23 ديسمبر، 2024 12:36 ص

الحلقة رقم – 1 –
حينما بدأت تباشير الصباح تنبثق بهدوءٍ على البيت المتواضع القريب من الطريق السريع وإزدادت أصوات العصافير حده على شجرة السيسبان الوارفة ، طفق العم ” سمير” يلملم حاجياتهِ القليلة المتواضعة كي يضعها في عربته الصغيره التي كان قد صنعها بنفسه قبل أيام ليتخذ منها وسيلة جديدة للعيش في هذا العالم المظلم الدامي. أنواع مختلفة من علب السكائر المختلفة ألألوان وألأحجام . رصفها بطريقةٍ أنيقة كأنه يرصف رصيفا لطريقٍ جانبي تم إهماله منذ مئات السنين. كان يعرف في قرارةِ ذاته أن بضاعته ماهي إلا ” سموم” قد صُنعت خصيصاً لتدمير البشر في كل زمانٍ ومكان. وقفت شريكة حياته إلى جانبه تمده بشيء من القوة والطاقةِ الكامنة في جسدٍ بشري لم يعد له دور في هذه الحياة سوى ذكريات الماضي السحيق ” ومغامراته” حينما كان يافعاً يرفد من أنهار الحب الخالد ذكرياتٍ سقيمة أكل الدهر عليها وشرب. كانت تخالفه دائماً في التعامل مع هذه البضاعةِ التي تعتبرها ” محرمه” في نقاطٍ كثيرة. كانت تتوسل إليه أن يتعامل مع أشياءٍ أخرى مفيدة للمجتمع والتنمية البشرية. سنين مرت كلمح البصر لم يكن فيها سوى الحرمان وألاشتياق إلى أشياءٍ كثيره ليس لها حصرٍ أو عد. أحلامٌ لم تجد لها طريقاً سوى الدموع وألأنتظار كلما غابت شمس يومٍ وبزغ فجرٌ جديد. كان يعرف تماماً أن كلامها صحيح مبني على أُسس علمية ومعروفه للجميع بَيْدَ أنه يسير حسب ماتمليه عليه ضرورات الحياة اليومية. كانت تساعده في مليء البراد الصغير المصنوع من طبقةٍ عازله لحفظ علب المشروبات الرخيصة…أنواع مختلفة من علب البيبسي والسفن آب وأشياء أخرى.

إنطلق بهدوء يدفع عربتهِ الصغيره صوب الشارع السريع الذي لايبعد عن موقع البيت إلا مايقرب من المائتي متر أو أكثر بقليل. حينما يصبح على بعد أمتار قليلة إعتاد أن يلتفت إلى الوراء كأنه يستمد من شريكة حياتهِ قوة خفيه تعينه على قضاء كل النهار هناك وحيداً على حافة الشارع يحلم ببيع كل ماكان قد وضعه في العربه. إعتادت هي ألاخرى أن تصرخ بصوتٍ مكتوم كلما غادر البيت ” كن هادئاً ومطمئناً ..الرزق على الله “. كانت تلك الكلمات الصادرة بأخلاص من شخص شاركه كل معاني الحب والحنين على مدى سنوات شارفت على الثلاثين عاماً تمنحه قوه خفيه لاتنتهي طيله تواجده وحيداً على الشارع السريع. يتخذ مكانه المعتاد قرب الرصيف الحديدي للطريق الجهنمي الطويل . يبدأ بترتيب سعفات النخيل اليابسة التي إتخذ منها سقفاً بسيطاً كي تقيه حرارة الشمس الملتهبه طيلة فترة تواجده هناك. مضى على تواجدهِ في هذه المهنة نصف شهرٍ أو أكثر بأيامٍ قليلة. في ألايام ألأولى لم يوفق في شيء فقد كان يعود إلى البيت مهموماً لأنه لم يبع إلا علبةِ سكائر واحدة أو ثلاثة علب من السفن آب. قرر ترك العمل والرضوخ وألأستسلام إلى مصيره المجهول من شظف العيش وإنتظار راتبه التقاعدي فقط والذي لايكفي لأشياء كثيرة . كانت شريكة حياته تمده بكلمات تعيد له الحياة أحيانا وأحيانا أخرى يستهزأ منها. ظلت تغرس في روحه نبضات ألأمل وألأحلام الكبيره يوما بعد آخر ” لاتيأس ..لاتستسلم أبداً..ألأستسلام هو الموت بعينهِ..يوماً بعد آخر سيكون حضورك هناك مألوفاً كل أصحاب السيارات والمركبات المختلفة سيتعرفون عليك…مرحلة تكوين الحضور شيء مهم جداً في معركةٍ كهذه. صدقني ستحب المكان وسيصبح جزءاً من حياتك…من يدري قد يحدث شيء مفيد..إذا بقيت جالساً في البيت تنظر إلى أغصان الشجرة هذه وتراقب حركات العصافير ..لم تحقق إلا مزيداً من ألآلام وكره الذات. إبني لك وهماً هناك وصدقهُ من يدري قد يكون ذلك الوهم حقيقة وتتحول حياتك وحياتي إلى شيء آخر…البيت خُلق للنساء وليس للرجال. حياتنا هذه لايمكن العيش فيها دون وهم جميل ..قد يعذبنا هذا الوهم ولكن قد يمنحنا حلماً يرفد حياتنا بأشياء جميلة.”

