طالما كانت العلاقة بين الأديان وخصوصا ما يُطلق عليها بالأديان السماوية مثارا للجدل منذ تاريخ بعيد إلى وقتنا الحاضر، لكن يجري النقاش في غالب الأحيان من منطلقات تعبر عن الخلفية الدينية للمحاور؛ لذلك كثيرا ما اكتنف الحوار التحيز الضيق وتفضيل دين على آخر، أو تفضيل مذهب على آخر، وهذا كثيرا ما غذى ويغذي التطرف الديني والمذهبي والطائفي الذي نعيش فصولة المدمرة والمروعة حاليا على يد الجماعات الإسلامية المتطرفة التي تدعي امتلاكها الحقيقة الدينية كاملة. وإسهاما في النقاش حول هذا الموضوع الهام اخترنا تقديم قراءة عن كتاب “الظاهرة الدينية من علم اللاهوت إلى علم الأديان المقارن” لمؤلفه حمّادي المسعودي، وهو باحث تونسي متخصص في الدراسات المقارنة للأديان، الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط| بيروت، 2018. يقع الكتاب في 336 صفحة. أتبع المؤلف في كتابه هذا منهجا أكاديميا، وتميز بالحياد والموضوعية على الرغم من حساسية البحث في هكذا حقول معرفية خصوصا في عالمنا العربي.
يضم الكتاب المذكور أربعة فصول ومقدمة عالجت: مدخل نظري: من علم اللاهوت إلى علم الأديان، العهد القديم في النصوص الإسلامية، العهد الجديد في النصوص الإسلامية، متخيل النبوة وعالم ما بعد الموت في الأديان الكتابية، وخاتمة.
يشير المؤلف في المقدمة إلى أن من لا يقارن لا يعرف، وستظل نظرته ضيقة للأمور ومحصورة بنطاق تراثه ودينه فقط، ولكن للأسف إن البحوث المقارنة وكذلك التعليم المقارن بين الأديان والثقافات المختلفة ليست واردة الآن في مجال التقسيم الشائع للموضوعات الدراسية ولا في برامج التعليم الثانوي ولا حتى الجامعي. كل جهة تكتفي عموما بتدريس دينها أو تراثها كأنه حقيقة مطلقة ولا شيء غيره في العالم! ولهذا السبب يستخدم المتطرفون نصوصا موضوعة بمنأى عن أي تحليل نقدي من أجل خلع المشروعية على الحروب المتكررة بين أعداء في المجتمع نفسه، أو بين دول مختلفة.
مدخل نظري
إن مرحلة اندماج الذات في موضوعها لم تدُم نتيجة تقدم الفكر البشري، فانفصلت الذات عن الموضوع، وصار الإنسان ينظر إلى المقدس باعتباره مسألة مستقلة جديرة بالدراسة العلمية، فنشأ منذ القرن التاسع عشر علم الأديان المقارن، والدراسات المقارنة في الأديان، وعلم الاجتماع الديني، وعلم النفس الديني، والأنثربولوجيا الدينية… وقد بينت جميع هذه المباحث كيف تحولت الظاهرة الدينية من شعور كامن في ذات الإنسان تجاه المقدس إلى دراسة علمية لذلك الشعور الخفي.
علم اللاهوت مداره خطاب الإنسان حول الله، وهو ينطلق من مسلمات وبديهيات يتبناها العالِمُ في هذا المجال، دون أن يعتريه فيها شك ولا تسأل، ويعتقد هذا العالِمُ أن الديانة التي يعتنقها هي وحدها التي تتصف بالحق والصدق والأصالة، وما سواها باطل وكذب أو مقتبس من نصوص دينية سابقة، أو هو كلام مُحرف، وبعبارة أخرى يمكن أن نقول: إن علم اللاهوت علم معياري تكون نزعته مشروطة دائما بالإيمان بحقائقه الخاصة به، فيكون بذلك مُقصِيا غيره بطبيعته، وهم لئن اتسم بنزعة عقلية جدالية في معالجة مواضيعه فإنه يدور في فلك الوثوقية والدفاع والتبرير والتمجيد. ص
أما مصطلح علم الأديان فيرجع الاستعمال الأول له إلى المفكر الألماني ماكس ملر عام 1867. وفي الفترة نفسها نادى أ. بورنوف في فرنسا بتأسيس علم الأديان، وقد ألف كتاب أسماه بـ “علم الأديان”. والملاحظ أن المفكرين الفرنسيين كانوا يميلون إلى استعمال مصطلح “تاريخ الأديان” ثم مصطلح “التاريخ المقارن للأديان”.
