المقبرة واسعة وممتدة وهي تتسع يوما بعد يوم وتكبر وتتمدد..توفي جواد منذ عام، لكنه بقي ذكرى تمتلك قدرة معول يهشم صخرة القلب التي أعمتها المادية، والرغبات الدنيوية الرخيصة. مر عام كامل منذ رحل جواد، وقد يكون مر أقل من عام، وربما يوم، وقد تكون ساعات على رحيل آلاف البشر هنا وهناك، وعلى مساحة الأرض الكبيرة التي تحتوينا كملاذ غير آمن يمكن أن ينتهي بنا الى قبر أخير تطوى تحت ثراه رحلة شاقة وحافلة ومؤثرة، وتمثل قصة لكل إنسان على هذا الكوكب. قالوا له إنك لابد أن تموت، وتتحول الى بعض ذكريات محطمة، ثم تبعث لتحاسب في الدار الآخرة.
عند الفجر دخلنا المقبرة. كانت (باردة، موحشة، حزينة، صامتة، مذهلة) مخيفة تبدو القبور فيها كأنها شقق سكنية تفتقد الى الخدمات العامة، لاماء، لاكهرباء، فهي معتمة على الدوام، وسكانها يتلمسون الطريق من خلال الظلام، بينما المارون بها لايهتدون سوى لقبور أحبابهم الذين رحلوا منذ زمن بعيد، أو قريب، ويتجاهلون، أو يتصنعون التجاهل إنه سيلحقون بهم في وقت ما، ويتركون خلفهم ملايين القصص والحكايات والذكريات والعذابات، وبعض الأشخاص الذين سيذرفون الدموع، ثم ينسون، ويعلقون صورا شاحبة لاتغني، وبمرور الوقت يتحول الحزن الى ذكرى، وطقوس وطعام وشراب وشموع وبخور وزيارات متباعدة سرعان ماتنتهي وتطوى بمرور أجيال. فلايعود الذين ماتوا قبل مائة عام قادرين على التأثير فجيلهم إنتهى، وماتلاهم من أجيال يذوب وينتهي رويدا، وجيلا بعد جيل تنتهي الحكايات.
الفجر في المقبرة، وعندما يكون باردا يتحول وحش الخوف والحزن الى نوع من التحدي الداخلي، فيتغلغل في النفوس، ويتماهى معها، ويكون جزءا منها، وتبدو العيون وهي تراقب المشهد، وتنظر في الشواهد الموضوعة على تلك القبور الصامتة مثل عيون رجل أمن فقد طريدته في الزحام، ولابد أن يعود الى مركز الأمن، ويتحمل بعض شتائم ضابطه الممل الذي ماتزال عيناه منتفختان بفعل السهر في العمل، أو بفعل السهرفي مكان آخر يشبع الغريزة، ولكنه يدمر الأعصاب.
المقبرة معلم مجتهد في تعليمنا الدروس، ولكننا لانتعلم لأننا مشبعون بأمل زائف في حياة زائفة مع بشر زائفون، يشربون الزيف، ويقتاتون على الزيف..