23 ديسمبر، 2024 3:39 م

قد لايكون هذا التوصيف دقيقا 100% فليس من ظلم لذيذ وآخر مر. لكنها الرغبة في تحديد ملامح المراحل القاسية في حياة البشر حين يتنقلون من مرحلة الى أخرى وهم يتحملون أشكالا من القسوة المفرطة تمس حياتهم الإقتصادية والسياسية وأمنهم الإجتماعي وعلاقاتهم مع الأفراد الآخرين في بيئات مضطربة ساخنة حافلة بالمواقف والتحديات والعذابات والمشاكل والهموم وفي ظل نظام سياسي دكتاتوري يتمنون الخلاص منه بأي طريقة كانت، ولكنهم قد لايدركون أن مابعد الدكتاتورية هي الفوضى، وهذا ليس خيار الله فيهم بل هو خيارهم لأنهم حين يكونون في ظل دكتاتور ما تكون حياتهم منظمة، فأحاسيسهم ومشاعرهم ترتبط بفكرة واحدة هي تجنب المساس بالدكتاتور ونظامه القائم، والتكيف مع مايفرضه من شروط يكون فيها هو السيد المطاع الذي لايمس، ولايسأل، ولا يحاسب، ولايعاقب، ولايخشى أحدا فأمره مطاع، وقوله فصل ونصل يحز الرؤوس.

الظلم اللذيذ هو الجامع للناس حين يستشعرون خطرا واحدا، ويدركونه ويعرفون كيف يتجنبون الطرق الوعرة في ظله، وتكون لديهم الخبرة ليمروا من خلال السكاكين والمتفجرات التي ترصف على جوانب تلك الطرق، لكن من المستحيل على الناس أن يتجنبوا الخطر في ظل الفوضى، وليست الفوضى أن تعيش في خضم تجربة متعددة الأشكال والتحديات، ولكن الخطر فيها حين لاتعرف من هو الدكتاتور، وحين لاتشك في أحد وتتجنب الآخر. فالجميع لديك خطرون ومهددون لحياتك، وقد لاتعرف بالضبط ماهي مصادر الظلم، فقد يتحول من كان معك في مواجهة الدكتاتور الى ظالم، ويكون السياسي المعارض في السابق هو الظالم اليوم. ولعل تجارب كل شعوب الأرض توحي بنفس المصير فكم من ثورة قادها متمردون وصعاليك وقادة دينيون وثوار محبون للخير تحولت الى دكتاتورية غاشمة، وتحول قادتها الى إقطاعيين قتلة يمتلكون الخبرة في بناء السجون وتعليق المشانق، ولكنهم لايعرفون، ولايريدون تعبيد الطرق التي يمر بها الناس الى محال عملهم ومصالحهم اليومية البسيطة.

كم تمنيت لو أن مدير مدرستي السابق الذي كنا نشبعه شتيمة في السر لافي العلن لم يسال عني ويعاتب ويقول، لبعض من يتصلون به، لماذا لايسأل عني هادي ؟أولم أكن مديره وأستاذه؟ وبعد ثلاثين عاما ونيف، وبعد كل تلك المراحل والتنقل من المتوسطة الى الإعدادية، ثم الجامعة، ثم العمل والتعرف على الناس والحياة بأشكال مختلفة يأتي المدير الذي أتذكر ظلمه اللذيذ ليسأل عني بوصفي شخصا يعرفه الناس، ويرونه على شاشة التلفاز متحدثا في السياسة ومعلقا على الحوادث اليومية! تلك فكرة لاأتحملها، ففي زمن الفوضى تكون الذكريات أجمل، وكالآثار القديمة التي لو نبشنا فيها لتسببنا بكسر بعض تماثيلها ولجرحناها، والأفضل لونتركها هادئة تحت الرمال، فقد مرت آلاف من السنين على تمثال رمسيس العظيم تحت الرمل، وغارقا في المياه الجوفية التي يقطن قربها ملايين المصريين، وعلى ضفافها نشأت أحياء فقيرة يتسابق ناسها على رغيف الخبز وصحن الفول، وفجأة يتم إكتشاف التمثال الذي يمثل فتحا آخر في معركة الحضارة ومعرفة التاريخ، وبمجرد أن يقوم جاهل يقود آلة رافعة بسحب التمثال الكبير يتحطم جزء منه.

الظلم اللذيذ أفضل بكثير من الحرية في ظل الفوضى، هي حرية الذهاب الى طرق عدة لكنها محفوفة جميعها بالمخاطر المسببة للموت.