ويذكر المؤلف أن موضوع علم الدين| تاريخ الأديان| التاريخ المقارن للأديان لا يتعلق بإبداء الرأي في مدى تقدم الفكر البشري نحو اكتساب حقيقية ما ورائية أو لاهوتية، وإنما يسعى على النقيض من ذلك إلى تجاوز المعطى التجريبي للوقائع الدينية ليُدرك الفهم الداخلي للمقدس المعيش، لذلك كان ينطلق من دراسة مختلف الأنظمة الدينية المعروفة؛ لكي يَدرُسَ بناها الأساسية من طقوس وأساطير وعقائد ورموز؛ ليدرك في النهاية تحليل المضامين التي يعيشها الإنسان المتدين ذاتيا، فهو يهتم بجميع ما آمن به الإنسان في مجال المقدسات (ص 24).
ويثير المسعودي نقطة في غاية الأهمية تشير إلى أن دارس الأديان الذي يتبنى المنهج المقارن عليه أن ينتبه إلى ما يمكن أن يكون كامنا في الكثير من أوجه الائتلاف من تنافر؛ لأن الكثير من عناصر التماثل الظاهر تحمل دلالات تباين داخلي؛ ذلك أن الدين للاحق إذا ما اكتفى بتكرار الدين السابق جزئيا أو كليا انصهر فيه، وفقد شروط بقائه جزئيا أو كليا، وأن كل الدين نشأ في ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية وجغرافية مخصوصة تأثر بها، وفعلت فيه، فولد مُحمّلا بأماراتها، معبرا عن أحلام الناس وآمالهم ورؤاهم الموصولة بالوجود وبوضع الإنسان في الكون وبعلاقته بالمعبود، فلئن قالت الديانات التوحيدية الكبرى (اليهودية والمسيحية والإسلام) بالإله الواحد، فإن تصورها لهذا المعبود الواحد كانت مختلفة فيه اختلافها في طريقة عبادته حتى أن الكثير من الجدل وسوء التفاهم والخلاف نشأ من هذا التصور.
لكن الاختلاف بين الأديان لا يتبيّن فقط عندما نقارن دينا بدين آخر؛ بل يمكن أن يتجلى لنا عند مقارنة فرقة بأخرى، أو مذهب بمذهب آخر، وفي هذه الحالة يكون الاختلاق كامنا في الدين الواحد، وهو اختلاف يرجع إلى اختلاف الرؤى والخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في قراءة النصوص الدينية المؤسسة، كما قد يرجع، بالنسبة إلى الكثير من الفرق الإسلامية، إلى تسييس الدين، أو توظيف الديني في السياسي، ويُعد هذا من أخطر التوجهات التي يمكن أن ينزلق فيها الفكر الديني، وتنشأ عنها نزاعات وحروب دامية.
إن البحث المقارن ينبغي على دارسه؛ لكي يكون بحثا موضوعيا، أن يلتزم بالحياد الديني أثناء إجراء المقارنة بين دين وآخر، أو بين ظاهرة وظاهرة دينية أخرى تنتمي إلى دين مخالف، وهذا يقتضي من الباحث المقارِن أن يتخلى عن نزعة المفاضلة بين الأديان، فلا يمجد دينا ويهجو دينا آخر، ولا يقول بأصالة الأول واقتباس الثاني من الديانات السابقة وتحريفه.
