء الى اسلحة الدمار الشامل خشية رد الولايات المتحدة بالاسلحة النووية ولذلك، فقد اضطر الى اعتماد خطة بديلة. وتشير الدلائل الى ان الخيار النووي لعب دوراً بارزاً في حسابات العراق، ولكن ذلك لا يعني انه كان يشك في الانتصار بالاسلحة التقليدية. وهذا نابع من استراتيجية القيادة في العراق المفضلة.
وقبل الحرب بشهور حدد العراق مجموعة من الاسباب التي تؤدي الى انتصاره. ومنها، ان ليس هناك دافع لدى الجنود الامريكان للقتال، وتجربتا فيتنام ولبنان ماثلتان في الاذهان.
وبالاضافة الى ذلك، فان اعتماد الولايات المتحدة كان على التكنولوجيا والسلاح الجوي فقط، وهذا لم يحسم تاريخياً حرباً قط، اما العراقيون فلديهم خبرة الحرب الحديثة الميدانية من تجربتهم مع ايران باعتبارها احدث الحروب في العالم. وهذه ميزة لدى القوات العراقية، كما اعتقدت القيادة العراقية، وكان املها هو انتصار سياسي وليس عسكرياً في حرب الخليج. واعتقدت انه سوف تنتصر في حالة الحرب البرية لو كبد العراق القوات الامريكية خسائر بشرية فادحة.
وتكشف ملفات المخابرات الامريكية انها عثرت في الكويت على امر عراقي مكتوب صادر للجنود العراقيين قبيل الحرب بتكبيد الامريكان اكبر قدر من الخسائر البشرية عندما يبدأ القتال. وهذا يعزز موقف المحتجين الرافضين للحرب في الغرب والذين كانوا يتظاهرون بالفعل ضد القتال.
واستند العراق في تصوره الى اشارات الرئيس الامريكي بوش نفسه الى شيء من هذا القبيل عندما اعرب عن مخاوفه من حرب ممتدة تؤدي الى تأكل تأييد الرأي العام الامريكي.
لقد كان العراق –حسبما قال احد المحللين- من المؤمنين بأن المنتصر هو الذي يستطيع تحمل اكبر معاناة من الخسائر.
غير انه كان هناك عامل ضاغط على العراق ذو طبيعة مختلفة، فقد كان على العراق ان يثق انه بمجرد بدء الهجوم الامريكي البري فان الولايات المتحدة لن تحاول كسر الجمود واختراق الطريق المسدود باللجوء الى الاسلحة غير التقليدية، فنظرة العراق الى هذه الاسلحة ذات الدمار الشامل هي في الاساس رادع للولايات المتحدة. ولذا فانه اعلن ايمانه بعقيدة المعاملة بالمثل في التعامل الاستراتيجي. فمع تأكيد ان صواريخ سكود (الحسين) التي بحوزته يمكن ان تحمل رؤوساً نووية وكيمياوية وبيولوجية، فان العراق اكد مراراً انه سوف يستخدم اسلحة توازي تلك التي يستخدمها عدوه ضده. ولم يكن هناك شك في مصداقية هذا الردع. وقال صدام حسين ذات مرة: اعتقد انكم اكتشفتم الآن اننا فعلنا كل شيء تحدثنا عنه. وكان بذلك يشير الى استهداف تل ابيب اذا تعرض العراق لاول ضربة بالاسلحة غير التقليدية. ولذا ففي اليوم التالي للهجوم الجوي للتحالف كانت اول صواريخ العراق من طراز الحسين تقصف اسرائيل.

العقيدة العراقية:
حتى منتصف شباط/ 1991، واصل المسؤولون العراقيون ومن  بينهم سعدون حمادي نائب رئيس مجلس الوزراء (وقتئذ) الاعلان عن عقيدة المعاملة بالمثل الاستراتيجية. وفي عام 1995، اكد طارق عزيز ان هذه العقيدة كانت اساس خطة الحرب العراقية، فقال: حتى قبل حرب الخليج قررت قياداتنا انه ما دام يستخدم العدو الاسلحة التقليدية فسوف نلتزم باستخدامها ايضا. غير انه في حالة استخدام الاسلحة النووية ضد العراق، فان جيشنا لديه اوامر باستخدام اي اسلحة لديه بما فيها من مواد القتال الكيمياوية والبايولوجية، وجرى اعتماد هذه العقيدة لان العراق كان يؤمن بانه قادر على الانتصار في الحرب بالاسلحة التقليدية.
