الحلقة الاخيرة
نهض بتثاقل وهو يقول ” لاتوجد فائدة من وجودي هنا بعد الآن…لقد ضاع مني كما ضاع أولادي وتركوني أعاني عذاب الوحدة والرغبة القاتلة للحديث معهم عن أي شيء…تستطيعين القيام بكل شيء لوحدك ..أو مع أقرباؤك إن كان لك أقرباء… سأنسحب من هذه المعركة الخاسرة كما إنسحبنا من أرض الكويت والمطلاع وحفر الباطن وتركنا قتلانا تنهش أجسادهم الغرباء والوحوش…المعذرة لأنني لم أستطع أن أفعل أي شيء…” تركها مسرعاً صوب البوابةِ الخارجية للمستشفى. كانت تركض خلفه كالمجنونة تطلب منه ألأنتظار بعد ساعات ألأحتظار. مسكته بقوة من يدهِ اليسرى وهي تصرخ ” خذ هذا مفتاح سيارتي .. هي هدية مني لك..أن تستحق كل شيء..” نظر إليها بعينين حمراويتين غاضبتين وهو يصرخ بأعلى صوته ” أنا لستُ شحاذاً ….لاأريد منكِ أي شيء.. من قال لكِ أنا أريد ثمناً لعملٍ خيري إنساني أردتُ القيام به…أستطيع أن أدبر معيشتي حتى لو تخلى عني أبنائي..لازلتُ قوياً …” دفعها أمام الناس وأسرع نحو البوابةِ وهو يبكي كالطفل الرضيع. إستأجر سيارة إلى مكان تواجد عربته البسيطة. على طول الطريق الممتد بين المستشفى ومكان تواجد عربته كان سارحا ساهما في عالمٍ من الحزنِ والشرود . نسي عربتهِ تماما ولم يعد يتذكر سوى نظرات ذلك العجوز المسن ..تذكر كيف كان يمسك يدهِ وكأنه غريق في عالم الغربةِ والوحشة والضياع..كانت نظراته الصافية تنطق أشياءاً كثيرة.. كم تمنى لو أنه إستطاع أن ينقذه في لحظاتهِ ألأخيرة…أعادت له صورة ذلك الرجل ..اللحظات ألأخيرة التي كان ينظر بها إليه أحد أقربائه ألأعزاء وهو يلفظ بها أنفاسه ألأخيرة.
طلب من سائق سيارة ألأجرة أن يتوقف في الجهة المقابلة لعربته المتواضعة. قبل أن يعبر الشارع نظر من بعيد ليتأكد من وجود عربته…شاهد منديله ألأبيض يرفرف بقوةٍ كبيرة بسبب الرياح …كان الجو ملتهباً . تنفس الصعداء وهو يقول ” الحمد لله لازالت في مكانها” . في اللحظة التي أصبح قربها وقف مذهولاً..لم يُصدق ماكان قد وجدهُ . كان هناك عدد من قصاصات الورق مخبأه في الكتاب الذي وضع فيه رسالته إلى كل الشرفاء في الطريق السريع. لم يجد أي شيء من بضاعته فقد إختفى كل شيء عدا العلب الفارغة وأعقابُ من سكائر ملقاة عند حافة الشارع. كانت النقود في وسط العلبة المعدنية التي خصصها لجمع ” الوارد اليومي”. قرأ القصاصة ألأولى ” أنا لص ..أعتاش على السرقة..قررتُ إختطاف كل شيء..في اللحظة ألأخيرة ..قلتُ مع نفسي ماذا أفعل بدراهم معدودة؟ أنا أبحث عن أشياءٍ ثمينة..منذ نعومة أظفاري وأنا أسرق ..لا أدري لماذا تركتُ نقودك..لايهم ..أخذتُ علبتين من علب البيبسي وعلبة سكائر..النقود في العلبة المعدنية..من يدري ربما أجد صيداً أضخم من هذا الذي تحتفظ به هنا..مع السلامة..أخوك أبو دموع”. وضع القصاصة جانباً ليقرأ القصاصة ألأخرى ” أسعدني كلامك الجميل ..حينما شاهدتُ المنديل ألأبيض راودني فضول لمعرفة سبب وجود المنديل والعربة المركونة على قارعة الطريق…شعرتُ أن هناك ثمة لغزٍ يكمن وراء ذلك . أنا مدير شركة “………….” للمقاولات العامة في مركز العاصمة…أبحث عن رجالٍ مخلصين ..إذا كانت لديك الرغبة للعمل معي إتصل بي على الهاتف الموجود في أسفل الورقة..من يدري قد تكون لك فرصة جيدة ….أشتريتُ علبة سكائر وعلبة سفن آب….النقود في ” صندوق الوارد اليومي ..أبو أمجد “. كانت بقية الأوراق مجرد دعاء بالموفقية للمبادرة ألأنسانية التي قام بها العم سمير.
