20 ديسمبر، 2024 10:55 م

“الطفل … أم … ابويه”

“الطفل … أم … ابويه”

لإسبوع واحد استخدمت سيارتي الخاصة في تطبيق التاكسي (اوبر) ريثما تكتمل اجراءات التقديم على شركة شاحنات اخرى.
رَكِبَ احدهم وكان امريكياً خمسينياً ابيض البشرة استأجرني من المطار الى ناحية ريفية بعيدة نوعاً ما ففضل ان يحملني على الحوار الودي قتلاً للوقت.
الامريكي:
اسمك زهير كما هو واضح في تطبيق الاوبر اليس كذلك؟
انا: نعم هو كذلك وقد احسنت تَلَفُظه.
الامريكي: جميل اذن، بما انك عربي وبالتحديد من العراق كما ذُكر في صفحتك في اوبر اريد ان اسألك، كيف لك ان تتكلم الانكليزية بطلاقة؟ هل تُفكر بالعربي ثم تنطق بالانكليزي ؟
اطلقت ابتسامة صوتية وابديت اعجابي بسؤاله الذكي وبادلته بعض الاجابات المفيدة حتى ساقنا الحديث الى مايجري في فلســطين المُحـتلـة.
وللامانة فإنه لم يذكر اسم فلسـطين بل باغتني استرساله في الحديث مُستفهماً:
الامريكي: انتم كمسلمين كيف تنظرون لحركة حمــاس هل تعتبرونهم سيئين ام جيدين، مع النظر الى الجرائم التي اقترفوها في اسرائـيـل ؟
انا:
ليس من السهل الحُكم عليهم بالجيد او السيء فهم في النهاية ليسوا كداعــش التي تقتل كُل مخالف ومن ناحية اخرى فهم يقاتلون على ارضهم ولا يُلامون في ذلك.
نعم قد لا اميل شعورياً الى حَمَلة السـلاح في اي مكان لكني لست غبياً كي لا افرق بين من يدافع عن ارضه واهله وبين من يجوب المحيطات و القارات مُسـلحاً بحثاً عن ذرائع لمحارق ومـجازر جديدة.
انتم تصومون دهراً عن سماع اخبار فلـســطين و محيطها وتجاوزات حليفكم هناك لكن ما ان يصرخ اسـرائيلياً تنفجرون بالبكاء و النحيب وتصبحون محللين سياسيين.
الامريكي:
مهلاً، لكن تلك الارض ليست ارضهم فهي بالاصل ارض اليـهـود، وهذا ما ذُكر في عهد موسى ع لهم منذ اكثر من ثلاثة الاف سنة.
انا:
اولاً:
 لايمكننا اختيار نقطة عشوائية في الخط الزمني للتاريخ لكي نقول ( تلك هي البداية ) فقبل اليــهود بثلاثة آلاف سنة سكن الكنعانيون الجزريون (اجداد شعب فلسطين اليوم) المنطقة ثم التحق بهم الفلستينيون من الاناضول وذلك قبل اليهودية بالف ومائتي عام ثُم جيئ بيـهود مصر وقد حكمت كل من امبراطورية بابل و مصر و اشور والاغريق و الرومان والدولة البيزنطية والعباسيون و العثمانيون.
فلما لا نعطي الحق للسعودية او العراق او مصر او تركيا في الاستيلاء على ارضهم القديمة فلسطين؟
ثانياً: قُل لي ماقيمة عهد موسى (ان صح) امام الواقع الديموغرافي للشعوب؟
خذ مثلا، انتم في المسيحية قد عهد اليكم عيسى ان تحكموا العالم يوم قيامته الاخيرة فهل لكم الحق في استباق الاحداث و شن الحروب واحتلال الدول تمهيداً لقدومه؟
ونحن المسلمون كذلك قد عهد الينا نبينا محمد ص ان دينه سيسود الارض كلها على يد احد ابناءه فهل لنا الحق في سلب اراضيكم واجتياح مُدنكم؟
واذا كان التأريخ حاكماً على حق الملكية فلما تبنون جداراً عازلاً على حدود المكسيك وتمنعونهم حق العودة الى اراضيهم الامريكية واعادة استيطانها ؟
الامريكي:
لكن لما لا ينسى الطرفان ما فات ويتعايشوا كمجتمع متعدد القوميات والاديان ؟
انا:
اسألك يا رفيقي:
قلي لما ترسل الولايات المتحدة اساطيلها المسلحة عبر المحيطات ؟
الامريكي: لتحمي امننا القومي فهناك اعداءً كُثر لايريدون بنا خيراً.
انا:
جميل … اذن انتم في امريكا لا تنامون الليل هانئين لان ثمة خطر يتهددكم على بعد آلاف الكيلومترات.
اذن كيف نطلب من الفلسـطينيين واللبـنانيين والسوريين والعراقيين والايـرانيين واليـمنيين ان يغمض لهم جفن وفي ظهرانيهم عدو متغطرس يُنكل يوميا بالفـلسطينيين ويقصف لبنان وسوريا ويقضم اراضيهم ويتآمر على العراق وايران ويُفجر المفخخات ويغتال القادة في عمقهم الاستراتيجي ويزرع جواسيسه وعملاءه في كل شبر من الارض العربية؟
الامريكي:
الا تشعر ان ثمة مبالغة في كلامك تنطوي على شيطنة اليـهـود واستغراق في مـعـاداة الســامـية؟
انا لا اثق بوجهة نظر تاتي من متدين لانكم معشر المتدينون في كل الاديان دائما تحاولون الظهور بمظهر الاعتدال الديالكتيكي وتُضمرون احقادا تتفجر في الازمات فيختفي الاعتدال.
انا:
لستُ مضطراً لان اُتعب نفسي بسرد شواهد تُثبت كذبة مايُسمى ( مـعـاداة الســامـية ) لكن انت من سكنة مدينة (بتسبيرغ) واجزم انك قد سمعت بالحادث الارهــابي الذي وقع في المدينة قبل خمسة اعوام تقريبا حيث اطلق النار متـطرف امريكي مسيحي على جمع من المُتعبدين اليــهـود النار فاردى كثيراً منهم قتلى وجرحى.
الامريكي:
نعم نعم اتذكر ذلك.
انا:
انت تتذكر ذلك لكن لا تتذكر ان اكبر فئة ساهمت بالتبرع لعوائل الضحايا اليـهـود هي الجالية الاسلامية في بتسبيرك اذ وصلت تبرعاتهم الى $200000 .
لن اعود بك الى التاريخ لاسرد لك قصص ايواء المسلمين لليــهود النازحين من الـهــولـوكـوست في البلاد العربية والدولة العثمانية الاسلامية.
لكن سيعز كثيراً على جيراني اليـهـود من كبار السن في مدينة بتسبيرك الامريكية الذين سخرت كل طاقاتي لخدمتهم في جائحة كورونا لو سمعوك تتهمني بمـعـاداة السـامية.
نحن صادقون مع انفسنا يا رفيقي ونعرف من نعادي ومع من نتعاطف.
لقد قدمنا آلاف الشهداء في حربنا في العراق ضد داعــش وداعــش تدعي الاسلام لكننا في نفس الوقت نتـضـامن مع حــمـاس السنية فمعركتنا ليست ضد الاسلام السني.
كذلك لن نتوانى عن بذل المزيد من الدماء لمقارعة (دواعــش) الصهيونية في ارضنا من مُدعي اليـهـودية فمعركتنا ليست ضد اليهــود بل ضد الصـهــيونية اللقيطة.
لقد سألتني مراراً ولم اسألك.
فثمة سؤال يطن في رأسي منذ زمن مثل ذبابة تناطح الزجاج المغلق كي تخرج:
الامريكي: تفضل ؟
انا:
هل لك ان تذكر لي اسم جندي امريكي واحد قد قُتل على حدود الوطن؟
لماذا كل مداخل مقابركم العسكرية موسومة بعبارات مثل: ( شهداء ڤيتنام ) ( شهداء العراق ) (شهداء اڤغانستان ) (شهداء كمبوديا) …… الى اخره. ابحث منذ زمن عن (مقبرة شهداء سواحل فرجينيا) او (شهداء كالفورنيا) فلم اجد!
الامريكي: مُبتسماً
اعرف ما يجول في خاطرك، لابد ان نعترف ان امريكا اقوى دولةٍ في العالم ومن حقها ان تدافع عن مصالحها في اي مكان ترغب.
تخيل لو ان دولة ارهابية منعت حمولات بضاعتنا الى الدول المستهلكة الا يؤثر ذلك على الاقتصاد العالمي ؟
