23 ديسمبر، 2024 1:42 م

“\u0627\u0644\u0637\u0631\u064a\u0642 \u0627\u0644\u0633\u0631\u064a\u0639”

“\u0627\u0644\u0637\u0631\u064a\u0642 \u0627\u0644\u0633\u0631\u064a\u0639”

حينما بدأت تباشير الصباح تنبثق بهدوءٍ على البيت المتواضع القريب من الطريق السريع وإزدادت أصوات العصافير حده على شجرة السيسبان الوارفة ، طفق العم ” سمير” يلملم حاجياتهِ القليلة المتواضعة كي يضعها في عربته الصغيره التي كان قد صنعها بنفسه قبل أيام ليتخذ منها وسيلة جديدة للعيش في هذا العالم المظلم الدامي. أنواع مختلفة من علب السكائر المختلفة ألألوان وألأحجام . رصفها بطريقةٍ أنيقة كأنه يرصف رصيفا لطريقٍ جانبي تم إهماله منذ مئات السنين. كان يعرف في قرارةِ ذاته أن بضاعته ماهي إلا ” سموم” قد صُنعت خصيصاً لتدمير البشر في كل زمانٍ ومكان. وقفت شريكة حياته إلى جانبه تمده بشيء من القوة والطاقةِ الكامنة في جسدٍ بشري لم يعد له دور في هذه الحياة سوى ذكريات الماضي السحيق ” ومغامراته” حينما كان يافعاً يرفد من أنهار الحب الخالد ذكرياتٍ سقيمة أكل الدهر عليها وشرب. كانت تخالفه دائماً في التعامل مع هذه البضاعةِ التي تعتبرها ” محرمه” في نقاطٍ كثيرة. كانت تتوسل إليه أن يتعامل مع أشياءٍ أخرى مفيدة للمجتمع والتنمية البشرية. سنين مرت كلمح البصر لم يكن فيها سوى الحرمان وألاشتياق إلى أشياءٍ كثيره ليس لها حصرٍ أو عد. أحلامٌ لم تجد لها طريقاً سوى الدموع وألأنتظار كلما غابت شمس يومٍ وبزغ فجرٌ جديد. كان يعرف تماماً أن كلامها صحيح مبني على أُسس علمية ومعروفه للجميع بَيْدَ أنه يسير حسب ماتمليه عليه ضرورات الحياة اليومية. كانت تساعده في مليء البراد الصغير المصنوع من طبقةٍ عازله لحفظ علب المشروبات الرخيصة…أنواع مختلفة من علب البيبسي والسفن آب وأشياء أخرى.

إنطلق بهدوء يدفع عربتهِ الصغيره صوب الشارع السريع الذي لايبعد عن موقع البيت إلا مايقرب من المائتي متر أو أكثر بقليل. حينما يصبح على بعد أمتار قليلة إعتاد أن يلتفت إلى الوراء كأنه يستمد من شريكة حياتهِ قوة خفيه تعينه على قضاء كل النهار هناك وحيداً على حافة الشارع يحلم ببيع كل ماكان قد وضعه في العربه. إعتادت هي ألاخرى أن تصرخ بصوتٍ مكتوم كلما غادر البيت ” كن هادئاً ومطمئناً ..الرزق على الله “. كانت تلك الكلمات الصادرة

بأخلاص من شخص شاركه كل معاني الحب والحنين على مدى سنوات شارفت على الثلاثين عاماً تمنحه قوه خفيه لاتنتهي طيله تواجده وحيداً على الشارع السريع. يتخذ مكانه المعتاد قرب الرصيف الحديدي للطريق الجهنمي الطويل . يبدأ بترتيب سعفات النخيل اليابسة التي إتخذ منها سقفاً بسيطاً كي تقيه حرارة الشمس الملتهبه طيلة فترة تواجده هناك. مضى على تواجدهِ في هذه المهنة نصف شهرٍ أو أكثر بأيامٍ قليلة. في ألايام ألأولى لم يوفق في شيء فقد كان يعود إلى البيت مهموماً لأنه لم يبع إلا علبةِ سكائر واحدة أو ثلاثة علب من السفن آب. قرر ترك العمل والرضوخ وألأستسلام إلى مصيره المجهول من شظف العيش وإنتظار راتبه التقاعدي فقط والذي لايكفي لأشياء كثيرة . كانت شريكة حياته تمده بكلمات تعيد له الحياة أحيانا وأحيانا أخرى يستهزأ منها. ظلت تغرس في روحه نبضات ألأمل وألأحلام الكبيره يوما بعد آخر ” لاتيأس ..لاتستسلم أبداً..ألأستسلام هو الموت بعينهِ..يوماً بعد آخر سيكون حضورك هناك مألوفاً كل أصحاب السيارات والمركبات المختلفة سيتعرفون عليك…مرحلة تكوين الحضور شيء مهم جداً في معركةٍ كهذه. صدقني ستحب المكان وسيصبح جزءاً من حياتك…من يدري قد يحدث شيء مفيد..إذا بقيت جالساً في البيت تنظر إلى أغصان الشجرة هذه وتراقب حركات العصافير ..لم تحقق إلا مزيداً من ألآلام وكره الذات. إبني لك وهماً هناك وصدقهُ من يدري قد يكون ذلك الوهم حقيقة وتتحول حياتك وحياتي إلى شيء آخر…البيت خُلق للنساء وليس للرجال. حياتنا هذه لايمكن العيش فيها دون وهم جميل ..قد يعذبنا هذا الوهم ولكن قد يمنحنا حلماً يرفد حياتنا بأشياء جميلة.”

