23 ديسمبر، 2024 1:08 ص

العار والاستهتار

العار والاستهتار

خلال الستينيات وفي سنته الأولى من المدرسة عاد الصغير فرحا الى المنزل وقد إحتفظ في حقيبته بكيس نسيجي صغير وقبل أن يذوق طعامه وحتى قبل أن يستبدل ملابسه أخذ يتباهى أمام أمه بأن هذا الكيس جلب فيه المعلم عشر كرات ملونة وعلّمنا من خلاله على الحساب من الواحد الى العشرة وحين أفرغ المعلم الكيس وضعه على طاولتي وأوصاني بالحفاظ عليه حتى إنتهاء الدرس ولكنه حين سمع الجرس وضع الكرات في جيب سترته ونسي الكيس عندي ، ردت عليه أمه بابتسامة يشوبها الشك : كان عليك أن تلحق معلمك أثناء خروجه لتذكّره بالكيس فقد يكون نسيه أو قد يكون المعلم يختبر أمانتك بهذا ، وإن خنت الأمانة ربما يحاسبك و (يجرّ أذنك ) أمام زملائك !! صعق الصغير وأمسك عن الطعام وإرتعب وقال : حسنا لا تخبري أبي وسأعيده غدا الى الاستاذ ، هذه هي القصة ولبراءة الصغير كان يتفاخر أمام أمه وأخوته طوال اليوم بأنه أمين ومخلص لذا عهد إليه المعلم هذه المهمة ، لم يترك أو يغفل عن الكيس لحظة واحدة ونام والكيس بيده حتى إستيقظ في اليوم الثاني ولم يفارقه الكيس الفارغ .. قابل معلمه وقص عليه ما دار بيه وأمه فقال المعلم مبتسما : أنت صغير وتعرف العيب ، بوركت . حين عاد مغتبطا ومزهوا بذلك فوجيء بأبيه يسأله عن إرجاع الكيس فعرف أن دائرة السر لم تكن مغلقة بل إن هذا الفعل يتطلب أن يطلع عليه رب العائلة وقد يكون جريمة .

شب هذا الصغير وهو يضع العيب في ذاكرته كرادع لكل ما يحس به أنه خطأ أو غلط وظلت كلمات هذا المعلم المربي يتردد صداها في أذن هذا الصغير الذي أصبح موظفا ذا سيرة نظيفة وناصعة لا يشوبها مخالفة ولا عقوبة ولا سقطة ولا فساد فالعيب كان حاجزا ومصدا في لعبه ونزهته وتسوّقه وواجبه ، في البيت والدائرة والمقهى والشارع ولم يفكر بالحلال والحرام ولا موقف الدين ولا حتى القانون لأنه وبفطرته يعلم أن العيب هو قانونه وهو الناموس الذي إستمد منه مبادئه ..

وأنا أستذكر هذه القصة الحقيقية وحياة هذا الرجل الذي ظل موظفا لم يسند له منصب حتى اليوم في النظام الديمقراطي الجديد يصيبني اليأس من المستقبل حين أقارن بينه والمسؤولين الفاسدين الذين أتسائل دوما : ألم يكن لهم أمهات مربيات فاضلات ؟ ألم يردعْنَهم عن رذيلة ؟ ألم يعلّمْنَهم العيب ؟ هل ربينَهم على السرقة والحرام ؟ غريب أمر هؤلاء ؟ أين تربوا ؟ هل كان لهم آباء ؟ وهل قرص آذانهم معلم ؟ وما أكثرهم !!

هل أدرجت مفردة العيب في قاموس حياة عائلاتهم ؟

طبقا لتجربة هذا الصغير الكبير وتربيته العائلية فقد يجرنا هذا التفكير الى فكرة شيطانية وهي أن الفاسد إما أنه لم يتلقّ تربية صالحة و في معزل عن أبويه في بيت فاسد أو أنه (…) بلا أب ولا أم وفي كلا الحالتين هو فاقد للتربية في صغره ، ويا ويلنا فهم كُثر وقد تبعهم الكثير وأصبح البعض رمزا يمثل الكثير .

علمتنا الحياة أن العيب في منهج المربي الفطري هو الحد الفاصل بين الحرام والحلال وتجاوزه هو العار الذي سيحل على العائلة كرد فعل مجتمعي أما الإيغال بالعار فهو الإستهتار وما أحوجنا الآن الى فضح المستهترين بأموال الدولة وأموال الفقراء .