كانت كلماتها ترن في أذنيه كلما جلس قرب الطريق السريع ينظر إلى المسافات المترامية وتموجات السراب التي تشبه الماء. أحياناً كان العم : ” سمير ” يشعر بالعار والخذلان من أن يراه شخصاً يعرفه أو صديقِ طفولةٍ شاركه مقاعد الدراسةِ الطويلة . لم يكن العم سمير بائعاً إعتياديا كؤلائك الباعةِ المنتشرين في مناطق مختلفة من العاصمة الكبيرة. كان شخصاً آخر ينتمي إلى عالمٍ خاص . شيءٌ واحد جعله ينتمي إلى هذا الشارع السريع ينتظر بزوغ الشمسِ كل يوم كي يجلس هناك تحت سقف بسيط يتكون من سعف النخيل. كانت ملايين السيارات تمر من أمامهِ كل يومٍ يحدق في كلِ واحدةٍ ويقول في ذاته ” من ينظر إلى هذه المركبات الكثيرة يشعر أنه لايوجد شيءٌ إسمهُ الفقر في هذا العالم.. من أين جاءت كل هذه المركبات وكيف تم دفع سعرها..قضيت أكثر من خمسين عاما دون أن أتمكن من شراء نصف مركبه من هذه المركبات..دخلتُ حروباً كثيرة وشاهدتُ مآسي جمه..ولكن يبقى السؤال…لماذا لم أتمكن من الحصول على واحدة طيلة هذه السنوات..هل هو العيب في شخصي أم في مكانٍ آخر؟” .

بعد لحظاتٍ من هذا التأمل وحديث الروح يستعيد وعيه ويستغفر الله من كلِ ذنبٍ عظيم. يتذكر كلمات شريكة حياته ” أهم شيء في الحياة أن يكون المرء مطمئن البال خالٍ من أي ذنوب وأعمال شريره وأن لايؤذي ألآخرين وأن يعود إلى بيتهِ سالماً من أي مكروه ” وتعيد له سرد حكاياتٍ مأساوية حدثت للجيران….كيف تمزقت أشلاء بنت جيرانهم عند الجامعة المستنصرية وكيف تمزق جسد خطيب “غفران” في باب المعظم وحوادث أخرى مرعبة يعرفها كل من عاش في هذا البلد في سنواتٍ معينه. حينما يستعيد تلك الحوادث يحمد الله كثيراً لأنه لازال على قيد الحياة هو وزوجته بالرغم من سنوات الحرب التي لاتنتهي . يجلس بالأتجاه المعاكس للشارع الطويل يفتح كتاباً لكاتبٍ عالمي ويبدأ بألتهام سطوره الواحد تلو ألأخر بنهمٍ لاينتهي. حينما يستغرق في الكتاب ينسى الشارع السريع ولم يعد يسمع أي شيء سوى دمدمات مكتومة كأنها طبول تُقرع لقبائل الزنوج في إحدى الغابات الوحشية. في يومٍ ما وبينما كان يسبح في عالم إحدى الروايات العالمية توقفت سيارة ” ميني باص” . إلتفت صوبها وهو لايزال تحت مخدر إسلوب الكاتب الفريد . ترجلت مجموعة من الطالبات الجامعيات بملابسهن ألأنيقة جدا . كُنِّ يتدافعن للوصول إلى ” الصندوق الفليني” بضحكاتٍ هستيريه خارجة عن المألوف. كل واحدة منهن تتحسس مدى برودة العلبة. في لمح البصر كان ” صندوق الفلين” قد نفذ عن بُكرةِ أبيه. لم يفاوضن على السعر وكأن ألامر كان لايعنيهن من قريبٍ أو بعيد . كان العم سمير ينظر إليهن بمرح ٍ وحزنٍ في نفس الوقت. كان سعيداً جداً لأن بضاعته قد نفذت وهذا معناه العودة إلى البيت قبل نهاية النهار وحزين لأن تواجد الفتيات قد أعاد لروحه المنهكه سراباً كان قد عاشه قبل أربعين عاما .