كانت كلماتها ترن في أذنيه كلما جلس قرب الطريق السريع ينظر إلى المسافات المترامية وتموجات السراب التي تشبه الماء. أحياناً كان العم : ” سمير ” يشعر بالعار والخذلان من أن يراه شخصاً يعرفه أو صديقِ طفولةٍ شاركه مقاعد الدراسةِ الطويلة . لم يكن العم سمير بائعاً إعتياديا كؤلائك الباعةِ المنتشرين في مناطق مختلفة من العاصمة الكبيرة. كان شخصاً آخر ينتمي إلى عالمٍ خاص . شيءٌ واحد جعله ينتمي إلى هذا الشارع السريع ينتظر بزوغ الشمسِ كل يوم كي يجلس هناك تحت سقف بسيط يتكون من سعف النخيل. كانت ملايين السيارات تمر من أمامهِ كل يومٍ يحدق في كلِ واحدةٍ ويقول في ذاته ” من ينظر إلى هذه المركبات الكثيرة يشعر أنه لايوجد شيءٌ إسمهُ الفقر في هذا العالم.. من أين جاءت كل هذه المركبات وكيف تم دفع سعرها..قضيت أكثر من خمسين عاما دون أن أتمكن من شراء نصف مركبه من هذه المركبات..دخلتُ حروباً كثيرة وشاهدتُ مآسي جمه..ولكن يبقى السؤال…لماذا لم أتمكن من الحصول على واحدة طيلة هذه السنوات..هل هو العيب في شخصي أم في مكانٍ آخر؟” .

بعد لحظاتٍ من هذا التأمل وحديث الروح يستعيد وعيه ويستغفر الله من كلِ ذنبٍ عظيم. يتذكر كلمات شريكة حياته ” أهم شيء في الحياة أن يكون المرء مطمئن البال خالٍ من أي ذنوب وأعمال شريره وأن لايؤذي ألآخرين وأن يعود إلى بيتهِ سالماً من أي مكروه ” وتعيد له سرد حكاياتٍ مأساوية حدثت للجيران….كيف تمزقت أشلاء بنت جيرانهم عند الجامعة المستنصرية وكيف تمزق جسد خطيب “غفران” في باب المعظم وحوادث أخرى مرعبة يعرفها كل من عاش في هذا البلد في سنواتٍ معينه. حينما يستعيد تلك الحوادث يحمد الله كثيراً لأنه لازال على قيد الحياة هو وزوجته بالرغم من سنوات الحرب التي لاتنتهي . يجلس بالأتجاه المعاكس للشارع الطويل يفتح كتاباً لكاتبٍ عالمي ويبدأ بألتهام سطوره الواحد تلو ألأخر بنهمٍ لاينتهي. حينما يستغرق في الكتاب ينسى الشارع السريع ولم يعد يسمع أي شيء سوى دمدمات مكتومة كأنها طبول تُقرع لقبائل الزنوج في إحدى الغابات الوحشية. في يومٍ ما وبينما كان يسبح في عالم إحدى الروايات العالمية توقفت سيارة ” ميني باص” . إلتفت صوبها وهو لايزال تحت مخدر إسلوب الكاتب الفريد . ترجلت مجموعة من الطالبات الجامعيات بملابسهن ألأنيقة جدا . كُنِّ يتدافعن للوصول إلى ” الصندوق الفليني” بضحكاتٍ هستيريه خارجة عن المألوف. كل واحدة منهن تتحسس مدى برودة العلبة. في لمح البصر كان ” صندوق الفلين” قد نفذ عن بُكرةِ أبيه. لم يفاوضن على السعر وكأن ألامر كان لايعنيهن من قريبٍ أو بعيد . كان العم سمير ينظر إليهن بمرح ٍ وحزنٍ في نفس الوقت. كان سعيداً جداً لأن بضاعته قد نفذت وهذا معناه العودة إلى البيت قبل نهاية النهار وحزين لأن تواجد الفتيات قد أعاد لروحه المنهكه سراباً كان قد عاشه قبل أربعين عاما .

كُنَّ يتحدثن عن أمور دراسيه وعن أسئله إمتحانيه تخص لغه أجنبية كُنِّ يدرسنها في ذلك الزمن. على حين غره حدث شجار طفولي بين البعض منهن حول إجابةٍ لسؤالٍ ما …واحدة تقول هكذا وألاخرى تعاندها في محاولةٍ لأثبات صحة إجابتها. كان العم سمير يصغي بأنتباهٍ شديد . حينما إحتدم النقاش – الذي كان قد أدى إلى صراعٍ بكلماتٍ نابيه بينهن- تنحنح العم سمير وهو يقول بأدبٍ مسرحي ” هل يمكن أن أطلع على السؤال ؟” . سكتن جميعاً بذهول لهذا التدخل غير المتوقع من قبلِ هذا الرجل الذي يرتدي ” دشداشه” غامقة اللون وكأنه فلاح في أرضٍ لم يعد لها وجود. صاحت إحداهن ” ماذا؟ ” . كرر قوله” أستطيع أن أكون حكماً متواضعاً لحل هذه المشكلة بينكنِّ”. دون تردد قفزت الفتاة التي كانت تقود الحوار إلى داخل السيارة وقدمت له ” أسئلة ألأمتحان” . ” خذ فلنرَ ماذا تستطيع أن تفعل؟” قالت ذلك بتهكم وسخرية جعلت الفتيات ألأخريات ينتقدنها على سلوكها الفظ. تناول العم سمير قصاصة الورق الصقيل. راح يُمعن النظر بدقة متناهية وهو يمسد لحيته التي لم يُحلقها منذ ثلاثة أيام . كُنَّ ينظرن اليه بطرق متباينه…بعضهن يطلقن ضحكات ساخره والبعض ألأخر يتعاطف معه. أنهى العم سمير قراءة السؤال بدقة . نظر إلى الجميع بطريقة جادة وهو يقول ” إسمعن جيداً…المقصود بالشقوق الموجودة في يد الصياد …الصعوبات والمعاناة والمشاكل التي تواجهه في ذلك البحر المتلاطم ألامواج..كان يعاني من مشاكل كثيرة.. العطش الجوع صراع السمكة الكبيرة ومقاومتها للخلاص من الشبكة.. كانت السمكة تمثل بالنسبةِ له الهدف الذي جاء من أجله ..قطع مسافاتٍ بعيدة كي يصل إلى هذا المكان..سمكة القرش أو لنقل سمك القرش تُمثل العدو الوحيد في ذلك المكان المنعزل..كان سمك القرش وحشياً في هجماته إلى أبعد الحدود..يريد أن ينهش السمكة من كل ألأتجاهات.. الشيخ الوحيد في ذلك البحر يقاتل بضراوةٍ لوحده..لا يريد

ألأستسلام. كان بأمكانه أن يحرر السمكة لأسماك القرش ويبحث عن صيد أخر ولكن هذا يعني ألأنهزام ألأندحار العودة خاوي الوفاق من كل شيء..هو عجوز ..لديه قوة محدودة وسلاح بسيط وعدوه شرس ..سمك القرش إلتهم كل السمكة عدا العظام…كانت سمكة كبيرة جداً أراد أن يعيدها إلى الساحل كي يُثبت لأبناء القريةِ الساحلية قوته وصبره في قتال ألأعداء على الرغم من عدم وجود نصير له سوى إرادته وثباته..بالتأكيد عاد الشيخ إلى الساحل يجر عظام السمكة الكبيرة ولكن بلا لحم..هذا مختصر لكل السؤال” .