اذن نحن نستفيد وانتم دول الاستهلاك تستفيدون بالتبادل التجاري والكل يشعر بالسعادة مادام شريان الاقتصاد نابضا بالحياة محمياً بقوة السلاح.
انا: ضحكت بقهقهة واردفت:
ثق ان ٩٠٪؜ من بضاعتنا المستوردة هي من الصين واليابان وكوريا الجنوبية ولم نسمع يوماً ان بارجات الصين و اليابان وكوريا تجوب مضائقنا وجواسيسهم تشعل الفتن في شوارعنا وطائراتهم تحوم في سمائنا، فاي منطق امبريالي تتحدث به يا رفيقي.
قُل لي هل تعتقد فعلاً ان عجلة الاقتصاد العسكرتاري الامريكي تنشر السعادة بين المنتج و المُستهلك؟
هل تعتقد ان العالم يشعر بالسعادة حقاً في ظل تلك السياسة؟
الا ترى ان كل العالم يريد التحرر من هيمنة دولاركم الذي تهددون به الشركات و الدول؟
الامريكي:
هل تسمح لي ان اسالك سؤالاً شخصياً ؟
انا:
تفضل
الامريكي:
هل حصلت على الجنسية الامريكية ؟ و هل لديك ابناءً ؟
انا: لدي ولدين ٢٦ سنة و ٢٣ سنة ولم نحصل على الجنسية بعد.
الامريكي:
كيف ستقسمون على الاستعداد للدفاع عن مصالح امريكا عند حصولكم على الجنسية ؟
وهل ستمنع احد ابنائك لو فكر في خدمة العلم والانخراط في الجيش الامريكي ؟
انا:
قُل لي انت … ماهو نوع جهاز الخلوي الذي تحمله؟
رفع جهازه النقال و ارانيه قائلاً:
انه (I-phone14) … لماذا؟
انا:
ابني المهندس (علي اكبر) ساهم في تطوير سعة بطارية جهازك هذا وبطاريات اجهزة اللابتوب والايباد و ساعة ابل.
اما ابني الثاني فهو محترف في الدوري الممتاز لدولة جورجيا وحين تبحث عنه في المواقع الرياضية سترى العلم الامريكي جنباً الى جنب مع العلم العراقي.
العسكرة ليست حرفتنا، ويمكننا ان نمثل البلد في مجالات اخرى كما يفعل معظم الامريكان.
لم اربي ابنائي على حمل السلاح بغية الحصول على منحة دراسية او طعام وسكن مجاني او رعاية صحية كما يفعل الكثير من المجندين الامريكان.
دعني اريك شيئاً اخر:
اخرجت جهازي الخلوي واريته صورة لشهادة بطولة بإسمي: (Heroes of the Pandemic) وقلت شارحاً:
منحوني تلك الشهادة التقديرية لاستمراري بالعمل في الشاحنات خلال الجائحة، لست انا فحسب بل رفيقة الدرب ( ام علي ) هي الاخرى مُنحت تلك الشهادة تثمينا لجهودها في مختبر التحليلات اثناء الجائحة.
نحن بشر طبيعيون يا صديقي متحمسون لفعل الخير وتحقيق الرضا الذاتي والمواطنة الصالحة اينما حللنا لكن ليس على طريقة الجندي الكوني الهوليوودي ولن يمنعنا انضباطنا من قول الحق ورفض التزييف والانقياد مع القطيع.
انعطفنا اخر انعطافة مسترشدين بدليل ال GPS فبانت من خلف التل الاخضر قرية الراكب الامريكي فتهلل وجهه فرحا.
عشرات الاطفال يجوبون الشوارع بازياء الهولوين يطرقون الابواب بحثاً عن السكاكر والبسكويت …
“يا الله … ما اجمل منظرهم” … قلت مُستبشراً.
فتح الامريكي الباب و ترجل من السيارة حاملاً حقائبه متشوقاً لرؤيته ابويه العجوزين واطفال الحي تحيط به:
‏” Trick or Treat”….  “Trick or treat”
دمعات معاندة تتفجر في عيني فادرت الجهاز على قناةٍ شرق اوسطية كي اتابع مضغ الالم والتمزق النفسي لمشاهد اطفال غزة تحت الانقاض:
” Trick or Treat… يموت الطفل .. ام الابوين … ام كلهم”

أحدث المقالات

أحدث المقالات