وبمجرد انه ادرك العراق في الاسبوع الثاني من الحرب ان الولايات المتحدة ترجئ الحرب البرية فانه حاول اجبارها على الهجوم بتحوله الى استراتيجية الردع الارهابي والتهديد باللجوء الى الاسلحة غير التقليدية. وحذر عبد الامير الانباري مندوب العراق لدى الامم المتحدة بانه ما لم يتوقف القصف الجوي ضد العراق فانه لن يكون امامنا خيار سوى اللجوء لاسلحة الدمار الشامل. وجاء هذا التهديد بعد فشل محاولات جر اسرائيل الى الحرب بالهجمات بصواريخ سكود (الحسين) عليها. وظن العراقيون عنئذ ان استخدام اسلوب الردع الارهابي الذي يؤمنون به سوف يعزز مصداقية تهديدهم ويضغط على بوش.
وحتى لو كان العراق قد ادرك التناقض بين الموقفين- عقيدة المعاملة بالمثل والتهديد باستخدام اسلحة الدمار الشامل اولاً فان الهدف من الغموض في الموقف العراقي استهدف، اما اجبار الولايات المتحدة على استخدام الاسلحة التقليدية او وقف الحملة الجوية الاستراتيجية وبدء الهجوم البري. والحقيقة ان العراق لم يكن يعتقد على الارجح ابداً انه سوف ينفذ تهديده باستخدام اسلحة الدمار الشامل ما لم توقف امريكا الهجمات الجوية لانه كان مقتنعاً ببساطة بان الامر بيد الامريكان. ولذا كان التهديد مجرد خدعة ولوحظ انه صدر عن ممثل صغير بالحكومة العراقية وليس عن القيادة نفسها التي كانت حريصة على عدم تعريض مصداقية استراتيجية الردع الارهابي للخطر.
ومقياساً لثقته في موقف رفض العراق كل ما عرض عليه من اثمان سياسية ضخمة لحل الازمة ظل متمسكاً بالسيطرة على الكويت. وتوقعت الولايات المتحدة ان مجرد بادرة تجميلية من جانب بغداد سوف تؤدي الى سيناريو كابوسي يفتت التحالف الذي بناه بوش بصعوبة بالغة. ومع ذلك فان العراق لم يتزحزح واصر على ضم الكويت واعتبر ان وجودها قد انتهى يوم 2/ آب/ 1990م. ففي اواخر شباط ابلغ مسؤولوا التحالف عن ان العراق نقل منذ ايام كميات كبيرة من القذائف الكيمياوية عيار (130 ملم) الى الجبهة، ورصدت المخابرات الامريكية ايضاً استعدادات كيمياوية عراقية محتملة. وشمل ذلك تحريك (11) شحنة من مصنع للاسلحة الكيمياوية على بعد 60 كم شمال غرب بغداد.
وقد تلقى الجنرال نورمان شوارتسكوف قائد قوات التحالف تقريرا يشير الى ان القادة العراقيين ابلغوا جنودهم بالاستعداد لحرب كيمياوية لان الامريكان سوف يستخدمون الكيمياويات ضدهم. وهذا هو نفس التكتيك الذي استخدموه في الحرب مع ايران عندما استخدموا الكيمياويات.