رانَ صمتٌ مديد على الوجوه النضرة الحائرة لهذا الجواب غير المتوقع. صاحت إحداهُنَّ ” ياألهي لقد قُضيَ علي هذا اليوم..كان جوابي بعيداً جداً عن هذا التشبيه غير المتوقع” وصاحت ألأخرى ” واو..سأفشل في هذا ألأمتحان” . في لحظات عُدن إلى السيارة التي إبتعدت في ثوانٍ قليلة. أراد أن يصرخ بأعلى صوته ” لم تدفعن الثمن ” . جلس متهالكاً يشعر بالخذلان . لقد ضاعت بضاعته دون جدوى..لم يدفعن أي شيء. راح العرق يتصبب من جبينه. ماذا سيقول لشريكة حياته؟ هل هو غبي إلى هذه الدرجة من ألاهمال؟ قال يحدث ذاته ” خسارة أخرى تُضاف إلى خسارات حياتي التي لاتعد ولاتحصى….إيه ..فليحترق العالم طالما أن هناك لامناص من إحتراق روما..” كانت عيناه ترفرفان على الطريق السريع دقائق معدودة ..كان يشعر بأستوحادٍ رهيب وخلوةٍ مرعبة ويأسٍ لايجاريه يأس في هذا الكون. شعر أن هناك ثقبٌ كبير يتسع في قلبه. أدار ظهره للشارع السريع وهو يشعر بكرهٍ لكلِ شيء يمر قربه. تناول رواية ” عناقيد الغضب” وراح يُكمل ماكان قد بدأهُ قبل مجيء الطالبات سارقاتِ بضاعته بلا خوفٍ أو حياء. قبل أن يُكمل الصفحةِ التي طفق بقرائتها سمع صرخةٍ قويةٍ لعجلاتِ مركبة غاضبه . أدار جسدهُ بتثاقل . كانت سيارة الطالبات تعود من جديد. كان يشعر بكرهٍ داخلي تجاه كلِ واحدةٍ منهن. لم ينهض كنوع من التمرد تجاه عملهن المشين..أراد أن يبرهن سخطه من خلال صمته وعدم النهوض. إندفعن جميعهن صوبه كأنهن يندفعن لأنقاذ غريقٍ غريب في هذا الكون. صرخن جميعهن في وقتٍ واحد ” المعذره ..المعذره.. لم ندفع ثمن علب المشروبات الباردة” . لم ينبس ببنت شفه. كان كجريحٍ يلفظ أنفاسه ألأخيرة.

كانت كل طالبة تضع فوق ” صندوق الفلين” ثمن جميع العلب دفعه واحدة. لم ينظر إلى النقود بفرحٍ كما كان يفعل في المرات الماضية. كان يشعر كأنه يستجدي ألأخرين بطريقةٍ غير شرعية. حصل على عشرة أضعاف الثمن بيد أنه لم يشعر بأي شيء كالمرات السابقة. عُدنَ إلى الحافلة بصمت ملبد بعارٍ وحياء لهذه الهفوه التي أرتكبنها دون قصد. لم يلتقط النقود وكأنه شعر بأنه يأخذ حقاً ليس له. بقيت فتاة واحدة تنظر إليه بعينين حزينتين . قالت بصوتٍ هامس ” كانت غلطتي.. أنا التي دعوتهن جميعاً …كانت الدعوة بسبب خطوبتي أمس.. أنا عاجزة عن ألأعتذار..إعتبرني مثل إبنتك التي ترتكب هفوه غير مقصودة…..” إستدارت لتعود إلى الحافلة ..قبل أن تصل باب السيارة عادت مسرعة وهي تقول ” خذ هذه المئة دولار .. لقد أعطتني أمي إياها أمس لشراء فستانا جديداً ولكنني أعتقد أنك تستحقها لشراء ثوباً جديدا..” لم يمد العم سمير يده لأخذ الورقة من فئة المئة دولار.. وضعت الفتاة قطعة النقود فوق صندوق الفلين بسرعة وركضت نحو الحافلة. كانت تنظر إليه من بعيد وهي تمسح دموعها بصمت. لم ينهض من مكانه ولم يحول بصره عن السيارة التي كانت تختفي رويدا رويدا على الطريق السريع كما

إختفت أحلامه وأنقضت سنوات عمره في صمتٍ وذبول. جمع العم سمير جميع النقود وقرر العودة إلى البيت كي يُخبر شريكة حياته بما حدث له على الطريق السريع هذا اليوم.