وينبه المؤلف إلى وقوع أصحاب مصنفات الفرق في التراث الإسلامي في مزالق أيديولوجية وعقدية عندما تكلموا في كتبهم على أديان الآخر المخالف في الملة، فحصروا الصحة والحقيقة والشمول في الإسلام، ونعتوا الأديان الأخرى بالتحريف والباطل والمحدودية، متخذين من دين الذات معيارا به تُقاس سلامة الديانات الأخرى وجدواها وإيمان أتباعها، غير عابئين بمختلف الظروف التي نشأت فيها تلك الأديان، ولا المراحل التاريخية التي مرت بها، على الرغم من أنهم كانوا يؤمنون بأن الأديان التوحيدية الكبرى لها مصدر واحد، وأن الوحي، الذي ابتدأ مع أنبياء بني إسرائيل واختتمه نبي الإسلام، هو الوحي عينه.
وقد رأى الكثير من الباحثين العرب المسلمين والمستشرقين شبها كبيرا بين علم اللاهوت الغربي وعلم اللاهوت الإسلامي، فكلا العلمين ينهض على الإيمان وإبعاد الشك وعلى التفسير والاستدلال والتمجيد والدفاع واعتماد النصوص المقدسة وسنّة القدماء مصادر لمباحثهم وردودهم.
والملاحظ أن مصنفات علم الكلام(1) ومصنفات الملل والنحل لم ترقَ بالبحث في الأديان إلى تأسيس علم خاص
بهذا المجال المعرفي، على الرغم من أصحابها عالجوا بإسهاب الأديان الكتابية وغير الكتابية، ولم ينشأ، إلى يومنا هذا، علم للأديان ولا للأديان المقارنة في العالم العربي والإسلامي، على الرغم من حاجة مجتمعات هذه البلدان المؤكدة لهذا العلم.
العهد القديم في النصوص الإسلامية
ورد لفظ “التوراة” 17 مرة في القرآن المدني، ومرة واحدة في القرآن المكي، والقرآن عندما يُطلق هذا اللفظ إنما يقصد الخمسة الأولى من أسفار (العهد القديم)، وهي التكوين، والخروج، والعدد، واللاويون، والتثنية، والتوراة تعني عند المفسرين المسلمين الوحي المنزل على النبي موسى، والعودة إلى هذه الأسفار مهمة جدا في فهم المسلمين للنص القرآني؛ لأن نصوصها حاضرة بكثافة عجيبة فيه من جهة، ولأننا نرى، من جهة أخرى، أنه لا يوجد نص ينهض من فراغ، وأن النص الديني بصفة عامة، والنص المقدس بصفة خاصة، نص تتداخل فيه النصوص والثقافات والحضارات، وهو دائم الانفتاح على مطلق الدلالات.
أسندت جميع النصوص الدينية القديمة فعل الخلق إلى ذات متعالية ليست من جنس البشر (الإله إنليل في الثقافة السومرية، الإله مردوخ في الثقافة البابلية…). لكن ينبغي أن نلاحظ أن عملية خلق الكون في النصوص القديمة كانت نابعة من الحركة المادية والفعالية الحياتية للآلهة؛ فالإله يتحرك ليصنع أو يخلُق في النصوص السومرية والبابلية. أما في النصوص التوراتية والقرآنية، فإن عملية الخلق كانت نتيجة الكلمة الخلاقة والأمر الإلهي “كُن فيكُن” (ص 74).
يبدو الإله التوراتي إلهاً شديد الشهوة للحم المشوي، مشتهيا رائحة البخور تعبقُ في “قُدس الأقداس”. وهكذا خلق الإنسان آلهته صورة منه ترتد إليه كل حين في شهواته وحواسه وأفعاله وطلباته، ولكي يُضفي على هذه المطالب شرعية فتجد سبيلها إلى التنفيذ أسقطها على الآلهة وصعّدها إلى السماء.
أما الإله القرآني فلم يكن مفرطاً في طلباته القُربانية، وقد يكون ذلك راجع إلى وعيه بفقر المؤمنين، فلم يسُنَّ لهم سوى أضحية سنوية بمناسبة فريضة الحج تكون من الغنم أو المعز أو الإبل أو البقر. وطقوس هذه الأضحية لا تتم في فضاء المؤسسة الدينية كما هو الشأن في القرابين التوراتية، وإنما تُمارس في الفضاء العادي للعائلات.