كُنَّ يتحدثن عن أمور دراسيه وعن أسئله إمتحانيه تخص لغه أجنبية كُنِّ يدرسنها في ذلك الزمن. على حين غره حدث شجار طفولي بين البعض منهن حول إجابةٍ لسؤالٍ ما …واحدة تقول هكذا وألاخرى تعاندها في محاولةٍ لأثبات صحة إجابتها. كان العم سمير يصغي بأنتباهٍ شديد . حينما إحتدم النقاش – الذي كان قد أدى إلى صراعٍ بكلماتٍ نابيه بينهن- تنحنح العم سمير وهو يقول بأدبٍ مسرحي ” هل يمكن أن أطلع على السؤال ؟” . سكتن جميعاً بذهول لهذا التدخل غير المتوقع من قبلِ هذا الرجل الذي يرتدي ” دشداشه” غامقة اللون وكأنه فلاح في أرضٍ لم يعد لها وجود. صاحت إحداهن ” ماذا؟ ” . كرر قوله” أستطيع أن أكون حكماً متواضعاً لحل هذه المشكلة بينكنِّ”. دون تردد قفزت الفتاة التي كانت تقود الحوار إلى داخل السيارة وقدمت له ” أسئلة ألأمتحان” . ” خذ فلنرَ ماذا تستطيع أن تفعل؟” قالت ذلك بتهكم وسخرية جعلت الفتيات ألأخريات ينتقدنها على سلوكها الفظ. تناول العم سمير قصاصة الورق الصقيل. راح يُمعن النظر بدقة متناهية وهو يمسد لحيته التي لم يُحلقها منذ ثلاثة أيام . كُنَّ ينظرن اليه بطرق متباينه…بعضهن يطلقن ضحكات ساخره والبعض ألأخر يتعاطف معه. أنهى العم سمير قراءة السؤال بدقة . نظر إلى الجميع بطريقة جادة وهو يقول ” إسمعن جيداً…المقصود بالشقوق الموجودة في يد الصياد …الصعوبات والمعاناة والمشاكل التي تواجهه في ذلك البحر المتلاطم ألامواج..كان يعاني من مشاكل كثيرة.. العطش الجوع صراع السمكة الكبيرة ومقاومتها للخلاص من الشبكة.. كانت السمكة تمثل بالنسبةِ له الهدف الذي جاء من أجله ..قطع مسافاتٍ بعيدة كي يصل إلى هذا المكان..سمكة القرش أو لنقل سمك القرش تُمثل العدو الوحيد في ذلك المكان المنعزل..كان سمك القرش وحشياً في هجماته إلى أبعد الحدود..يريد أن ينهش السمكة من كل ألأتجاهات.. الشيخ الوحيد في ذلك البحر يقاتل بضراوةٍ لوحده..لا يريد ألأستسلام. كان بأمكانه أن يحرر السمكة لأسماك القرش ويبحث عن صيد أخر ولكن هذا يعني ألأنهزام ألأندحار العودة خاوي الوفاق من كل شيء..هو عجوز ..لديه قوة محدودة وسلاح بسيط وعدوه شرس ..سمك القرش إلتهم كل السمكة عدا العظام…كانت سمكة كبيرة جداً أراد أن يعيدها إلى الساحل كي يُثبت لأبناء القريةِ الساحلية قوته وصبره في قتال ألأعداء على الرغم من عدم وجود نصير له سوى إرادته وثباته..بالتأكيد عاد الشيخ إلى الساحل يجر عظام السمكة الكبيرة ولكن بلا لحم..هذا مختصر لكل السؤال” .