وقال تقرير مخابراتي آخر- ان القوات العراقية منحت سلطة استخدام الاسلحة الكيمياوية حسب تقديرها. ويأتي السؤال: لماذا لم يلجأ العراق الى اسلحة الدمار الشامل حتى خلال مراحل الحرب الاخيرة؟ عندما بدأت الحرب البرية في 24/ شباط/ 1991: انهارت الدفاعات العراقية بسرعة واصبح الطريق الى بغداد خالياً ومفتوحاً. وكان لا بد ان تدرك القيادة العراقية ان استراتيجيتها التي عولت عليها في الانتصار قد فشلت، وانه بدلا من تحقيق انتصار سياسي، فان الحرب التقليدية ستؤدي الى هزيمة عسكرية عراقية حاسمة، وحتى لو كان هناك احتفاظ بخيار الاسلحة البيولوجية لظروف النجاة الاخير فقط، مثل اندفاع القوات الامريكية نحو بغداد.. فلماذا لم يستخدم العراق غاز الخردل مثلاً لمنع تقدم صفوف الحلفاء رغم تأكيد امتلاكه له ولغيره من المواد الكيمياوية– كما ذكرت الامم المتحدة واشرفت بعد الحرب على تدمير بعضها؟ وهل كانت الاوامر الاصلية باتباع استراتيجية المعاملة بالمثل ما زالت قائمة مع انها انطوت على كارثة للعراق؟ ام ان اوامر جديدة صدرت ولكنها لم تنفذ بسبب ما؟
هناك آراء عديدة طرحت تفسر الاسباب التي منعت القيادة العراقية استخدام الاسلحة الكيمياوية تكتيكيا. احد التفسيرات تقول: ان هذه القيادات كانت تتلقى دائما معلومات خاطئة عن الحرب من بعض كبار ضباطها على الاقل. وهذا السلوك استخدم في وقت سابق من جانب القادة العرب العسكريين. وكان سائدا بالذات في الحروب الماضية بين العرب واسرائيل. تكرر ذلك مع العراق. والاهم من ذلك هو انه خلال الحرب الايرانية العراقية كان القادة العراقيون يحجمون عن مناقشة قرارات مسؤولياتهم خلال الحرب العراقية الايرانية بشكل منضبط.
وهناك اخرون يرون ان هناك طائفة من الدوافع العملية هي التي حالة دون استخدام الاسلحة الكيمياوية العراقية في ميدان القتال. فقد قال الخبراء العسكريين الامريكان ان حالة الذخيرة الكيمياوية تدهورت خلال شهور الحظر السابق على الحرب. وقيل ان معظم غاز الاعصاب الذي كان لدى العراق قد فسد بدرجة كبيرة بعد حوالي (30) الى (45) يوما، ولذلك فربما انتظر العراق فترة اطول من اللازم قبل ملئ اسلحته بالذخيرة الكيمياوية.
وهناك تحليلات عملية اخرى تركزت على تدمير قاذفات التحالف لمئات من قطع المدفعية التي كانت هي وسيلة العراق الرئيسية لاطلاق الاسلحة الكيمياوية بمجرد تحييد القوات الجوية العراقية. وعلاوة على ذلك فانه حتى لو كان الغاز السام قد وصل الى القوات العراقية في الجبهة او بالقرب منها، فان الكثير من قادة الوحدات من فصائل البطريات لم يتلقوا كما قيل الاوامر باستخدامها نظراً لانقطاع الاتصالات مع مركز القيادة العام بسبب الهجمات الجوية دون هوادة.
ويقول الجنرال موريس شميث رئيس اركان القوات المسلحة الفرنسية، ان العراق لم يستخدم الاسلحة الكيماوية ربما لان قادة الجيش العراقي رفضوا تنفيذ اوامر القيادة العامة، ويرى ان هؤلاء كانوا يعلمون انهم لو نفذوا الاوامر فسوف ينتهكون الالتزامات الدولية التي وقعت عليها بلادهم وان ذلك سوف ينطوي على بعض المخاطر.
ويبقى تفسير مختلف تماماً عن كل التفسيرات. فقد اكد الجنرال توماس كيلي رئيس عمليات الاركان المشتركة الامريكية ان القوات الامريكية لم تجد اي مخزون من الاسلحة الكيمياوية خلف الخطوط العراقية في الكويت وجنوب العراق وقد صدق البنتاغون في تقاريره على ذلك قائلا: الاسلحة الكيمياوية لم تتح للقوات العراقية. وهذا يرجح ان القيادة العراقية كانت متأكدة من استراتيجيتها تجاه خوض حرب تقليدية بينما من الممكن ان يقرر اي من قادتها هكذا بنفسه استخدام اسلحة الدمار الشامل. وكان العراق على ثقة من ان الولايات المتحدة التي لا ترغب في تكرار خطئها القاتل في فيتنام سوف تسعى لاستخدام الاسلحة غير التقليدية لتجنب هزيمة سياسية مذلة في فيتنام، ربما احجمت امريكا عن استخدام هذه الاسلحة خشية رد الفعل السوفيتي او الصيني ولكنها في الخليج لا تواجه العراق بمفرده.