كثيرا ما تتبدى لنا في التوراة خاصة، وفي العهد القديم عامة، إن الفاعل ذا القرار هو النبي موسى وليس الإله يهوه، حيث يقوم النبي بدور المُعدّل بين الإله والشعب، ويحُدُّ من جبروت الذات المتعالية، فهل هي حكمة الأنبياء التي فاقت الحكمة اليَهوهية (نسبة إلى يهوه) أو هي حكمة مؤلفي النصوص المقدسة اليهودية التي اجتهدت لتكون العلاقة بين النبي والشعب متينة جدا؟ فالنبي في هذه الأمثلة يبدو أقرب إلى الشعب من الإله وأمتَنَ صلة بهم منه، لذلك كان يسعى إلى إبطال القرار الإلهي القاضي بإفناء الشعب.
لقد أضفى الإنسان على الإله في النصوص المقدسة صفات البشر، لذلك يظل الكائن المتعالي قريبا جدا من الذات البشرية. وقد يعبّر ذلك عن مرحلة من تاريخ البشر لم يتخلص الإنسان فيها من التصور المادي الحسي لمعبوده؛ لذلك صاغ إلهه على شكل صورة مزدوجة تجمع بين الإنسان والإله. فاليهود لم يعرفوا في أسفارهم المقدسة التمثل المتعالي للإله؛ إذ بقي هذا التصور حسيا تجسيديا لم يرق إلى التمثل الذهني المجرد. ويؤكد هذا المنحى في تصور الإله طلبهم من موسى أن يُريهم الله رؤية عينية. وقد عبد اليهود آلهة في صورة مجسّدة حتى بعد تعرفهم إلى الإله يهوه إله الإنقاذ والخلاص (عبادة العجل أثناء غياب موسى).
العهد الجديد في النصوص الإسلامية
إن جوهر المسيحية في القرآن هو بشرية عيسى، وقد أكدها الوحي الإسلامي بشدة، فهو بشر ينحدر من سلالة البشر شأنه شأن آدم، فهو ابن مريم، كائن مخلوق وعبد مربوب. ما ورد في القرآن على لسان عيسى ينفي عنه وعن أمه الألوهية، ويبرز منزلته الحقيقية، وهو هنا لا يعلم الغيب إلا ما يعلّمه الله، وهو لا يُعلّم الناس إلا ما أُمِرَ به. ومصيره البعث يوم القيامة بعد موته، لكن دوره في العقاب والثواب منفيّ، وهو لن ينهض بإدانة الناس في الآخرة مثلما تذهب إلى ذلك المسيحية الإنجيلية؛ لأن الحساب موكول إلى الله وحده. لقد نقل القرآن عيسى من مرجعية مسيحية هو مركزها وحجر الزاوية فيها إلى مسيحية قرآنية لا يمثل فيها سوى عبد مربوب مكرم بالنبوة، فيكون القرآن بذلك قد قوض أسس مرجعية لتنهض على أنقاضها مرجعية جديدة صلتها بالنص الأصلي غير متينة.
ويحول القرآن نهاية عيسى تحويلا جذريا ويوجهها وجهة أخرى تختلف تماما عن تلك التي رسمتها الأناجيل، فيُخالف نصوص العهد الجديد والرؤية اليهودية في هذا المآل الذي صار إليه عيسى عندما ينفي أن تكون نهايته بتلك الطريقة، ويرسم له نهاية يُقوض فيها أسس المرجعيتين اليهودية والمسيحية، ويُحمّلها أبعادا غير تلك التي أرادتها النصوص المسيحية، فالمسيح لم يقتُله اليهود، ولا هم صلبوه، (ما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبه لهم) وإنما نجا من الموت صلبا ورفعه الله إليه فانتصر على الأعداء المناوئين، لكنه لم ينتصر على الموت، ولم يقهره مثلما تذهب المسيحية إلى ذلك.