رانَ صمتٌ مديد على الوجوه النضرة الحائرة لهذا الجواب غير المتوقع. صاحت إحداهُنَّ ” ياألهي لقد قُضيَ علي هذا اليوم..كان جوابي بعيداً جداً عن هذا التشبيه غير المتوقع” وصاحت ألأخرى ” واو..سأفشل في هذا ألأمتحان” . في لحظات عُدن إلى السيارة التي إبتعدت في ثوانٍ قليلة. أراد أن يصرخ بأعلى صوته ” لم تدفعن الثمن ” . جلس متهالكاً يشعر بالخذلان . لقد ضاعت بضاعته دون جدوى..لم يدفعن أي شيء. راح العرق يتصبب من جبينه. ماذا سيقول لشريكة حياته؟ هل هو غبي إلى هذه الدرجة من ألاهمال؟ قال يحدث ذاته ” خسارة أخرى تُضاف إلى خسارات حياتي التي لاتعد ولاتحصى….إيه ..فليحترق العالم طالما أن هناك لامناص من إحتراق روما..” كانت عيناه ترفرفان على الطريق السريع دقائق معدودة ..كان يشعر بأستوحادٍ رهيب وخلوةٍ مرعبة ويأسٍ لايجاريه يأس في هذا الكون. شعر أن هناك ثقبٌ كبير يتسع في قلبه. أدار ظهره للشارع السريع وهو يشعر بكرهٍ لكلِ شيء يمر قربه. تناول رواية ” عناقيد الغضب” وراح يُكمل ماكان قد بدأهُ قبل مجيء الطالبات سارقاتِ بضاعته بلا خوفٍ أو حياء. قبل أن يُكمل الصفحةِ التي طفق بقرائتها سمع صرخةٍ قويةٍ لعجلاتِ مركبة غاضبه . أدار جسدهُ بتثاقل . كانت سيارة الطالبات تعود من جديد. كان يشعر بكرهٍ داخلي تجاه كلِ واحدةٍ منهن. لم ينهض كنوع من التمرد تجاه عملهن المشين..أراد أن يبرهن سخطه من خلال صمته وعدم النهوض. إندفعن جميعهن صوبه كأنهن يندفعن لأنقاذ غريقٍ غريب في هذا الكون. صرخن جميعهن في وقتٍ واحد ” المعذره ..المعذره.. لم ندفع ثمن علب المشروبات الباردة” . لم ينبس ببنت شفه. كان كجريحٍ يلفظ أنفاسه ألأخيرة.

كانت كل طالبة تضع فوق ” صندوق الفلين” ثمن جميع العلب دفعه واحدة. لم ينظر إلى النقود بفرحٍ كما كان يفعل في المرات الماضية. كان يشعر كأنه يستجدي ألأخرين بطريقةٍ غير شرعية. حصل على عشرة أضعاف الثمن بيد أنه لم يشعر بأي شيء كالمرات السابقة. عُدنَ إلى الحافلة بصمت ملبد بعارٍ وحياء لهذه الهفوه التي أرتكبنها دون قصد. لم يلتقط النقود وكأنه شعر بأنه يأخذ حقاً ليس له. بقيت فتاة واحدة تنظر إليه بعينين حزينتين . قالت بصوتٍ هامس ” كانت غلطتي.. أنا التي دعوتهن جميعاً …كانت الدعوة بسبب خطوبتي أمس.. أنا عاجزة عن ألأعتذار..إعتبرني مثل إبنتك التي ترتكب هفوه غير مقصودة…..” إستدارت لتعود إلى الحافلة ..قبل أن تصل باب السيارة عادت مسرعة وهي تقول ” خذ هذه المئة دولار .. لقد أعطتني أمي إياها أمس لشراء فستانا جديداً ولكنني أعتقد أنك تستحقها لشراء ثوباً جديدا..” لم يمد العم سمير يده لأخذ الورقة من فئة المئة دولار.. وضعت الفتاة قطعة النقود فوق صندوق الفلين بسرعة وركضت نحو الحافلة. كانت تنظر إليه من بعيد وهي تمسح دموعها بصمت. لم ينهض من مكانه ولم يحول بصره عن السيارة التي كانت تختفي رويدا رويدا على الطريق السريع كما إختفت أحلامه وأنقضت سنوات عمره في صمتٍ وذبول. جمع العم سمير جميع النقود وقرر العودة إلى البيت كي يُخبر شريكة حياته بما حدث له على الطريق السريع هذا اليوم.