جمع النقود ..وضعها في العلبة المخصصة…وضع العلب الفارغة في علبةٍ كارتونية وعاد يجر قدميه بتثاقل صوب البيت. أستقبلته شريكة حياته كعادتها كل يوم بكلمات الحب والدعاء بالصحةِ الجيدة..لم ينبس ببنت شفه. كان صامتاً على غير عادته حينما يدخل البيت بعد إنتهاء عملهِ . دون أن يتوجه إلى المطبخ كما كان يفعل كل يوم..إنسل بصمت تام إلى غرفة نومه ..إستلقى على فراشه بصمتٍ حزين. لم تحاول زوجته ألأستفسار عن سر هذا التحول في البداية أرادت أن تهبه متسعاً من الوقت كي يعود إلى سابق عهده كلما شعر بنوبةٍ من الحزن التي كانت تسيطر عليه بين الفينةِ وألأخرى. إستغرق في نومٍ كطفل سأم اللعب بأشياء رتيبة. في الليل جلس إلى جانب زوجتهِ في المطبخ صامتاً إضطر بعدها إلى شرح كل شيء لها بناءاً على إصرارها المتواصل. ” إترك هذه المهنه وعد إلى حالة الجلوس في الحديقة ..لن نموت من الجوع…لا أطيق حالة اليأس التي حلت بك هذا اليوم.” قالت ذلك وهي منشغلة بترتيب مائدة الطعام. لم يعلق على كلامها. في الصباح عاد للعمل في نفس المكان والزمان. كان يشعر أن الطريق السريع أصبح جزءاً من حياته. أضافَ إلى بضاعته شيئاً آخر ذلك اليوم. حاولت زوجته في الصباح أن تثنيه عن القيام بذلك لأن الناس سيضحكون عليه على حدِ قولها. لم يهتم لكلامها ” فليضحك العالم كله عليّ طالما أنني لست بسارقٍ ولا منتهكاً حقوقِ أي إنسان” قال هذه العبارة وهو يندفع خارجاَ من بوابة البيت عند بزوغ الشمس. كان قد حمل معه كل روايات أرنست همنغواي وبعضا من كتب دي. أج. لورنس وإحسان عبد القدوس. كانت لديه كتباً قديمة كان يحتفظ بها قبل أكثر من ثلاثين عاما. كانت زوجته قد رزمتها في صناديق كارتونية وخزنتها تحت سلم البيت الداخلي. بين فترةٍ وأخرى كانت تحثه على حرقها أو إلقائها في مزابل المدينة. قرر مع نفسه أن يقضي كل ساعات العمل في إعادة قرائتها إن لم يتقدم أي شخص لشرائها .
كان يشعر بعدم إرتياح وقلق . حادثة اليوم الفائت قد شغلت كل عصبٍ من أعصابه . كان كمن وقع تحت تأثيرِ مخدرٍ مرعب. راح يقرأ في كتابٍ دون أن يفقه منه أي شيء. لم يعد يستطيع التركيز مطلقاً . أحس أن شيئاً ما قد إخترق عالمه وجعله يسبح في دوامة ٍ من الفراغ التي لاتنتهي. راح يتكلم مع ذاته بطريق الهمس وألأيحاءات التي لايفعلها إلا مجنون أو من كان قد تلبسته حالةٍ من ضياع الروح إلى ألأبد ” لماذا لم أبقَ معها وأشاركها في مراسيم نقل الجثةِ إلى عالمها ألاخير؟ ماذا ستقول عني؟ أنا لا أصلح لأي شيء..أنا مجرد جسد بلا روح..لقد فقدتُ حاسة الشعور بالموتى والبؤساء.. سحقاً لي ولعالمي الخيالي الذي لن أجني من ورائه سوى الخيبة وألأندحار…”. ألقى الكتاب جانباً مدَّ ساقية ..أرخى رأسهُ على صدرهِ في محاولةٍ للهروب من عالم الواقع وتجاهلِ دمدمة السيارات المنطلقة بسرعةٍ جنونية. وبينما كانت ألأفكار المرعبة تسيطر عليه من كل ألأتجاهات وهو بين اليقظة والخيال سمع صوتاً لسياراتٍ تطلق صفيراً مدوياً قادمة من بعيد . كانت ثلاث سيارات شرطة تشق عباب الهواء من الجهة ألاخرى للطريق السريع فتح عيناه كمن أصابه رعب مفاجيء . كانت السيارات قد تجاوزته بسرعة البرق وعند الفتحة البعيدة شاهدهن ينحرفن نحو الجهةِ التي يجلس فيها. قال مع نفسه بهلعٍ ” ياستار.. ماذا يحدث اليوم؟” وفي لمح البصر توقفن بالقرب منه. ترجل ضابط شاب لايتجاوز عمره الخامسة والعشرين أو أكثر بقليل. تقدم نحوه وهو يقول ” هل أنت العم سمير؟”