وعلى الجانب الآخر كان على العراق في ذات الوقت ان يضمن الا يتم اعطاء واشنطن ذريعة لاستخدام الاسلحة غير التقليدية لذلك لم يتم اعطاء قواته اي ذخيرة كيمياوية. ولو دارت الدائرة في المعركة عليه فانه ما زال عليه خيار شن ضربات باسلحة الدمار الشامل الاستراتيجية ضد المدن السعودية ومدن اسرائيل. باختصار فانه كان في ضن القيادة العراقية ان احتمال ان تظطر الولايات المتحدة الى استخدام اسلحة الدمار الشامل من اجل تجنب هزيمة اكبر من احتمال اضطرار العراق الى ذلك.
فاذا كان هذا السيناريو حقيقيا، فما الذي منع القيادة العراقية من اللجوء الى الهجمات بالاسلحة الكيمياوية الاستراتيجية؟ ولماذا لم ترسل طائراتها لاسقاط قنابل كيمياوية على مدن السعودية او اسرائيل او تأمر باطلاق صواريخ سكود (الحسين) مزودة بالقنابل الكيمياوية على الاهداف؟
في حالة اسرائيل، كانت القيادة العراقية تخشى كما يرى المسؤولون الاسرائيليون رد فعل اسرائيلياً وفردياً محتملاً. ولو قبلنا هذا الافتراض الآن فسوف يظل اللغز المحير هو:
– لماذا تجنب العراق اصابة المدن السعودية بالاسلحة الكيمياوية؟
هناك نظريتان اخريان تساعدان في تفسير موقف العراق الاولي، هي وجود صعوبات عملية حالت دون استخدام العراق للاسلحة الكيمياوية.
والنظرية الثانية وهي الاكثر قبولا لدى الكثيرين تقول ان التحذيرات الامريكية الصارمة هي التي دفعت العراق للاحجام عن استخدام الاسلحة الكيمياوية والبيولوجية. وقد اكدت المخابرات الامريكية في وثيقة بعنوان –تقرير حول المعلومات الاستخباراتية المتعلقة برصد حرب الخليج- نحن نقدر ان العراق قد لا يكون قد استخدم هذه الاسلحة الكيمياوية بسبب ادراكه التهديدات بالانتقام الكاسح من جانب التحالف. فقد ابلغ الرئيس الامريكي القيادة العراقية مثلا في خطاب مؤرخ في الخامس من كانون الثاني عام 1991 بانه لو لجأ العراق الى اسلحة الدمار الشامل، فان العواقب ستكون مفزعة عليه.
غير اننا نشك في هذه النظرية ونعتقد بان الحرب انتهت قبل ان تجد القيادة العراقية محاصرة وظهرها للحائط، ولم يكن للتهديد الامريكي مثل هذا التأثير، فالتهديدات لم تكن قاطعة حاسمة، حيث كانت هذه القيادة تشعر بالامان على نفسها وكانت تؤمن بان الاطاحة بها او تغييرها ليست عنصرا رئيسيا في مخططات امريكا لاحتواء العراق.

امريكا انتصرت عسكريا والعراق فاز استراتيجيا
في 25/ شباط/ 1991، تم الاعلان عن ان القوات العراقية تلقت اوامر بالانسحاب من الكويت، في 27/ من نفس الشهر قرر الرئيس بوش وقف الحرب. وكان واضحا ان التهديد باستخدام اسلحة الدمار الشامل العراقية كان مسؤولا بشكل مباشر عن قرار بوش، فقد كشف موشيه ارنيز وزير الدفاع الاسرائيلي في ذلك الوقت عن ان اسرائيل على وشك التدخل في الصراع عندما تم وقف القتال بشكل مفاجئ.
وقال ارنيز: هدفنا كان المساعدة في القضاء على صواريخ العراق. فقد استمر التهديد لاخر يوم ولو كانت الحرب قد استمرت اسبوعا اخر فان الجيش الاسرائيلي كان سيتدخل ويتحرك ضد الصواريخ العراقية.