ويرفض القرآن مقولة التثليث التي تؤمن بها المسيحية،رفضا قاطعا، وإن كان يفهم التثليث على غير ما تقصده المسيحية من هذا المصطلح. فالقرآن يُفند مقولتين جوهريتين في المسيحية: البنوّة والتثليث. وقد ربط الإسلام الولد أو الابن بضرورة وجود علاقة جنسية بين الذكر والأنثى لكي تنشأ الولادة، فالعلاقة إذا علاقة بيولوجية جسدية، وهذا ما لا يمكن أن يكون مقبولا في التصور القرآني لله، فالله في المنظور الإسلامي لا يمكن أن يكون له ولد| ابن لأنه ليس له زوجة أو صاحبة. لقد فهم المسلمون معنى البنوة في دلالتها الحقيقية البيولوجية، بينما أكد المسيحيون أنهم لا يقصدون هذا المعنى عندما يتكلمون على البنوة.
إن علماء اللاهوت المسيحيين، وهم يدرسون المسيحية من خلال القرآن، يتصورون أن محمدا كان يعتمد، أثناء حديثه عن المسيح، على النصوص الإنجيلية القانونية، وعلى ما صدر عن المجامع الكنسية من قرارات، لذلك نسبوا إليه تحريف هذه النصوص وتشويهها. لكن ما هو مغيّب في هذا التصور أن النصوص الإنجيلية المكتوبة لم تكن متوافرة بكثرة في البيئة التي نزل فيها الوحي الإسلامي، وما يمكن أن يكون شائعا في الأوساط العربية آنذاك هو ما كان يتناقل مشافهة من التراث الديني المسيحي، ويبدو من خلال كلام القرآن عن المسيحية أن ما كان يُتداول من هذه الديانة لم يكن ينتمي إلى النصوص الإنجيلية القانونية وحدها، وإنما اشتمل حتى على النصوص غير القانونية مثل إنجيلي الطفولة وتوما، واحتوى كذلك على مقولات بعض المفكرين والفرق المسيحية.
إن أسّ الإيمان المسيحي وجوهره ليسا كتابا مقدسا ولا شريعة، وإنما شخص يسوع المسيح الذي يمثّل الله ويبرزه ويكشف عنه بطريقة نهائية. ويذكر هانس كينغ أن هذه الرؤية المسيحية، التي تجعل من المسيح جوهر الإيمان دون الكتاب المقدس، تمثّل فارقا جوهريا بين المسيحيين والمسلمين، فالمسيح يحتل لدى أتباعه منزلة القرآن لدى المسلمين، فهو “كلام الله المتجلي بشكل بشري” (ص 127).
من البيّن أن كل قراءة تتأثر بالمحيط الثقافي الذي نشأت فيه، ولا يشذ القرآن عن هذه القاعدة، فما كان قد حدث داخل الكتاب المقدس حدث كذلك في القرآن؛ إذ لم يقع الاكتفاء بتقبل تقليد قديم صافيا وببساطة، وإنما تم تحيينه وإعادة تأويله على ضوء التجارب الحاضرة، فقد طبق محمد على حاضره الخاص ما سمع حول يسوع تماما كما طبّق المسيحيون عددا من نصوص العهد القديم على المسيح (النبوات)، وكان معناها الأصلي مختلف تماما، وعظمة يسوع كلها تكمن، لدى محمد، في كون الله عمل بواسطته باعتباره عبدا مُرسلا من الله.