توالت ألايام وأستمر العم سمير يتأقلم مع الوضع الجديد الذي طرأ على حياتهِ. أصبح المكان جزأً من حياتهِ وكانت شريكة عمره تمده بمساعدات كثيرة حتى أنها في بعض المرات كانت تأتي إليه تجلس معه دقائق قليلة ثم تعود بناءاً على طلبه…كان لايريدها أن تدخل هذا الميدان القاسي عند حافة الشارع. كانت تشعر بالوحدة والعزلة في البيت وهي تنتظره طول اليوم. ذهب كل أبنائهم إلى بيوتٍ مستقله مع زوجاتهم الغريبات عن القبيلة. حاول أبناءه عدة مرات أن يثنوه عن هذا العمل – غير الشريف في نظرهم – وحينما وافق العم سمير على ترك العمل مقابل منحه نصف راتبهم شهرياً نظر بعضهم إلى بعض بطريقةٍ غريبة وسكتوا إلى ألأبد. كان يشعر بسعادة كبيرة يوماً بعد آخر. أصبحت لديه علاقات جديدة مع بعض سائقي المركبات المختلفة ..فقد تكررت بعض الوجوه مراتٍ عديدة لدرجة أن بعضهم كان يجلس قربه خصوصاً أؤلئك القادمين من محافظاتٍ بعيدة. كانت بعض السيارات تتوقف عنده يسأله البعض عن عنوانٍ ما في العاصمة أو عن مكان عيادة أحد ألأطباء في منطقةٍ معينه. في بعض ألأحيان يستمع إلى حوارات ونقاشات عن أشياءٍ متباينه. كان يدون قسماً من ألاحاديث التي يراها مناسبه تصلح لحكاية قصيرة يكتبها حينما يعود إلى البيت. لم يكن يعشق التلفاز كما كانت تفعل شريكة حياته. كان يجلس قربها في المطبخ البسيط وهي تشاهد تقريراً عن إحدى مناطق ألأمازون أو تقريراً عن حالات المجاعة في دولةٍ أفريقية لم تصلها الحضارة بعد. كانت تعشق التقارير الغريبة . يبقى العم سمير يدون ماكان قد سمعه في النهار عن حكايات بسيطة ويحورها إلى قصصٍ خيالية. مرة قالت له شريكة حياته ” لماذا لاتخلد إلى الراحةِ وتترك هذه الحكايات التي ليس بها شيء سوى وجع الدماغ”. ينظر إليها برأفه ويعود بفكرهِ إلى أيام الشباب وكيف تعرف عليها وتزوجها حينما كانا في جامعةٍ واحدة. حينما ترى نظراته الشاردة عن الواقع الذي يعيش فيه… تبادر قائلة بسرعةٍ كبيرة ” حسناً إفعل مايحلو لك…….”.

عند ظهيرة أحد ألايام توقفت سيارة حديثة بالقرب منه. ترجلت إمرأه متوسطة العمر أنيقة جداً..تقدمتْ نحوه وقد ظهر على وجهها قلقٌ ملحوظ. دون مقدمات سألته فيما إذا كانت لديه قناني ماء معقم بارد. بطريقةٍ آليه قدم لها قنينة واحدة ..فتحتها على عجلٍ من أمرها وراحت تسكب الماء على وجه الرجل العجوز الجالس في المقعد ألأمامي. كان العم سمير ينظر بعدم إكتراث لتلك الحالةِ التي كانت تجري أمامه. تعلم من سياق العمل الذي مارسه هنا على مدى ستة أشهر على أن لايتدخل في أي شيء ما لم يُطلبُ منه ذلك. حوادث كثيرة كانت قد مرت أمامه على طول تلك الفترة التي قضاها مراقباً لهذا الشارع الطويل. فجأةً صرخت المرأه ” عمو تعال ساعدني كي نخرج والدي من السيارة.. يريد أن يتقيأ” . جاء نداء العون ..أو صرخة الحياة المكتومة في صدر تلك المسكينة. أسرع العم سمير وهو يحاول سحب الرجل العجوز الذي كان على وشك أن يفقد وعيه. حمله بين ذراعيه كأنه يحمل طفلاً صغيراً ..وضعهُ على مسافةٍ مناسبة من الطريق وتركه يفرغ مافي معدته بهدوء. كانت المرأه تقف إلى جواره ترتعش من قمة رأسها حتى أخمص قدميها. كانت تمسح دموعها بين الفينةِ وألأخرى. ظل الرجل المسكين جالساً على ألأرض المتربة بعضاً من الوقت كي يلتقط أنفاسه من جديد. في اللحظةِ التي أشار فيها إلى إبنته معلناً إنتهاء فترة التقيء والرغبةِ للعودةِ إلى داخل السيارة نظرت نحو

العم سمير دون أن تتفوه بحرفٍ واحد. فهم الرسالة الصادرة من أعماق ألأنثى الواقعة تحت عذاب الخوف من أن شيئاً ما قد يحدث لوالدها قبل أن تصل به إلى المستشفى. حمله من جديد ووضعه بهدوء في المقعد ألأمامي.

لم يقبل أن يأخذ ثمن قنية الماء البارد ..شكرته وهي تعود إلى داخل السيارة. قبل أن تنطلق عادت راكضة نحو الرجل الذي إتخذ من هذا المكان موطناً له .. كانت ترتجف كسعفةٍ في مهب الريح ” عمو تعال معي إلى المستشفى ..أرجوك.. والدي لايستطيع التنفس بصورةٍ منتظمة.. أخاف أن يلفظ أنفاسه قبل أن أصل إلى المستشفى…أترك كل شيء هنا ..سأعطيك ثمن العربة وكل مافيها ..أرجوك.. أتوسل إليك….خذ ما تشاء من هذه النقود وأترك كل شيء.. سيموت والدي .. أنا عاجزة عن القيام بكل شيء.. لا أحد عندي في البيت سوى هذا الرجل العجوز.. سأقتل نفسي إن مات هنا ” راحت تخرج من حافظة نقودها أوراق كثيرة من فئة ال ( 25 ألف دينار). كان العم سمير يصارع ذاته بشكل كبير…لم يقل أي شيء سوى كلمة واحدة ” إنتظري) . مزق ورقة كبيرة من دفتر ملاحظاته فرشها على ” صندوق الفلين ” وراح يكتب بصوتٍ مسموع كأنه يخاطب زمناً لم يعد له وجود في هذه الحياة. – ( إلى كل الشرفاء في هذا الطريق المرعب.. الطريق السريع..سأترك بضاعتي هنا أمانه لديكم..خذوا ماتريدون وأتركوا الثمن في هذا الكتاب – عناقيد الغضب- سأذهب لأنقاذ رجلاً غريباً ولكنه ينتمي إلينا جميعاً في رابطة الوطن وألارض والدم وألأنسانية… أليس من الممكن أن ننقذ أنسانا يغرق حتى لو كان غريباً… أنا لاأملك أي شيء سوى هذه العربة والبضاعة التي فيها.. لكن الواجب المقدس.. واجب ألانسانية أجبرني لترك كل شيءٍ هنا.. .إذا كنتم أشرار فخذوا كل شيء وأتركوا لي العربة التي صنعتها بدمي وعرقي ..عائلةٌ تعتاش عليها.. وزوجة مسنّه تنتظر عودتي عند المساء ..من كان لصاً فليأخذ كل شيء لأنه بنظري جانح لايعرف معنى الشرف وألاخلاق.. ومن لم يكن لديه أخلاق فليفعل مايشاء… سأعلق منديلي ألأبيض في ذراع العربة علامة الحب والسلام لكل الناس..” وبسرعة البرق أخرج منديله ألابيض مثبتاً إياه في ذراع العربة. وضع الورقة على الصندوق الفليني وثبت فوقها طابوقة كبيرة. ركض نحو السيارة صوب الرجل المسن الذي يكاد يلفظ أنفاسهُ في أي دقيقة. لم تتحرك المرأه ظلت تقرأ الورقة عدة مرات لدرجة أنها نسيت والدها لحظاتٍ قليلة..