. نهض العم سمير بخوفٍ شديد وقلقٍ مستديم ” نعم..أنا …هل هناك …..” لم يستطع مواصلة الكلام فقد قاطعه الضابط الشاب قائلاً ” تفضل معي..قاضي التحقيق الجنائي ألأول يطلبك ألآن “. شَحِبَ وجه العم سمير وراح يقول بتلعثم ملحوظ ” لم أرتكب جريمة في حياتي.. لم أسرق شيئاً طيلة عمري..لم أشترك في أي حربٍ طائفية.. لم أعتدِ على حقوق أي إنسان طيلة عمري..لم أشترك في أي مظاهرة ..لم أهرب يوماً واحداً من الجيش القديم…لم أشترك في أي تجمع سياسي أبداً..لم أتكلم بسوء ضد أي حاكم ….لماذا يطلبني قاضي التحقيق الجنائي ألأول ؟”.
إستدار الضابط نحو أحد رجالهِ وهو يقول بنبرةٍ آمِره سرعان ما إمتثل لها رجل الشرطةِ ألأخر ” رابط هنا قرب هذه العربة ولا تدع أحداً يقترب منها” إلتفت الضابط إلى العم سمير وهو يسحبه برفق من يدهِ ” تفضل معي ..لا أعرف أي شيء أنا مجرد مأمور لتنفيذ واجبي”. في لمح البصر إنطلقت السيارتين تشقانِ عباب الريح نحو المجهول. كان العم سمير يرتعد طيلة الفترة التي قضاها داخل سيارة الشرطة..حاول أن يستذكر حياته منذ أن كان طالباً في جامعةِ المدينة الكبيرة حتى هذه اللحظة يبحثُ في تجاويف ذهنهِ المرهق عن أي حادثة أو فعلِ مشين يعاقب عليه القانون. لم يجد أي شيء . إستسلم لقدره وقال مع نفسه ” إنها تهمه كيديه..سأقضي قسماً من عمري في السجن وأنا بريء ……”. في اللحظةِ التي دخل فيها مكتب مدير قاضي التحقيق الجنائي ألأول إنسحب الضابط الشاب وهو يؤدي التحية للرجل عالي الشان. رحب به مدير المكتب وهو يقول ” هل تمت مضايقتك من قِبل الضابط أو أي واحدٍ من رجاله؟” تلعثم العم سمير وهو يجيب بصوتٍ مبحوح ” كلا”. صمت الرجل . وضع يده على زرٍ قريب منه . في لحظاتٍ لاتُذكر دخل رجل وهو يقول ” نعم سيدي”. أشار إليه مدير المكتب دون أن ينبس ببنت شفة ” حاضر سيدي”. وخرج بهدوءٍ من الغرفة. بعد لحظات مناسبة دخل ثلاثة رجال يحملون طعاماً شهياً. عند إتمامهم لمهمتهم تقدم مدير المكتب وهو يقول ” تفضل معي لنأكل سوية بعدها نتحدث في ألأشياء المهمة”. حاول العم سمير أن يبين له بأن ليست له أي رغبه لتناول أي شيء . إبتسم مدير المكتب وهو يقول ” لاتخف ..إذا لم تأكل فلن أتناول أي شيء.. من أجلي شاركني هذا الطعام”. راح المدير يتحدث عن أشياء عامة وعن قصص فكاهية ويضحك لوحده . قبل أن ينهي طعامه نظر إلى العم سمير وقال بجدية ” إسمع أيها العم سمير..ستبقى معنا هنا ثلاث ساعات فقط ثم نعيدك إلى نفس مكانك..لاتسألني عن أي شيء لأنني لا أعرف..أي شيء..واجبي أن أبقى معك هنا أو لنقل تبقى معي هنا ثلاث ساعات ثم تعود ..قد تقابل أشخاصاً هنا أو قد لايحدث ذلك..المهم أن تنقضي الثلاث ساعات ثم تعود .. هل هذا مفهموم ؟ إذا كنت في حاجةٍ لأي شيء أنا مكلف بتنفيذها..إذا أردت النوم أو ألأسترخاء يوجد لدينا مكان لهذا..إذا أردت ألأستحمام ..يوجد لدينا مكان لهذا..لا تسألني أي شيء”.