وربما قصد وزير الدفاع الاسرائيلي تعزيز صورة كيانه الرادعة في ضوء الانتقادات التي وجهت الى سلبية قوات الدفاع الاسرائيلية في الحرب. وقد اعترف ارنيز بنفسه بان اسرائيل وجهت بوضع الاستعداد للتدخل في ممارسة الضغط على واشنطن لتخصيص المزيد من الموارد المالية لاصطياد صواريخ سكود (الحسين) في غرب العراق. غير ان اسرائيل كانت قلقة من ان الحاجة لدعم الحملة البرية لن تترك موارد كافية للقضاء على تهديد صواريخ العراق. وقدرت في الوقت نفسه ان دوافع العراق لاستخدام الاسلحة الكيمياوية والبيولوجية سوف تزداد مع استمرار الحرب.
والخطة الاسرائيلية تقضي بتدخل القوات الاسرائيلية بالاسلحة التقليدية بدلا من الانتقام المحتمل بالاسلحة غير التقليدية، ومن هنا جاء خطأ اسرائيل في الحسابات الاستراتيجية والعسكرية عندما سارعت بابلاغ امريكا بتعرضها للصواريخ العراقية، فقد ظن هذا الكيان ان واشنطن سوف تعطيه الضوء الاخضر بالتدخل العسكري ولكن الخطوة الاسرائيلية جاءت بعكس النتائج المرجوة. فقد صدم القادة الاسرائيليين عندما وجد بوش مخرجا لمأزقه بالاسراع بوقف الحرب. ولهذا فقد رأت اسرائيل ذلك خيانة لها.
واعرب ارنيز فيما بعد عن اسفه البالغ لوقف الحرب، وكان يتمنى ان تستمر اسبوعا واحداً فقط.
وبانهائه الحرب رأى بوش انه سيتجنب التهديد بسيناريو الدمار الشامل الى جانب منع اسرائيل من التدخل ومن ثم تعقيد استراتيجيته تجاه الخليج. وفيما يتصل بالعامل الاسرائيلي في وقت سابق من نفس الشهر. ان جيش الدفاع الاسرائيلي لديه خطط عملية جيدة للغاية للتعامل مع صواريخ سكود (الحسين) وان اصابع الجيش الاسرائيلي تتحرق شوقا لتنفيذها، والاسوء من ذلك ان باراك قال ان اسرائيل تفضل تنسيق عملياتها مع امريكا، ولكن في بعض المواقف تظطر الى التحرك بمفردها مع مجرد اخطار الامريكان.
وقد كانت امريكا على علم بالتفكير الاسرائيلي خلال الحرب. وهذا ما كشف عنه كولن باول رئيس هيئة الاركان المشتركة الامريكية، وقال انه في 25/ ك2/ 1991، عقد اجتماع في مكتب وزير الدفاع الامريكي ريتشارد تشيني وحضره باراك، وقال –انه مالم نتدخل ونقضي على صواريخ سكود (الحسين) فان العراق قد يستخدمها في الضرب بالرؤوس الكيمياوية عندما يشتد هجومكم البري. واضاف، ان العراقيين قد يطلقون غاز الاعصاب او رأساً بيولوجياً، وفي حال حدوث ذلك فاننا نعرف ماذا يجب ان نفعل.
والسؤال اللاحق: لماذا اثبت الرادع الذي استخدمه العراق فعالية في ثني الولايات المتحدة عن الاستمرار في الحرب؟  والاجابة، هي ان امريكا واسرائيل قدرتا انه قادر ويستطيع ومستعد لتنفيذ تهديداته باستخدام اسلحة الدمار الشامل. وبالنسبة لقدرة العراق على تنفيذ تهديداته فلهذا جملة اسباب منها:
1. على الرغم من ان جهود الامريكان في رصد وتدمير منصات صواريخ سكود (الحسين) فان التطورات اشارت الى انه بنهاية الحرب كان العراق يملك القدرة على اطلاق هذه الصواريخ على اسرائيل. وقالت دراسة اجراها السلاح الجوي الامريكي، ان مساعي مكافحة صواريخ سكود (الحسين) لم توقف مطلقا عمليات قصف الصواريخ العراقية، فالقوة الجوية لم توقف استخدام الصواريخ، والدليل على ذلك انه في 23/ شباط قبل اربع ايام فقط من قرار بوش وقف الحرب. سقط صاروخ عراقي بالقرب من مجمع لصناعة الطائرات الاسرائيلية على بعد (10) الى (15) كيلو مترا فقط جنوب شرق مطار بن غوريون.