صرخ العم سمير ” ماذا بك ؟ تطلبين المساعدة الفورية وأنتِ واقفة وكأن الطير على رأسك….تعالي بسرعة”. أعادها صراخ العم سمير إلى واقعها المرير. ركضت بجنون نحو سيارتها وأنطلقت تشق عباب الهواء كصاروخٍ ضال في معركةٍ همجية. كان العم سمير قد وضع الرجل المريض في المقعد الخلفي وهو يمسك جسده بعناية تامة. كان المسكين قد أغمض عيناه وأستسلم لرقدةٍ مخيفة بيد أن نبضات قلبه الضعيف كانت ترسل إشاراتٍ تدل على وجود حياة واهنه على وشك التوقف في أي لحظة مودعةً حياة طويلة لم تكن في حسابات الزمن إلا لحظاتٍ قليلة. كانت المرأة تمسح دموعها بين الفينةِ وألأخرى وصوت نشيجٍ مكتوم يخرج من جسدها رغماً عنها. ” ركزي على الطريق وأتركي علامات العاطفة والبكاء في الوقت الحاضر ..أمامك وقتٌ طويل للبكاء والعويل ” . قال العم سمير تلك الكلمات بقلب جامد وعاطفة ثلجية كانه كان قد إعتاد على مواقف مماثلة مرت عليه قبل سنوات وسنواتٍ… أيام الحرب الطويلة التي أحرقت كل شيء في الزمن البعيد. ” والدي كان ضابطاً كبيراً في الجيش..شهِد أغلب

الحروب التي عصفت ببلدنا..ماتت أمي في صاروخٍ وقع على دارنا لاندري من أطلقه..كانت كل شيء في حياته.. يعشقها ..يعبدها إن صح التعبير..لم يذرف دمعه واحدة.. كنت أسمعه طيلة الليالي التي أعقبت موتها يجلس في حديقة الدار كل ليلة يخاطب شخصاً وهمياً.. أحيانا يضحك بصوتٍ مسموع وأحياناً يصمت.. يقول بصوت كسير وحنين لايوصف ..لقد جئتُ من المعركة.. لم أصب بطلقةٍ واحدة رغم القصف العنيف..جلبتُ لك رصاصات فارغة من مدافعنا كي نعملها مزهرياتٍ نضعها في ركنٍ من أركان البيت… لكنك تأخرتِ في السوق ألم تقولي لي بأنك ستعودين بعد نصف ساعة.. ها أنا أنتظر منذ ثلاثة أشهر هنا في هذا الليل المرعب وحيداً ..لم أعد أتحمل العزلةِ والوحدةِ وعذاب ألأنتظار..سأعاقبك عندما تعودين لأنكِ لم تمتثلي لأوامري.. سأعفي عنكِ إذا بررتِ لي سبب غيابك الطويل..لا أستطيع النوم وحيداً في غرفتنا التي شهدت أحلى سنين عمرنا” .

في اللحظة التي أوقفت سيارتها أمام المستشفى الكبير ركضت تستنجد بالعاملين تنشد عونا طبياً لجسد شارف على الهلاك..ترجل العم سمير ..أسرع نحو غرفة الطواريء وهو يحمل الرجل العجوز بين ذراعيه. كانت تركض وراءه وأحد ألأشخاص يطلب منه أن يضع المريض على النقالةِ المخصصة لنقل المصابين والمرضى. لم يسمع أي شيء مما كان يُقال له وأستمر يركض في خفةٍ ورشاقة. حينما وضعوه في غرفة ألأسعاف الفوري طلب الطبيب من الجميع أن يخرجوا كي يسعفوه بطريقةٍ علميةٍ . صرخ العم سمير ” بالله عليك يادكتور .. حاول أن تنقذ أخي هذا ..هو الوحيد الذي بقي لي في هذا العالم” . كانت تستمع إلى كلماتهِ بشيء من التعجب وعرفان بالجميل. كانت تجلس في ردهةِ ألأنتظار تصارع دموعها المتفجرة بينما كان العم سمير يتحرك بقلقٍ يرتجف من قمةِ رأسهِ حتى أخمص قدميه.. طالت ساعات ألانتظار وألأحتصار وألأحتضار والقلق الكبير. خرج الطبيب مرهقاً وهو يقول ” مع ألاسف لم نستطع إنقاذه..يبدوا أنه كان قد تجرع حبوبا كثيرة أثرت على صحته بشكلٍ كبيرة..يبدو أنه أراد ألانتحار.” لم تصرخ المرأة…لم تقل أي شيء سوى كلمةٍ واحدة ….”ما أتعسني”. خرج العم سمير إلى الحديقةِ الخلفية .. تركها وحيدة .. إنهار خلف الجدار القريب .. جلس على ألأرض وراح يبكي كأمراة أو طفلاً صغيراً يضرب رأسه ويقول ” هكذا أنا.. لا أنفع لأي شيء.. لقد فشلتُ في إنقاذه كما فشلت في إنقاذ جاسم في تلك الليلة المرعبة عند خطٍ من خطوط النار…كم أنا بلا فائدة..”. كانت قد جلست قربه وهي تبكي وتقول ” لقد فعلت كل شيء.. أنت تستحق كل شيء..”