فقد حمَّل الإسلام المفاهيم المألوفة في الديانتين السابقتين مضامين جديدة من ناحية، وأبطل الكثير من المقولات الدينية السابقة خاصة في الديانة المسيحية من ناحية ثانية، فالقرآن يعيد الإطار العام الذي توافر في الديانتين السابقتين، لكن الإطار المُعاد يُملأ بمضامين جديدة، لذلك لن يكون مجرد استرجاع للقديم بقدر ما هو صياغة جديدة للعديد من التصورات الدينية السابقة، فهو يعدّل الرؤى حول العالم والألوهية والنبوّة واليوم الآخر، ويسترجع شخصيات العهد القديم والعهد الجديد طبقا لتصور جديد ينأى بها عن التصور الديني السابق، وهذا التصور الجديد لا يمكن أن يُعزا إلى سوء فهم للدينين السابقين، ولا معرفة محمد السطحية بالكتاب المقدس كما ذهب إلى ذلك كارل بركلمان في كتابه (تاريخ الشعوب الإسلامية).
ويحلل المؤلف مكونا مفصليا هاما في الأديان، عندما يشير إلى أن الأسطورة تمثّل شكلا ثابتا في كل دين، فلا يمكن أن نتصور ديانة خارج الأسطورة، وهي بنية أساسية في كل دين، لكنها تختلف باختلاف الديانات والبيئة الثقافية التي نشأ فيها كل دين، فلكي يكون للدين أتباع لا بد من أن يُبنى على جملة من التصورات يكون للمتخيّل حظ وافر فيها، تبدأ في الغالب بربط علاقة تواصل مع عالم الغيب ودنيا الشهادة من خلال الوحي أو الإلهام، وقد تتدعّم بالمعجزات والخوارق ومختلف تجليات العجيب النازل من السماء، والمجترح على وجه الأرض، فإذا كانت الأسطورة مكونا أساسيا من مكونات النص الدينيّ، هل لهذا النص أن ينهض إذا ما عَمَدنَا إلى نزع الأسطورة عنه ولم نُبق منه إلا ما يتناغم ومقتضيات التاريخ والواقع؛ أي ما يكون مدركا بالعقل خاضعا لمبدأ السببية: عليّة الحدث، وهي القاعدة الجوهرية التي يُقيم عليها العلم في العصر الحديث تصوره للعالم؟ (ص 144) يتساءل المسعودي.
متخيل النبوّة
إن الخيال هو مصدر كل وحي، وليست الذات الإلهية هي التي توحي إلى الأنبياء، وإنما ذات النبي هي التي تلهم، ولما كان الوحي إلهاما اختلفت مادته من نبي إلى آخر باختلاف المزاج والثقافة والوضع الاجتماعي والاقتصادي والبيئة لدى لكل واحد من الأنبياء، وقد لون كل نبي الوحي بلونه الخاص، وأضفى عليه بعضا من ذاته، فإذا كان النبي “ذا مزاد مرح تُوحى إليه الحوادث التي تعطي الناس الفرح مثل الانتصارات والسلام… وعلى العكس منذ ذلك إذا كان النبي ذا مزاج حزين تُوحى إليه الشرور كالحرب والعذاب” (ص 212).
تتجلى الاستقلالية الذاتية العجيبة في شخصية المسيح من خلال النظر في مرجعيات الكلام الذي يخاطب به أتباعه، فبينما يسعى غيره من الأنبياء إلى تأكيد أن ما يتفوهون به ذو مصدر آلهيّ متعالٍ ليضفوا على خطابهم مصداقية، فإننا لا نجد في حال المسيح مثل هذا العناء، فهو لا يحيل إلى مرجعية متعالية؛ بل أنه يؤكد أن الكلام كله نابع من ذاته، والأفعال صادرة عن إرادته، والمعجزات آتية عنه دون أن يرجعها إلى قوة خارجة عن ذاته، لذلك نجد تواترا للعبارات الآتية: الحق أقول لكم … أما أنا فأقول… (ص 231)
يمكن أن نميّز في كلام الأنبياء بين مستويين من القول: ما هو صادر عن الذات الإلهية؛ أي الوحي أو الكلام المقدس. وما هو صادر عن النبيّ الإنسان؛ أي الكلام البشري، لكن هذا الفصل غير جائز في حال المسيح؛ ذلك أن كل ما يصدر عنه مقدس. وظاهرة الفصل جلية بوضوح في الإسلام بين كلام الله| القرآن وكلام النبي| الحديث، حتى أن محمدا نفسه كان ينبّه على هذا الفصل عندما نهى بعض أصحابه عن تدوين ما كان يتفوّه به في أحواله العادية؛ أي عندما يكون في غير حالات الوحي، خوفا من أن يلتبس كلامه ويختلط بالقول الإلهي. وعلى الرغم من أن السنة النبوية المحمدية تفسّر في العديد من نصوصها كلام الله، ظل القرآن أعلى منزلة والمصدر الأول في الأحكام والتشريعات والأخلاق والعبادات، لذلك ظل الفاصل المادّي قائما بينها وبين نص الوحي.