وحتى لو كانت لدى منصات باترويت المضاد لصواريخ سكود (الحسين) قدرة على ازاحتها وتدميرها في الجو فان ذلك لم يكن يعني ان تلك الصواريخ لن تلوث المدن الاسرائيلية لو كانت تحمل مواد كيمياوية.
2. كان العراق قادرا على ممارسة قيادة وسيطرة فعاليتين على العناصر الاساسية المتحكمة في خيار اسلحة الدمار الشامل طوال الحرب. وبرغم مفاجأة اكتشاف قلة السيطرة على الاسلحة البيولوجية فان الحقيقة الباقية هي ان العراق كان قادرا على استخدام خياره الاستراتيجي بدقة كما كان يخطط وثبت بعد الحرب ان اوامر اطلاق صواريخ الحسين كانت تأتي من اعلى المستويات.
3. وبمزيد من التفصيل ناقش المؤلف دور السلاح النووي الاسرائيلي خلال ايام الحرب، وجزم المؤلف بان اعلان اسرائيل حالة التأهب النووي القصوى كان مجرد زعم امريكي ساقه الجنرال كولن باول وانه كان له تأثير قليل على تصور واشنطن للاحداث في المنطقة العربية في اواخر شباط عام 1991.
فالعناصر الاساسية التي غذت اسلوب التفكير واتخاذ القرار في واشنطن هي ان العراق يمكنه ان يلجأ الى اسلحة الدمار الشامل كخيار اخير وان لديه قدرة على تنفيذ مثل هذا الهجوم وان ضربة عراقية بالاسلحة الكيمياوية او البيولوجية ضد اسرائيل يمكن ان تؤدي الى خسائر فادحة بين المدنيين وحتى لو لم يكن لدى هذا الكيان اسلحة نووية فان الاعتبار الاخير سقوط المدنيين باعداد كبيرة كان كافيا وحده لدفع الرئيس بوش لوقف الحرب. ولكن الولايات المتحدة كانت تؤمن ايضا بانه في حالة تطبيق هذا السيناريو لاسلحة الدمار الشامل فان اسرائيل كانت ستنتقم بالاسلحة النووية بغض النظر عما اذا كانت قواتها في حالة تأهب بالفعل ام لا. وبقدر ما لاقت شكوك المخابرات الامريكية بان اسرائيل اعلنت حالة التأهب القصوى اذاناً صاغية في واشنطن بقدر تزايد الضغوط لانهاء الحرب. وبرغم ان محاولات اسرائيل الجادة للابقاء على قدراتها النووية في الظل، فان مجرد وجود هذه القدرات في منطقة الصراع قد فرض ضلالا واسعة النطاق على عملية اتخاذ القرار في واشنطن، وبالاضافة الى ذلك فان الكثير من الاسرائيليين كانوا يؤمنون ايضا بان السلاح النووي لعب دورا قي ضمان الدفاع عنهم. واثبت استطلاع للرأي العام الاسرائيلي اجرى في نهاية الحرب زيادة مذهلة مقدارها (88 %) في عدد الاسرائيليين الذين وافقوا على استخدام الاسلحة النووية.
