عند الساعة الثامنة والنصف صباحاً كانت السيارة تنحرف بأتجاة الطريق الترابي المؤدي الى القرية البعيدة . كان أحمد ينظر صوب الجهات المختلفة منفعلاً كأنه طفل صغير كان قد وجد لعبتهُ المفقودة منذ زمن طويل. بين فترة وأخرى تسرق النظر اليهِ وتبتسم تارة وتحزن عليهِ تارةً أخرى لأنها كانت تشعر بمقدار السعادة التي يرزح تحتها ذلك الرجل القادم الى عالمها من المجهول. راحت تسأله عدة أسئلة عن المنطقة وتاريخها وكيف سكنها قبل أكثر من أربعين عاماً ولماذا هذا التعلق الروحي الكبير بها. شرح لها كل شيء ولكن بطريقة مختصره لأنه كان منشغلاً بإرسال نظراته الى كافة الجهات ويخبرها من تلقاء ذاته عن أشياء بدت لها غريبة حقاً . في اللحظة التي وصلا فيها الى أطلال أو المكان الذي كان يسكنه مع والديه وكافة أفراد عائلته طلب منها التوقف . الغريب في الأمر أن السماء راحت ترسل أمطارها بشكل لم يتوقعاه مطلقاً وكأنها كانت تحتفل بقدومه الى موطن طفولته وصباه وقسم من شبابه. أخبرها بأنه سيذهب الى الشجرة العملاقة القريبة من نهر الفرات ويقف تحتها لحين أفول أو توقف المطر. حينما شاهدته يركض صوب الشجرة التي كانت شاهداً على طفولته في الماضي البعيد ركضت هي الأخرى خلفه كنوع من الفضول الخفي في نفسها لمعرفة كل شيء. وقف ينظر الى أمواج النهر المتكسرة بشكل مدرجات بفعل الريح ويراقب حركة سقوط المطر على سطح الماء. كان منظراً ساحراً حقاً بالنسبة له. وقفت السيدة إنبلاج بالقرب منه ترسل نظراتها الى الطرف البعيد من النهر . كانت تشعر أنها تعيش مغامرة حقيقية لم تخطط لها مطلقاً من قبل. بين فترة وأخرى تنظر الى أغصان الشجرة الكثيفة وهي تحجب عنهما قطرات المطر بنسبة معينة. دون أن تسأله أي شيء راح يتحدث بطريقة هادئة كأنه يناجي الماضي البعيد بطريقة مسرحية رائعة ” …هل تصدقين أنني وقفت هنا قبل أكثر من عشرين عاماً حينما كنتُ أرافق إحدى القنوات العالمية . كانوا يريدون أن يصنعوا فلماً عن أي منطقة ريفية في العراق وعلى الفور جلبتهم الى هذا المكان لأسجل قريتي البعيدة في ألأرشيف العالمي عن طريقهم. قبل أن نعود وقف المصور الروسي وأعطى ظهره للماء والقى عُملة معدنية وقال ستعود يوماً ما الى هذا المكان وإن طال الزمن. سخرت لمعتقده الذي كان مؤمناً به مئة في المئة….وها أنا أعود الى نفس المكان بعد كل تلك السنوات .” نظرت ناحية الرجل وهي تقول في سريرتها ” حقاً أنت مسكين….” . أخبرها بأنها تستطيع العودة والجلوس في السيارة لحين توقف المطر . لم تتحرك من مكانها لكنها بادرته قائلة ” سأجلب مظلة المطر من السيارة وأعود” . راقبها بعدم إهتمام وهي تركض صوب سيارتها وفي غضون دقائق عادت وهي تحتمي بمظلة مطرية كبيرة جميلة. رفض أن يقف الى جانبها تحت المظلة حينما طلبت منه ذلك وفضل أن يغتسل بماء السماء الساقط على قريته الجميلة.
