22 ديسمبر، 2024 4:18 ص

الظاهرة الدينية من حيث هي ظاهرة هرمينوطيقية

الظاهرة الدينية من حيث هي ظاهرة هرمينوطيقية

” نحن نفهم بعضنا البعض فقط من خلال الانعطافة الكبيرة لعلامات الإنسانية المودعة في ثقافتنا.”

لن نحصل على جواب عن سؤال ما الفلسفة؟ اذا حاولنا التفتيش عن ذلك في جميع أعمال بول ريكور إذ نكاد نعثر على بعض الضوء من أسلوبه وغالبا ما يترك وراء المصادر التي تخص ممارسته الفلسفية.

هذا الغموض يبرز بصورة ملموسة عند اشتغاله على الظواهر الدينية والرموز الثقافية سواء من خلال المنهج الفنومينولوجي أو عبر قراءته للتحليل النفسي1 واشتغاله على تأويل المعتقدات والنصوص الدينية.

لا تخلو فنومينولوجيا الدين من بعض الفرضيات القبلية الأساسية حول هرمينوطيقا الإيمان أو إعادة بناء التمثلات الجمعية للاعتقاد والتأويل الموضوعي للظواهر الدينية وأنطولوجيا الرموز واستذكار المقدس.

لقد كشف بول ريكور عن التناقض الكبير بين فرضيات العمل الذي ينطلق منها علم التحليل النفسي باستخدامه بشكل وظيفي تقنية التأويل الارتيابي التي تنتهي إلى تفكيك الظاهرة الدينية وفرضيات العمل الذي تقوم به فنومينولوجيا الدين عندما تعتمد التأويل الموضوعي وتقصد المعنى وتعمل على بناء الحقيقة.

إذا كان التأويل التحليلي النفسي يختزل وظيفة الدين في كونه مجردة ظاهرة ثقافية مثل بقية الظواهر الأخرى ويحاول تفسير رموزه بالانطلاق من وجهة نظر اقتصاد الميول والتوازن بين إنكار الغرائز وإشباعها ويختزل وظائف الثقافة في الحظر والحماية ضد تفوق الطبيعة فإن الوصف الفنومينولوجي للظاهرة الدينية يجعلها تقلل من حجم التضحيات الغريزية التي يقوم بها الأفراد ويصالحهم مع غرائزهم ويمنح لهم التعويض المناسب لهذه التضحيات ويجد ميزانا بين الحظر والإنكار وبين التعويض والإشباع.

التعارض الثاني بين التحليل النفسي والفنومينولوجيا تكمن في التعارض بين الأوهام التي يحاول التحليل النفسي الكشف عنها والتخلص منها والحقيقة التي تحاول الفنومينولوجيا تشييدها حول الظاهرة الدينية 2، وبالتالي اذا كان الدين من وجهة نظر اقتصادية أو وظيفية يمثل وهما نافعا ويصلح في إشباع الفرد من الحرمان والتعويض له عن إنكار الحضارة للغرائز وقمعها للرغبات ويساعده على تحمل خشونة وقسوة الحياة نتيجة الضعف البشري وتفوق الطبيعة على الثقافة من خلال المرض والموت وما يسببانه من خوف وألم وعذاب فإن الدين من وجهة نظر الفينومينولوجيا يمنح الإنسان معنى الحياة وينير الغائية من وجوده.

النقطة الثالثة التي تختلف فيها الفنومينولوجيا الهرمينوطيقية عن التحليل النفسي هي مسألة استعادة المنسي المكبوت الذي يعود إلى الماضي الطفولي وما تشكل حوله من مكبوتات وعقد دفينة يجدر تفكيكها حسب التفسير الموضعي الاقتصادي ولا يتم عقلنتها الا من خلال معرفة زمن تكونها والعودة إلى أصلها في حين يشتغل التأويل الغائي على عملية استذكار المقدس ويؤشر على المنزلة الأنطولوجية للتمثلات الدينية.

من المعلوم أن تشكل العزاء والسلوى والمواساة التي تقدمها الظاهرة الدينية من حيث هي ظاهرة ثقافية حسب المقاربة الوظيفية مرتبط بفقدان شكل الأب الأول الذي انحدر عنه شكل الآلهة في تمثلات الناس.

عودة الدين حسب فرويد ، مثل الذي نراه اليوم، هو انبعاث في شكل خيال لصور منسية عن ماضي الفرد والبشرية وهذه العودة للمنسي، في شكل خيال ديني، يمكن مقارنتها بعودة المكبوت في الهوس العصبي.

الم يقل في هذا الصدد حول علاقتنا بالماضي: “عندما نتحدث عن الماضي إما ننساه أو نسترجعه”3.

يحاول بول ريكور أن يعثر على الوساطة الرمزية التي يمكن تشكيلها بين التفسير الأركيولوجي الذي يمثله علم النفس التحليلي والتأويل الغائي الذي تمثله الفلسفة الفنومينولوجية ويثمن العمق الغرائبي للدين.

ان التفكير في الوجود الديني في مراحله المأساوية عبر وساطة اللغة السردية هو القطب الإشكالي الذي تدور حول فلسفة بول ريكور الدينية ضمن مقاربتها الفنومينولوجية الهرمينوطيقية والتي تسعى إلى دراسة العلاقة بين الوجود الديني والحياة الإنسانية بغية إثبات الوجود الحي وإنتاج المغنى حول الذات المنتدبة4. لكن ألا تكمن طرافة بول ريكور في تواصله مع المشروع الفلسفي التأسيسي على نحو غير كلاسيكي؟

المراجع والمصادر:

Paul Ricœur, De l’interprétation, Essai sur Freud , Paris, Éditions du Seuil, 1965, réédition, en collection Points, 1995.

Paul Ricœur, Le Conflit des interprétations , Paris, Éditions du Seuil, 1969.

Paul Ricœur, Réflexion faite, Autobiographie intellectuelle (RF), Paris, Éditions Esprit, 1995.

Paul Ricœur, Écrits et conférences 1, Autour de la psychanalyse, Seuil, 2008.

كاتب فلسفي