نهض بتثاقل وهو يقول ” لاتوجد فائدة من وجودي هنا بعد الآن…لقد ضاع مني كما ضاع أولادي وتركوني أعاني عذاب الوحدة والرغبة القاتلة للحديث معهم عن أي شيء…تستطيعين القيام بكل شيء لوحدك ..أو مع أقرباؤك إن كان لك أقرباء… سأنسحب من هذه المعركة الخاسرة كما إنسحبنا من أرض الكويت والمطلاع وحفر الباطن وتركنا قتلانا تنهش أجسادهم الغرباء والوحوش…المعذرة لأنني لم أستطع أن أفعل أي شيء…” تركها مسرعاً صوب البوابةِ الخارجية للمستشفى. كانت تركض خلفه كالمجنونة تطلب منه ألأنتظار بعد ساعات ألأحتظار. مسكته بقوة من يدهِ اليسرى وهي تصرخ ” خذ هذا مفتاح سيارتي .. هي هدية مني لك..أن تستحق كل شيء..” نظر إليها بعينين حمراويتين غاضبتين وهو يصرخ بأعلى صوته ” أنا لستُ شحاذاً ….لاأريد منكِ أي شيء.. من قال لكِ أنا أريد ثمناً لعملٍ خيري

إنساني أردتُ القيام به…أستطيع أن أدبر معيشتي حتى لو تخلى عني أبنائي..لازلتُ قوياً …” دفعها أمام الناس وأسرع نحو البوابةِ وهو يبكي كالطفل الرضيع. إستأجر سيارة إلى مكان تواجد عربته البسيطة. على طول الطريق الممتد بين المستشفى ومكان تواجد عربته كان سارحا ساهما في عالمٍ من الحزنِ والشرود . نسي عربتهِ تماما ولم يعد يتذكر سوى نظرات ذلك العجوز المسن ..تذكر كيف كان يمسك يدهِ وكأنه غريق في عالم الغربةِ والوحشة والضياع..كانت نظراته الصافية تنطق أشياءاً كثيرة.. كم تمنى لو أنه إستطاع أن ينقذه في لحظاتهِ ألأخيرة…أعادت له صورة ذلك الرجل ..اللحظات ألأخيرة التي كان ينظر بها إليه أحد أقربائه ألأعزاء وهو يلفظ بها أنفاسه ألأخيرة.

طلب من سائق سيارة ألأجرة أن يتوقف في الجهة المقابلة لعربته المتواضعة. قبل أن يعبر الشارع نظر من بعيد ليتأكد من وجود عربته…شاهد منديله ألأبيض يرفرف بقوةٍ كبيرة بسبب الرياح …كان الجو ملتهباً . تنفس الصعداء وهو يقول ” الحمد لله لازالت في مكانها” . في اللحظة التي أصبح قربها وقف مذهولاً..لم يُصدق ماكان قد وجدهُ . كان هناك عدد من قصاصات الورق مخبأه في الكتاب الذي وضع فيه رسالته إلى كل الشرفاء في الطريق السريع. لم يجد أي شيء من بضاعته فقد إختفى كل شيء عدا العلب الفارغة وأعقابُ من سكائر ملقاة عند حافة الشارع. كانت النقود في وسط العلبة المعدنية التي خصصها لجمع ” الوارد اليومي”. قرأ القصاصة ألأولى ” أنا لص ..أعتاش على السرقة..قررتُ إختطاف كل شيء..في اللحظة ألأخيرة ..قلتُ مع نفسي ماذا أفعل بدراهم معدودة؟ أنا أبحث عن أشياءٍ ثمينة..منذ نعومة أظفاري وأنا أسرق ..لا أدري لماذا تركتُ نقودك..لايهم ..أخذتُ علبتين من علب البيبسي وعلبة سكائر..النقود في العلبة المعدنية..من يدري ربما أجد صيداً أضخم من هذا الذي تحتفظ به هنا..مع السلامة..أخوك أبو دموع”. وضع القصاصة جانباً ليقرأ القصاصة ألأخرى ” أسعدني كلامك الجميل ..حينما شاهدتُ المنديل ألأبيض راودني فضول لمعرفة سبب وجود المنديل والعربة المركونة على قارعة الطريق…شعرتُ أن هناك ثمة لغزٍ يكمن وراء ذلك . أنا مدير شركة “………….” للمقاولات العامة في مركز العاصمة…أبحث عن رجالٍ مخلصين ..إذا كانت لديك الرغبة للعمل معي إتصل بي على الهاتف الموجود في أسفل الورقة..من يدري قد تكون لك فرصة جيدة ….أشتريتُ علبة سكائر وعلبة سفن آب….النقود في ” صندوق الوارد اليومي ..أبو أمجد “. كانت بقية الأوراق مجرد دعاء بالموفقية للمبادرة ألأنسانية التي قام بها العم سمير.

جمع النقود ..وضعها في العلبة المخصصة…وضع العلب الفارغة في علبةٍ كارتونية وعاد يجر قدميه بتثاقل صوب البيت. أستقبلته شريكة حياته كعادتها كل يوم بكلمات الحب والدعاء بالصحةِ الجيدة..لم ينبس ببنت شفه. كان صامتاً على غير عادته حينما يدخل البيت بعد إنتهاء عملهِ . دون أن يتوجه إلى المطبخ كما كان يفعل كل يوم..إنسل بصمت تام إلى غرفة نومه ..إستلقى على فراشه بصمتٍ حزين. لم تحاول زوجته ألأستفسار عن سر هذا التحول في البداية أرادت أن تهبه متسعاً من الوقت كي يعود إلى سابق عهده كلما شعر بنوبةٍ من الحزن التي كانت تسيطر عليه بين الفينةِ وألأخرى. إستغرق في نومٍ كطفل سأم اللعب بأشياء رتيبة. في الليل جلس إلى جانب زوجتهِ في المطبخ صامتاً إضطر بعدها إلى شرح كل شيء لها بناءاً على إصرارها المتواصل. ” إترك هذه المهنه وعد إلى حالة الجلوس في الحديقة ..لن نموت