ظل العم سمير صامتاً ينظر إلى أرجاء الغرفةِ ألأنيقة الزاخره بأشياء لاتعد ولاتحصى..قطع رخامية لتماثيل جميلة جداً ودواليب من أرقى ماوقعت عليه عيناه في حياته الطويلة. كان المدير ينشغل بين الحين وألأخر بمكالمات طويلة تدل على عملٍ لاينتهي أبداً . كان العم سمير ينظر في ساعته اليدوية يعد الثواني والدقائق كأنها سنين عجاف لاتنتهي. مضت ساعة وأخرى…حسناً بقيت ساعة على المصير المجهول والنطق بالقرار الذي قد يغير كل تاريخ حياته إلى ألأبد… من يدري قد يدخل السجن دون أن تعرف حبيبته التي شاركته كل شيء طيلة السنوات المنصرمة..ستبكي في الليل إن بقيت لوحدها..لا..لا..ستصاب بالجلطة إن جاء الليل دون أت يعود لمنزله البسيط..لا.لا…ستموت في اللحظةِ التي تعلم بدخوله السجن.. كانت تقول له دائما ” بالله عليك لاتتأخر بعد مغيب الشمس…أيتها المسكينة …ماذا جنيتِ كي تتعذبي معي كل هذه السنين .؟” حسنا بقيت نصفُ ساعة. رن جرس الهاتف..إلتقطه المدير بسرعةٍ متناهية ” حاضر” ..هي الكلمة الوحيدة التي قالها. نظر إلى العم سمير وهو ينهض قائلاً ” تفضل معي ستقابل بعض ألاشخاص..لاتهتم ..كن صبوراً” . كان قلب العم سمير يدق بعنفٍ وهو يقف قرب الباب الذي سيدخل من خلاله لتقرير مصيره إلى ألأبد .قال المير للعم سمير وهو يفتح الباب بهدوء ” تفضل” . في اللحظةِ التي دخل فيها الرجل المرعوب خرج مدير المكتب. أنعقد لسان العم سمير ظل واقفاً كأنه فقد قابلية النطق. كان الضابط الشاب يجلس على أريكةٍ فاخرة يطالع صحيفة يومية وخلف مكتبٍ فاخر جداً جلست المرأة التي توفى والدها أمس. نهضت بسرعة متقدمه نحوهُ وهي تقول ” العم سمير ..أهلاً وسهلاً” وراحت تقبل خديهِ كأنها تعرفه منذ أن جاء إلى هذا العالم. نظرت ألى الضابط الشاب وهي تقول ” أحمد إذهب إلى عملك” . وقف الشاب بسرعه وهو يقول ” حاضر ماما”. خرج دون أن يلتفت إلى العم سمير.