طلبت منه أن يحدثها عن أفضل الذكريات التي تعصف به في تلك اللحظة ولنقل يفضلها على كل الذكريات الآخرى. أطلق زفره عميقة في الفضاء الفسيح وكأنه يتمنى أن يزيح عن كاهله كل الخيالات القابعة في روحه الى الأبد. نظر في وجهها نظرة خاطفة وشعر بشيء غريب يسحبه الى الماضي الجميل ” ..تحت هذه الشجرة عانيت أشياء كثيرة نفسية مفرحة وحزينة في نفس الوقت. كتبت لها أول رسالة رائعة أبثها كل مايجيش في خاطري من حب لايوصف ..أقصد الطالبة التي تركتني وتزوجت الضابط الميسور الحال. هل تصدقين إذا قلت لك أنني كنت مبهور بها مع العلم أنها لم تكن جميلة وإنما متوسطة وحالتها المادية أقل بكثير من وضعي المعيشي. في المرحلة الثالثة من دراستنا أصرت على أن نتزوج وإلا فأنها ستذهب الى رجل آخر تقدم لها. حاولت إقناعها بأننا نتزوج بعد التخرج لكنها رفضت وقالت لي بأنها تريد أن تبني مستقبلها وتكون عائلة. الغريب أنها تطوعت على صنف المخابرات بعد خطوبتها من ذلك الرجل . شاهدتها بعد عشر سنوات وأخبرتني بأنها تعمل بصفة ضابط مدني في الأمن العامة لكنها لم تكن سعيدة حسب قولها. ” سألته السيدة إنبلاج عن إسم تلك الفتاة القاسية القلب حسب وصفها لها. حينما أخبرها الرجل بأن إسمها الكامل هو ” ..نسرين أحمد كامل جبار” . صرخت بأعلى صوتها وكأنها تلقت ضربة على رأسها وجلست على ألأرض ترتعش. ارتبك أحمد للمشهد وصرخ هو الآخر ” يا إلهي ! مابكِ ؟ هل تشعرين بأي ألم ؟ ” . راحت تنظر في وجهه برعب ثم قالت ” هل أن اسمك ….. أحمد صلاح عبد الرحمن علي ” . إرتعش الرجل هو الآخر وصاح ” كيف تعرفين اسمي ماذا يحدث هنا ؟ ” . قالت بانفعال ” تعال معي الى السيارة ” ركضت تحت المطر الغزير ولحق بها هو الآخر مرتبكاً جداً. في اللحظة التي استقرا فيها داخل السيارة كانت يدها ترتعش وهي تفتش في الصندوق الصغير القريب من المقعد الأمامي. أخرجت صورة إمرأه وصاحت ” هل هذه نسرين ؟ حينما سقطت نظراته على الصورة أحس كأن تياراً كهربائياً يعصف بكل جزء من أجزاء جسده المرهق . صاح بذعر ” كيف حصلتِ على هذه الصورة ؟ من أنتِ ” . كرر الصراخ عدة مرات لكنها كانت تنظر اليهِ برعب وترتعش دون أن تتفوه بكلمة واحدة. حينما تمالكت نفسها قالت وهي تدقق النظر في وجههِ ” أنا نادية بنت نسرين..تلك المرأة التي لفظتك قبل أكثر من أربعين عاما..يالغرابة القدر…هل هذا واقع أم حكاية خرافية..لا أصدق ما أسمع” . خرجت من السيارة ووقفت تحت المطر كأنها تريد أن يعيدها الى الواقع ودحر هذا الخيال العجيب. كانت تمسح دموعها بين فترة وأخرى تحت زخات المطر الشديدة. حينما عادت الى السيارة طلبت منه أن يتصل بصديقهِ لزيارة بيتهم وعدم سؤالها أي شيء وعاهدته على أن تحكي له كل شيء حينما تشعر بالهدوء لأنها تشعر بهبوط في الحالة النفسية في تلك الحظة. احترم طلبها وراح يتصل بصديقه فلاح. في خلال دقائق قليلة كان فلاح يترجل من سيارته المتواضعة ويركض ناحية أحمد وراح الصديقان يتعانقان بحرارة وكلمات ترحيب وقبلات لاتنتهي .
يتبع…….