من الجوع…لا أطيق حالة اليأس التي حلت بك هذا اليوم.” قالت ذلك وهي منشغلة بترتيب مائدة الطعام. لم يعلق على كلامها. في الصباح عاد للعمل في نفس المكان والزمان. كان يشعر أن الطريق السريع أصبح جزءاً من حياته. أضافَ إلى بضاعته شيئاً آخر ذلك اليوم. حاولت زوجته في الصباح أن تثنيه عن القيام بذلك لأن الناس سيضحكون عليه على حدِ قولها. لم يهتم لكلامها ” فليضحك العالم كله عليّ طالما أنني لست بسارقٍ ولا منتهكاً حقوقِ أي إنسان” قال هذه العبارة وهو يندفع خارجاَ من بوابة البيت عند بزوغ الشمس. كان قد حمل معه كل روايات أرنست همنغواي وبعضا من كتب دي. أج. لورنس وإحسان عبد القدوس. كانت لديه كتباً قديمة كان يحتفظ بها قبل أكثر من ثلاثين عاما. كانت زوجته قد رزمتها في صناديق كارتونية وخزنتها تحت سلم البيت الداخلي. بين فترةٍ وأخرى كانت تحثه على حرقها أو إلقائها في مزابل المدينة. قرر مع نفسه أن يقضي كل ساعات العمل في إعادة قرائتها إن لم يتقدم أي شخص لشرائها .

كان يشعر بعدم إرتياح وقلق . حادثة اليوم الفائت قد شغلت كل عصبٍ من أعصابه . كان كمن وقع تحت تأثيرِ مخدرٍ مرعب. راح يقرأ في كتابٍ دون أن يفقه منه أي شيء. لم يعد يستطيع التركيز مطلقاً . أحس أن شيئاً ما قد إخترق عالمه وجعله يسبح في دوامة ٍ من الفراغ التي لاتنتهي. راح يتكلم مع ذاته بطريق الهمس وألأيحاءات التي لايفعلها إلا مجنون أو من كان قد تلبسته حالةٍ من ضياع الروح إلى ألأبد ” لماذا لم أبقَ معها وأشاركها في مراسيم نقل الجثةِ إلى عالمها ألاخير؟ ماذا ستقول عني؟ أنا لا أصلح لأي شيء..أنا مجرد جسد بلا روح..لقد فقدتُ حاسة الشعور بالموتى والبؤساء.. سحقاً لي ولعالمي الخيالي الذي لن أجني من ورائه سوى الخيبة وألأندحار…”. ألقى الكتاب جانباً مدَّ ساقية ..أرخى رأسهُ على صدرهِ في محاولةٍ للهروب من عالم الواقع وتجاهلِ دمدمة السيارات المنطلقة بسرعةٍ جنونية. وبينما كانت ألأفكار المرعبة تسيطر عليه من كل ألأتجاهات وهو بين اليقظة والخيال سمع صوتاً لسياراتٍ تطلق صفيراً مدوياً قادمة من بعيد . كانت ثلاث سيارات شرطة تشق عباب الهواء من الجهة ألاخرى للطريق السريع فتح عيناه كمن أصابه رعب مفاجيء . كانت السيارات قد تجاوزته بسرعة البرق وعند الفتحة البعيدة شاهدهن ينحرفن نحو الجهةِ التي يجلس فيها. قال مع نفسه بهلعٍ ” ياستار.. ماذا يحدث اليوم؟” وفي لمح البصر توقفن بالقرب منه. ترجل ضابط شاب لايتجاوز عمره الخامسة والعشرين أو أكثر بقليل. تقدم نحوه وهو يقول ” هل أنت العم سمير؟”. نهض العم سمير بخوفٍ شديد وقلقٍ مستديم ” نعم..أنا …هل هناك …..” لم يستطع مواصلة الكلام فقد قاطعه الضابط الشاب قائلاً ” تفضل معي..قاضي التحقيق الجنائي ألأول يطلبك ألآن “. شَحِبَ وجه العم سمير وراح يقول بتلعثم ملحوظ ” لم أرتكب جريمة في حياتي.. لم أسرق شيئاً طيلة عمري..لم أشترك في أي حربٍ طائفية.. لم أعتدِ على حقوق أي إنسان طيلة عمري..لم أشترك في أي مظاهرة ..لم أهرب يوماً واحداً من الجيش القديم…لم أشترك في أي تجمع سياسي أبداً..لم أتكلم بسوء ضد أي حاكم ….لماذا يطلبني قاضي التحقيق الجنائي ألأول ؟”.

إستدار الضابط نحو أحد رجالهِ وهو يقول بنبرةٍ آمِره سرعان ما إمتثل لها رجل الشرطةِ ألأخر ” رابط هنا قرب هذه العربة ولا تدع أحداً يقترب منها” إلتفت الضابط إلى العم سمير وهو يسحبه برفق من يدهِ ” تفضل معي ..لا أعرف أي شيء أنا مجرد مأمور لتنفيذ واجبي”. في لمح البصر إنطلقت السيارتين تشقانِ عباب الريح نحو المجهول. كان العم سمير يرتعد طيلة