بنظراتٍ حائرة وصوتٍ متهدج راح يتكلم بتقطع ” أنتِ…أنتِ؟ ماهذا ؟ هل أنا في حلمٍ أم أن هذا حقيقة؟”. سحبتهُ من يدهِ بلطفٍ تام وهي تقول ” لاتهتم ..تعال وأجلس هنا قربي لنتحدث عن كل شيء ” . كانت الصدمة قد عقدت لسانه لدرجه أنه لم يعد قادراً على قول أي شيء. كان كغريق شارف على الهلاك. وهي تقدم له قدحاً من الماء البار قالت ” ستعرف كل شيء بعد قليل…سنذهب أنا وأنت في سيارتي..عفوا سيارتك التي رفضتَ أن تأخذها أمس..لقد سجلتها بأسمك وأنتهى كل شيء..لم تعد ملكاً لي..بعد دقائق سأعيدك إلى مكانك بنفسي..أنا قاضي التحقيق الجنائي ألأول..أنت تستحق أكثر من هذا بكثير…” سكتت قليلاً ثم قالت ” أُفضل أن نتحدث في الطريق ..فلنذهب ألأن ” قبل أن تخرج ضغطت على الزر القريب من مكتبها. دخل مدير المكتب تحدثت إليه بطريقةٍ أخرى ” سأخرج ألآن وأعود بعد ساعتين..من يتصل قل له ستعود بعد ساعتين…” خرجت من الغرفة وهي تسحب العم سمير من يده بلطفٍ تام. كانت تقود السيارة بهدوء وتتكلم طيلة الوقت لدرجة لم تكن هناك فرصة له للحديث إلا ماندر ” الضابط هو أحمد إبني الوحيد..والده مدير البلدية التابعة للمنطقة التي تسكن بها أنت..تحت إمرتي عدد لابأس به من رجال الشرطة..حالتنا المادية جيدة جداً..أمس إتصلت بألأقرباء وقاموا بكل شيء فيما يتعلق بدفن والدي..الفاتحة تقام في مسجد “……” من الرابعة حتى السابعة مساءأ..هناك من يقوم بالمهمة عني. حدثت الجميع عنك وعن كل شيء. الكل تواقين لمقابلتك. قد تقول لماذا ذهبتُ معه أمس لوحدي؟ هناك أسباب خاصة لا أريد البوح بها الآن. طلبتُ من زوجي أن يجهزك بكرفان كبير في نفس المكان الذي تبيع فيه بضاعتك البسيطة… كلفتُ شخصاً ما ليجهزك ببضائع متنوعة للكرفان كلها من نقودي الخاصة. طلبت من مدير المكتب أن يبقيك ثلاث ساعات لغرض نصب الكرفان في هذه الفترة كي تكون مفاجأة لك..أنا لاأتصدق عليك أبداً. اللحظة التي شاهدتك فيها تحمل والدي بين ذراعيك وأنت تدخل المستشفى راكضا لاتلتفت لصيحات رجال المستشفى أقسمت مع نفسي أنك ستكون أخي حتى يوم مماتي.سأبقى أمنحك أي شيء ثمين حتى لو أضطررت لأستخدام القوة إن لم تقبل. ”
كانت تمسح دموعها بين الحين وألأخر. كانت ذكريات اليوم المنصرم تسيطر عليها بشكل لايمكن التخلص منه أبداً. حاول أن يقول شيئاً بيد أنها أشارت له بعدم قول أي شيء حتى تنتهي من حديثها. إستأنفت حديثها بصوتٍ واهن ” عبارتك التي تقول – سأعلق منديلي ألأبيض علامة الحب والسلام لكل الناس – هزت مشاعري وجعلتني أذرف دموعاً طيلة ليلةِ أمس. سأجعل مكانك الذي تعمل فيه مكانا مقدساً زاهيا لكل الناس.. اللحظة التي شاهدتك تحمل فيها والدي من السيارة كي يتقيأ كانت لحظة مقدسة يالنسبة لي…لن أنساها أبداً. كنتُ أغرق في تلك اللحظة ..كان جسدك جسراً أعبر عليه إلى الضفةِ ألأخرى …كان بأمكاني أن أتصل بأأحمد ويجلب لي كل سيارات الشرطة المتواجدة في الواجب آنذاك..كنتُ كطفلة تخاف الظلام لا أعرف ماذا أفعل؟ نسيتُ كل شيء في حينها..نسيتُ من أنا وما هو مركزي الوظيفي… لم أجد سوى كلمة – عمو ساعدني – كنتَ كريماً أقصى درجات الكرمِ والشهامه والصدق في حبِ الناس. جن جنون أحمد أمس حينما حدثته عنك ..طلب مني أن نذهب أليك ليلة أمس ..ولكنني لا أعرف أين تسكن وفي أي بيت. وبخني زوجي لأنني لم أتصل به أو بأحمد. لا أعرف هل قدرك الذي ألقى بك قرب الطريق السريع أم قدري الذي ألقى بي إلى ذلك الطريق. إن لم يكن عندك بيتاً سأشتري لك أفضل بيت. زوجتك ستكون بمثابة أمي. سأتردد عليك مرات عديدة في الشهر كضيفه كواحدة من بناتك. فقط قللي من يزعجك في منطقتك..سأعلقه في حبل المشنقة في لحظات. ” كانت تتحدث والدموع تنهال من عينيها كتيارٍ جارف.