توالت ألايام وأستمر العم سمير يتأقلم مع الوضع الجديد الذي طرأ على حياتهِ. أصبح المكان جزأً من حياتهِ وكانت شريكة عمره تمده بمساعدات كثيرة حتى أنها في بعض المرات كانت تأتي إليه تجلس معه دقائق قليلة ثم تعود بناءاً على طلبه…كان لايريدها أن تدخل هذا الميدان القاسي عند حافة الشارع. كانت تشعر بالوحدة والعزلة في البيت وهي تنتظره طول اليوم. ذهب كل أبنائهم إلى بيوتٍ مستقله مع زوجاتهم الغريبات عن القبيلة. حاول أبناءه عدة مرات أن يثنوه عن هذا العمل – غير الشريف في نظرهم – وحينما وافق العم سمير على ترك العمل مقابل منحه نصف راتبهم شهرياً نظر بعضهم إلى بعض بطريقةٍ غريبة وسكتوا إلى ألأبد. كان يشعر بسعادة كبيرة يوماً بعد آخر. أصبحت لديه علاقات جديدة مع بعض سائقي المركبات المختلفة ..فقد تكررت بعض الوجوه مراتٍ عديدة لدرجة أن بعضهم كان يجلس قربه خصوصاً أؤلئك القادمين من محافظاتٍ بعيدة. كانت بعض السيارات تتوقف عنده يسأله البعض عن عنوانٍ ما في العاصمة أو عن مكان عيادة أحد ألأطباء في منطقةٍ معينه. في بعض ألأحيان يستمع إلى حوارات ونقاشات عن أشياءٍ متباينه. كان يدون قسماً من ألاحاديث التي يراها مناسبه تصلح لحكاية قصيرة يكتبها حينما يعود إلى البيت. لم يكن يعشق التلفاز كما كانت تفعل شريكة حياته. كان يجلس قربها في المطبخ البسيط وهي تشاهد تقريراً عن إحدى مناطق ألأمازون أو تقريراً عن حالات المجاعة في دولةٍ أفريقية لم تصلها الحضارة بعد. كانت تعشق التقارير الغريبة . يبقى العم سمير يدون ماكان قد سمعه في النهار عن حكايات بسيطة ويحورها إلى قصصٍ خيالية. مرة قالت له شريكة حياته ” لماذا لاتخلد إلى الراحةِ وتترك هذه الحكايات التي ليس بها شيء سوى وجع الدماغ”. ينظر إليها برأفه ويعود بفكرهِ إلى أيام الشباب وكيف تعرف عليها وتزوجها حينما كانا في جامعةٍ واحدة. حينما ترى نظراته الشاردة عن الواقع الذي يعيش فيه… تبادر قائلة بسرعةٍ كبيرة ” حسناً إفعل مايحلو لك…….”.

عند ظهيرة أحد ألايام توقفت سيارة حديثة بالقرب منه. ترجلت إمرأه متوسطة العمر أنيقة جداً..تقدمتْ نحوه وقد ظهر على وجهها قلقٌ ملحوظ. دون مقدمات سألته فيما إذا كانت لديه قناني ماء معقم بارد. بطريقةٍ آليه قدم لها قنينة واحدة ..فتحتها على عجلٍ من أمرها وراحت تسكب الماء على وجه الرجل العجوز الجالس في المقعد ألأمامي. كان العم سمير ينظر بعدم إكتراث لتلك الحالةِ التي كانت تجري أمامه. تعلم من سياق العمل الذي مارسه هنا على مدى ستة أشهر على أن لايتدخل في أي شيء ما لم يُطلبُ منه ذلك. حوادث كثيرة كانت قد مرت أمامه على طول تلك الفترة التي قضاها مراقباً لهذا الشارع الطويل. فجأةً صرخت المرأه ” عمو تعال ساعدني كي نخرج والدي من السيارة.. يريد أن يتقيأ” . جاء نداء العون ..أو صرخة الحياة المكتومة في صدر تلك المسكينة. أسرع العم سمير وهو يحاول سحب الرجل العجوز الذي كان على وشك أن يفقد وعيه. حمله بين ذراعيه كأنه يحمل طفلاً صغيراً ..وضعهُ على مسافةٍ مناسبة من الطريق وتركه يفرغ مافي معدته بهدوء. كانت المرأه تقف إلى جواره ترتعش من قمة رأسها حتى أخمص قدميها. كانت تمسح دموعها بين الفينةِ وألأخرى. ظل الرجل المسكين جالساً على ألأرض المتربة بعضاً من الوقت كي يلتقط أنفاسه من جديد. في اللحظةِ التي أشار فيها إلى إبنته معلناً إنتهاء فترة التقيء والرغبةِ للعودةِ إلى داخل السيارة نظرت نحو العم سمير دون أن تتفوه بحرفٍ واحد. فهم الرسالة الصادرة من أعماق ألأنثى الواقعة تحت عذاب الخوف من أن شيئاً ما قد يحدث لوالدها قبل أن تصل به إلى المستشفى. حمله من جديد ووضعه بهدوء في المقعد ألأمامي.