تذكر مصنّفات علوم القرآن ثلاثة آراء تحدد مختلف المواقف حول مصدر الوحي، يقول أولها بألوهية المصدر لفظا ومعنىً، والثاني بألوهية المعنى وبشرية اللفظ، والثالث بألوهية المعنى ومَلَكية اللفظ (اللفظ صاغه المَلكُ). ويذكر المؤلف إلى أن ما يهمّنا من هذه الآراء القول الثاني، وفيه أن القرآن نزل معنى على محمد، وأنه صاغ تلك المعاني بلغة العرب (ص 239-240).
ومن الجدير بالذكر، عالج الفيلسوفان الفارابي وابن سيناء مسألة النبوة، وكلاهما يرجع الدور الأساس في بلوغ هذه المرتبة إلى عمل القوة الإدراكية “الباطنة” المسماة بـ “المتخيلة”. ذلك يعني أن مفهوم النبوة في فلسفتيهما يختلف عن مفهومها الإسلامي الصافي(2).
خاتمة
في الخاتمة يتوصل المؤلف إلى خلاصة هامة وهي ضرورة استفادة الدراسات العربية والإسلامية من مناهج العلوم الإنسانية بصفة عامة، ومن منهج علم الأديان المقارن بصفة خاصة، بعد أن أضحى من اليقين أن النص القرآني والنصوص التي دارت عليه في مختلف الحقول المعرفية نُصوص جامعة احتوت داخلها على روافد نصّية مختلفة المرجعيات والثقافات. وقد صار من اليقين أيضا أن فهم النصّ القرآني والنصوص الحوافّ يقتضي العودة إلى نصوص سابقة تاريخيا للتراث العربي والإسلامي لتبيّن النصوص المستحضرة من ثقافات أخرى وكيفية استحضارها والتحويلات التي أُلحقت بها لتنسجم وطبيعة الثقافة والبنية الاجتماعية والاقتصادية التي انتقلت إليها تلك النصوص.
إن الأديان يستعير بعضها من البعض الآخر، وأنها تشتمل على قواسم مشتركة دون أن ينصهر أحدها في الآخر، وأن الحقيقة الدينية ليست مطلقة، لذلك لا يمكن أن تكون مقصورة على دين دون دين، وأن كل دين يحمل جوانب من الحقيقة وليس كل الحقيقة. ومن شأن هذا التصور أن يجعل قارئ النصوص المقدسة متفهما لما بداخلها من تشابه وتباين دون السقوط في الأحكام المعيارية الممجّدة لدين الذات والمستهجنة لدين “الآخر”. وهذا يمثّل أحد الأسس، التي ينهض عليها العلم المقارن للأديان، وهو الحياد الديني الذي بغيابه تغيب الدراسة العلمية الموضوعية للمسألة الدينية (ص 296).
أخيرا، نحن إزاء بحث أكاديمي قيّم بذل فيه الباحث جهدا كبيرا في التحليل والمقارنة والاستنتاج وعاد إلى الكثير من المراجع ذات الصلة، وهو جدير بالقراءة المتمعنة خصوصا في ظل أوضاعنا الحالية التي يسود فيها التزمت الديني والمذهبي والطائفي.
1- للمزيد حول علم الكلام راجع: حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية- الإسلامية، المجلد الثاني، الجزائر| بيروت، دار الفارابي، 2002، ص 389-441.
2- المصدر نفسه، المجلد الرابع، ص 255، وللمزيد راجع الصفحات 255-259