في اللحظة التي إقتربا فيها من مكان العمل مسحت دموعها وعادت إلى حالتها الرزينة. وقف العم سمير قرب عربته مذهولا. كان هناك – كرفان عملاق خلف السياج الحديدي للطريق السريع يقف شامخا وعمالاً يدخلون ويخرجون كأنهم خليةِ نحل كبيرة ..قُطع الشارع السريع تماماً ..أصبح خالياً من حركة السيارات كأنَّ هناك منعاً للتجوال في يوم إنتخاباتِ رئيساً جديداً للبلاد…صُفت ألأعلام الوطنية على كلا الجانبين كأنه يوم خاص لأفتتاح الطريق السريع..كان العم سمير يبكي بصمت..هل هذا عرسٌ أم مأتم لروحٍ شارفت على الأفول؟ كانت العربة مركونة خلف الكرفان ..عليها كتباً قديمة وبضاعتةِ على حالها تئنُ بصمتٍ أم ترقص طرباً لايعرف الوصف الحقيقي لحالةٍ كهذه أبداً. تقدم الضابط أحمد من قاضي التحقيق ألأول وهو يؤدي التحية بقوة قائلاً ” كل شيء جاهز” . سحبت المرأة يد العم سمير ناحية باب الكرفان..قدمت له – مقصا – قائلة ” أنت ستفتح ألأسواق..لا أحد غيرك..” بيد مرتعشه قص العم سمير الشريط الملون…في اللحظةِ التي إنقطع فيه الشريط صاح الضابط أحمد بأعلى صوته ” أطلق النار في الهواء…..” أكثر من عشرين بندقية راحت تزغرد في الفضاء كأن حرباً مباغته إنطلقت عند الطريق السريع…بعدها صرخ مرة أخرى ” إنهي ألأطلاقات ..الى مواقعكم..إنطلق ..إنتهى الواجب” تدافع رجال الشرطة نحو سياراتهم يتقدمهم الضابط أحمد وأنطلقوا على الطريق السريع وصفارات سياراتهم تشق الصمت بلحنٍ مؤثرٍ جميل. حينما دخلت المرأة مع العم سمير الى داخل الكرفان أُعيد فتح الطريق السريع وعادت السيارات تنطلق بسرعة لا أحد يعرف سر أنقطاعه على حين غرة.
وقف العم سمير وسط الكرفان لايعرف ماذا يقول..هل هذا حلم كما يحدث في الروايات التي كان يقرأها في الزمن السحيق..أم هذا واقع ملموس؟ كانت المرأة تشرح له كل شيء…هذه بضاعة من أرقى بضاعة موجودة في أسواق الجملة.. وهذه ثلاجات مملوءة بالمشروبات ..وهذا مكتب لك كي تجلس عليه..لقد تم ترتيب كل شيء. سأتركك ألأن ..تستطيع أن ترتب أي شيء حسب ماتراه مناسباً …” قبل أن تنهي كلامها توقفت سيارة فارهه ..ترجل منها رجل وسيم في نهاية الخمسينات من عمره صرخ بهدوء نسبي ” ميساء” . حينما سمعت إسمها قالت ” هذا زوجي تعال كي أعرفك عليه”. سحبته كأنه طفل صغير. ” أقدم لك العم سمير..سمير هذا زوجي..” تصافح الرجلان بقوة. قال الزوج ” هل أنتِ راضية ألآن.؟ لقد فعلتُ كل مافي وسعي لأنجاح المهمة…سيادة القاضي” وراح يضحك بصوت منشرح وهو يتوجه نحو سيارته . قبل أن تستقل السيارة مع زوجها..كانت هناك إمرأة تركض بأقصى سرعة وهي تصرخ باكية ” سمير ..سمير.. أين كنت؟ جئتُ إليك ولم أجدك..كان رجال الشرطة يحرسون عربتك وأنت غير موجود..أين كنت؟ حينما سمعتُ الطلقات النارية أيقنت أنهم قتلوك..” إرتمت في أحضانه وهي تبكي بحرقة شديدة. حينما هدأت حدة بكائها قدمها إلى ” ميساء وزوجها” قائلا” أصبح عندنا سوقاً بدل العربة ..ستعملين معي من الصباح حتى المساء..سأعطيك راتباً شهريأ. لم تفهم ماكان يقوله في تلك اللحظة. قالت ميساء ” خذ مفاتيح سيارتك سأذهب مع زوجي في سيارته سأمر عليك كل يوم حينما أذهب إلى العمل وعند العودة على هذا الطريق السريع..وداعاً في الوقت الحاضر”. إختفت السيارة والملاك الذي فيه في لمح البصر.
تمت