لم يقبل أن يأخذ ثمن قنية الماء البارد ..شكرته وهي تعود إلى داخل السيارة. قبل أن تنطلق عادت راكضة نحو الرجل الذي إتخذ من هذا المكان موطناً له .. كانت ترتجف كسعفةٍ في مهب الريح ” عمو تعال معي إلى المستشفى ..أرجوك.. والدي لايستطيع التنفس بصورةٍ منتظمة.. أخاف أن يلفظ أنفاسه قبل أن أصل إلى المستشفى…أترك كل شيء هنا ..سأعطيك ثمن العربة وكل مافيها ..أرجوك.. أتوسل إليك….خذ ما تشاء من هذه النقود وأترك كل شيء.. سيموت والدي .. أنا عاجزة عن القيام بكل شيء.. لا أحد عندي في البيت سوى هذا الرجل العجوز.. سأقتل نفسي إن مات هنا ” راحت تخرج من حافظة نقودها أوراق كثيرة من فئة ال ( 25 ألف دينار). كان العم سمير يصارع ذاته بشكل كبير…لم يقل أي شيء سوى كلمة واحدة ” إنتظري) . مزق ورقة كبيرة من دفتر ملاحظاته فرشها على ” صندوق الفلين ” وراح يكتب بصوتٍ مسموع كأنه يخاطب زمناً لم يعد له وجود في هذه الحياة. – ( إلى كل الشرفاء في هذا الطريق المرعب.. الطريق السريع..سأترك بضاعتي هنا أمانه لديكم..خذوا ماتريدون وأتركوا الثمن في هذا الكتاب – عناقيد الغضب- سأذهب لأنقاذ رجلاً غريباً ولكنه ينتمي إلينا جميعاً في رابطة الوطن وألارض والدم وألأنسانية… أليس من الممكن أن ننقذ أنسانا يغرق حتى لو كان غريباً… أنا لاأملك أي شيء سوى هذه العربة والبضاعة التي فيها.. لكن الواجب المقدس.. واجب ألانسانية أجبرني لترك كل شيءٍ هنا.. .إذا كنتم أشرار فخذوا كل شيء وأتركوا لي العربة التي صنعتها بدمي وعرقي ..عائلةٌ تعتاش عليها.. وزوجة مسنّه تنتظر عودتي عند المساء ..من كان لصاً فليأخذ كل شيء لأنه بنظري جانح لايعرف معنى الشرف وألاخلاق.. ومن لم يكن لديه أخلاق فليفعل مايشاء… سأعلق منديلي ألأبيض في ذراع العربة علامة الحب والسلام لكل الناس..” وبسرعة البرق أخرج منديله ألابيض مثبتاً إياه في ذراع العربة. وضع الورقة على الصندوق الفليني وثبت فوقها طابوقة كبيرة. ركض نحو السيارة صوب الرجل المسن الذي يكاد يلفظ أنفاسهُ في أي دقيقة. لم تتحرك المرأه ظلت تقرأ الورقة عدة مرات لدرجة أنها نسيت والدها لحظاتٍ قليلة..