وتبقى اسئلة منها: لماذا خلصت امريكا الى ان اسرائيل من المحتمل ان ترد بالاسلحة النووية على ضربة عراقية باسلحة كيمياوية او بيولوجية؟ وهل كانت هذه الرؤية خاطئة؟ وهل وضعت اسرائيل حقاً قوتها النووية في حالة تأهب كما قال الجنرال باول؟
ان الاسباب وراء قول الولايات المتحدة ان اسرائيل وضعت اسلحتها النووية في حالة تأهب ترجع الى استغلال ذلك لجهود واشنطن لمنع جيش الدفاع من التدخل في الحرب مما يعرض تماسك التحالف للخطر ويهدد مكانة امريكا في الوطن العربي بصفة عامة. والسؤال يظل: كيف اعتقد باول ان اسرائيل سوف تلجأ الى الاسلحة النووية دون استشارة الولايات المتحدة التي لها قوات على مسرح الاحداث؟
ويبقى انه من المفروض ان الزعماء الامريكان ادركوا انه في حالة اطلاق العراق اسلحة كيمياوية او بيولوجية على اسرائيل فان واشنطن لن تستطيع منع هذا الكيان من ارسال جيشه الى العراق. ولذا اضطر بوش الى وقف الحرب عندما هبطت صواريخ العراق التحذيرية في صحراء النقب، ولا بد ان الامريكان استرجعوا تهديدات اسحق رابين وزير الدفاع الاسرائيلي قبل عامين من ازمة الخليج فقد حذر الدول العربية من انه في حالة اعتداء اي منها على كيانه فانه بلاده لديها القدرة الدفاعية والهجومية لتكبيد سكان الدول المعتدية عشرة اضعاف ما ستتكبده اسرائيل من خسائر في الارواح، وقد تدعم الاعتقاد الامريكي بما ذكرته (عجاف مودين) من ادارة المخابرات العسكرية الاسرائيلية، من ان احتمال الاقوى هو ان العراق سيلجأ الى الاسلحة الكيميائية.
اما عن حالة التأهب النووي في اسرائيل فان الحكومة الاسرائيلية اثرت توجيه تحذيرات عامضة مع الاستعداد لمواجهة نووية، فقد كان هناك شعور لدى اسرائيل بان اتخاذ هذا الموقف له مزايا سياسية واستراتيجية. ولم يكن هذا الكيان مهتماً بعدم اثارة غضب امريكا دون رادع. والهدف هو تسهيل مهمة امريكا في تنفيذ مخططات الحرب… وسعت اسرائيل في ذاك الوقت الى تجنب اي اجراءات استفزازية قد تدفع العراق الى استخدام الاسلحة الكيمياوية والبيولوجية خشية ان يكون على وشك الاقدام على سلوك تدميري وهو اذا هجم العراق باسلحة الدمار الشامل بأي شكل فانه سيكون لدى اسرائيل القدرة والمشروعية للرد بنفس النوع من السلاح. وبخلاف زعم كولن باول فان اسرائيل لم تضع لذلك السبب قواتها النووية في حالة تأهب خاصة وقد قيل ان مسؤولي البنتاغون الذين خشوا من انتقام اسرائيل نووياً من هجوم عراقي بالاسلحة الكيمياوية قد حصلوا على ضمانات وتأكيدات بعدم حصول المخابرات الامريكية على دليل يؤكد ان اسرائيل وضعت اسلحتها النووية في حالة استعداد للانطلاق نحو العراق.
فلماذا اذن قدرت الولايات المتحدة ان الهجوم العراقي باسلحة الدمار الشامل سوف يؤدي لانتقام نووي اسرائيل بل انها شكت ايضا حسب تقدير باول في ان اسرائيل اعلنت حالة التأهب لسلاحها النووي بالفعل؟
احد الاحتمالات هو ان زعم باول يرقى لمستوى الحيلة السياسية القذرة ولانه لا بد ان يعلم وضع قوة اسرائيل النووية فان سبب زعمه ببساطة يعني انه حاول اختلاق عذر لتبرير جهوده الرامية لوقف الحرب، واشارة باول الغامضة الى تقارير عن حالة التأهب الاسرائيلية قد تشير الى انه لم يكن بمقدوره ان يذكر معلومات محددة وملموسة حول الموضوع.
وبعد هذه الاطروحات التي توصل اليها المؤلف من تحليله لازمة 2/ آب/ 1990 وحرب 17/ كانون الثاني/ 1991، فأنه يختتم كتابه قائلاً: ان الجهود التي بدأها عدد غير قليل من الزعماء الذين لديهم بعد نظر لايجاد عالم اكثر حكمة وسلامة عقلية لا بد ان تراعي الدروس الصحيحة المستفادة من حرب الخليج…. وتقدر اكبر تحد للسلام العالمي عشية القرن الحادي والعشرون قدره والا سوف يواجه العالم نظاماً اكثر فوضى.

الكتاب:
Avigdor Haselkorn – the continuing storm, Iraq, Poisonous weapons, and Deterrence, yate University Press, 1999, 374 pp.
العاصفة المستمرة، العراق، الاسلحة السامة، الردع ، تأليف – افيجدور هاسيلكورن.
[email protected]