صرخ العم سمير ” ماذا بك ؟ تطلبين المساعدة الفورية وأنتِ واقفة وكأن الطير على رأسك….تعالي بسرعة”. أعادها صراخ العم سمير إلى واقعها المرير. ركضت بجنون نحو سيارتها وأنطلقت تشق عباب الهواء كصاروخٍ ضال في معركةٍ همجية. كان العم سمير قد وضع الرجل المريض في المقعد الخلفي وهو يمسك جسده بعناية تامة. كان المسكين قد أغمض عيناه وأستسلم لرقدةٍ مخيفة بيد أن نبضات قلبه الضعيف كانت ترسل إشاراتٍ تدل على وجود حياة واهنه على وشك التوقف في أي لحظة مودعةً حياة طويلة لم تكن في حسابات الزمن إلا لحظاتٍ قليلة. كانت المرأة تمسح دموعها بين الفينةِ وألأخرى وصوت نشيجٍ مكتوم يخرج من جسدها رغماً عنها. ” ركزي على الطريق وأتركي علامات العاطفة والبكاء في الوقت الحاضر ..أمامك وقتٌ طويل للبكاء والعويل ” . قال العم سمير تلك الكلمات بقلب جامد وعاطفة ثلجية كانه كان قد إعتاد على مواقف مماثلة مرت عليه قبل سنوات وسنواتٍ… أيام الحرب الطويلة التي أحرقت كل شيء في الزمن البعيد. ” والدي كان ضابطاً كبيراً في الجيش..شهِد أغلب الحروب التي عصفت ببلدنا..ماتت أمي في صاروخٍ وقع على دارنا لاندري من أطلقه..كانت كل شيء في حياته.. يعشقها ..يعبدها إن صح التعبير..لم يذرف دمعه واحدة.. كنت أسمعه طيلة الليالي التي أعقبت موتها يجلس في حديقة الدار كل ليلة يخاطب شخصاً وهمياً.. أحيانا يضحك بصوتٍ مسموع وأحياناً يصمت.. يقول بصوت كسير وحنين لايوصف ..لقد جئتُ من المعركة.. لم أصب بطلقةٍ واحدة رغم القصف العنيف..جلبتُ لك رصاصات فارغة من مدافعنا كي نعملها مزهرياتٍ نضعها في ركنٍ من أركان البيت… لكنك تأخرتِ في السوق ألم تقولي لي بأنك ستعودين بعد نصف ساعة.. ها أنا أنتظر منذ ثلاثة أشهر هنا في هذا الليل المرعب وحيداً ..لم أعد أتحمل العزلةِ والوحدةِ وعذاب ألأنتظار..سأعاقبك عندما تعودين لأنكِ لم تمتثلي لأوامري.. سأعفي عنكِ إذا بررتِ لي سبب غيابك الطويل..لا أستطيع النوم وحيداً في غرفتنا التي شهدت أحلى سنين عمرنا” .

في اللحظة التي أوقفت سيارتها أمام المستشفى الكبير ركضت تستنجد بالعاملين تنشد عونا طبياً لجسد شارف على الهلاك..ترجل العم سمير ..أسرع نحو غرفة الطواريء وهو يحمل الرجل العجوز بين ذراعيه. كانت تركض وراءه وأحد ألأشخاص يطلب منه أن يضع المريض على النقالةِ المخصصة لنقل المصابين والمرضى. لم يسمع أي شيء مما كان يُقال له وأستمر يركض في خفةٍ ورشاقة. حينما وضعوه في غرفة ألأسعاف الفوري طلب الطبيب من الجميع أن يخرجوا كي يسعفوه بطريقةٍ علميةٍ . صرخ العم سمير ” بالله عليك يادكتور .. حاول أن تنقذ أخي هذا ..هو الوحيد الذي بقي لي في هذا العالم” . كانت تستمع إلى كلماتهِ بشيء من التعجب وعرفان بالجميل. كانت تجلس في ردهةِ ألأنتظار تصارع دموعها المتفجرة بينما كان العم سمير يتحرك بقلقٍ يرتجف من قمةِ رأسهِ حتى أخمص قدميه.. طالت ساعات ألانتظار وألأحتصار وألأحتضار والقلق الكبير. خرج الطبيب مرهقاً وهو يقول ” مع ألاسف لم نستطع إنقاذه..يبدوا أنه كان قد تجرع حبوبا كثيرة أثرت على صحته بشكلٍ كبيرة..يبدو أنه أراد ألانتحار.” لم تصرخ المرأة…لم تقل أي شيء سوى كلمةٍ واحدة ….”ما أتعسني”. خرج العم سمير إلى الحديقةِ الخلفية .. تركها وحيدة .. إنهار خلف الجدار القريب .. جلس على ألأرض وراح يبكي كأمراة أو طفلاً صغيراً يضرب رأسه ويقول ” هكذا أنا.. لا أنفع لأي شيء.. لقد فشلتُ في إنقاذه كما فشلت في إنقاذ جاسم في تلك الليلة المرعبة عند خطٍ من خطوط النار…كم أنا بلا فائدة..”. كانت قد جلست قربه وهي تبكي وتقول ” لقد فعلت كل شيء.. أنت تستحق كل شيء..”