الفترة التي قضاها داخل سيارة الشرطة..حاول أن يستذكر حياته منذ أن كان طالباً في جامعةِ المدينة الكبيرة حتى هذه اللحظة يبحثُ في تجاويف ذهنهِ المرهق عن أي حادثة أو فعلِ مشين يعاقب عليه القانون. لم يجد أي شيء . إستسلم لقدره وقال مع نفسه ” إنها تهمه كيديه..سأقضي قسماً من عمري في السجن وأنا بريء ……”. في اللحظةِ التي دخل فيها مكتب مدير قاضي التحقيق الجنائي ألأول إنسحب الضابط الشاب وهو يؤدي التحية للرجل عالي الشان. رحب به مدير المكتب وهو يقول ” هل تمت مضايقتك من قِبل الضابط أو أي واحدٍ من رجاله؟” تلعثم العم سمير وهو يجيب بصوتٍ مبحوح ” كلا”. صمت الرجل . وضع يده على زرٍ قريب منه . في لحظاتٍ لاتُذكر دخل رجل وهو يقول ” نعم سيدي”. أشار إليه مدير المكتب دون أن ينبس ببنت شفة ” حاضر سيدي”. وخرج بهدوءٍ من الغرفة. بعد لحظات مناسبة دخل ثلاثة رجال يحملون طعاماً شهياً. عند إتمامهم لمهمتهم تقدم مدير المكتب وهو يقول ” تفضل معي لنأكل سوية بعدها نتحدث في ألأشياء المهمة”. حاول العم سمير أن يبين له بأن ليست له أي رغبه لتناول أي شيء . إبتسم مدير المكتب وهو يقول ” لاتخف ..إذا لم تأكل فلن أتناول أي شيء.. من أجلي شاركني هذا الطعام”. راح المدير يتحدث عن أشياء عامة وعن قصص فكاهية ويضحك لوحده . قبل أن ينهي طعامه نظر إلى العم سمير وقال بجدية ” إسمع أيها العم سمير..ستبقى معنا هنا ثلاث ساعات فقط ثم نعيدك إلى نفس مكانك..لاتسألني عن أي شيء لأنني لا أعرف..أي شيء..واجبي أن أبقى معك هنا أو لنقل تبقى معي هنا ثلاث ساعات ثم تعود ..قد تقابل أشخاصاً هنا أو قد لايحدث ذلك..المهم أن تنقضي الثلاث ساعات ثم تعود .. هل هذا مفهموم ؟ إذا كنت في حاجةٍ لأي شيء أنا مكلف بتنفيذها..إذا أردت النوم أو ألأسترخاء يوجد لدينا مكان لهذا..إذا أردت ألأستحمام ..يوجد لدينا مكان لهذا..لا تسألني أي شيء”.

ظل العم سمير صامتاً ينظر إلى أرجاء الغرفةِ ألأنيقة الزاخره بأشياء لاتعد ولاتحصى..قطع رخامية لتماثيل جميلة جداً ودواليب من أرقى ماوقعت عليه عيناه في حياته الطويلة. كان المدير ينشغل بين الحين وألأخر بمكالمات طويلة تدل على عملٍ لاينتهي أبداً . كان العم سمير ينظر في ساعته اليدوية يعد الثواني والدقائق كأنها سنين عجاف لاتنتهي. مضت ساعة وأخرى…حسناً بقيت ساعة على المصير المجهول والنطق بالقرار الذي قد يغير كل تاريخ حياته إلى ألأبد… من يدري قد يدخل السجن دون أن تعرف حبيبته التي شاركته كل شيء طيلة السنوات المنصرمة..ستبكي في الليل إن بقيت لوحدها..لا..لا..ستصاب بالجلطة إن جاء الليل دون أت يعود لمنزله البسيط..لا.لا…ستموت في اللحظةِ التي تعلم بدخوله السجن.. كانت تقول له دائما ” بالله عليك لاتتأخر بعد مغيب الشمس…أيتها المسكينة …ماذا جنيتِ كي تتعذبي معي كل هذه السنين .؟” حسنا بقيت نصفُ ساعة. رن جرس الهاتف..إلتقطه المدير بسرعةٍ متناهية ” حاضر” ..هي الكلمة الوحيدة التي قالها. نظر إلى العم سمير وهو ينهض قائلاً ” تفضل معي ستقابل بعض ألاشخاص..لاتهتم ..كن صبوراً” . كان قلب العم سمير يدق بعنفٍ وهو يقف قرب الباب الذي سيدخل من خلاله لتقرير مصيره إلى ألأبد .قال المير للعم سمير وهو يفتح الباب بهدوء ” تفضل” . في اللحظةِ التي دخل فيها الرجل المرعوب خرج مدير المكتب. أنعقد لسان العم سمير ظل واقفاً كأنه فقد قابلية النطق. كان الضابط الشاب يجلس على أريكةٍ فاخرة يطالع صحيفة يومية وخلف مكتبٍ فاخر جداً جلست المرأة التي توفى والدها أمس. نهضت بسرعة متقدمه نحوهُ وهي تقول ” العم سمير ..أهلاً وسهلاً” وراحت تقبل خديهِ كأنها تعرفه منذ أن جاء إلى هذا العالم. نظرت ألى الضابط الشاب وهي تقول ” أحمد إذهب إلى عملك” . وقف الشاب بسرعه وهو يقول ” حاضر ماما”. خرج دون أن يلتفت إلى العم سمير.

بنظراتٍ حائرة وصوتٍ متهدج راح يتكلم بتقطع ” أنتِ…أنتِ؟ ماهذا ؟ هل أنا في حلمٍ أم أن هذا حقيقة؟”. سحبتهُ من يدهِ بلطفٍ تام وهي تقول ” لاتهتم ..تعال وأجلس هنا قربي لنتحدث عن كل شيء ” . كانت الصدمة قد عقدت لسانه لدرجه أنه لم يعد قادراً على قول أي شيء. كان كغريق شارف على الهلاك. وهي تقدم له قدحاً من الماء البار قالت ” ستعرف كل شيء بعد قليل…سنذهب أنا وأنت في سيارتي..عفوا سيارتك التي رفضتَ أن تأخذها أمس..لقد سجلتها بأسمك وأنتهى كل شيء..لم تعد ملكاً لي..بعد دقائق سأعيدك إلى مكانك بنفسي..أنا قاضي التحقيق الجنائي ألأول..أنت تستحق أكثر من هذا بكثير…” سكتت قليلاً ثم قالت ” أُفضل أن نتحدث في الطريق ..فلنذهب ألأن ” قبل أن تخرج ضغطت على الزر القريب من مكتبها. دخل مدير المكتب تحدثت إليه بطريقةٍ أخرى ” سأخرج ألآن وأعود بعد ساعتين..من يتصل قل له ستعود بعد ساعتين…” خرجت من الغرفة وهي تسحب العم سمير من يده بلطفٍ تام. كانت تقود السيارة بهدوء وتتكلم طيلة الوقت لدرجة لم تكن هناك فرصة له للحديث إلا ماندر ” الضابط هو أحمد إبني الوحيد..والده مدير البلدية التابعة للمنطقة التي تسكن بها أنت..تحت إمرتي عدد لابأس به من رجال الشرطة..حالتنا المادية جيدة جداً..أمس إتصلت بألأقرباء وقاموا بكل شيء فيما يتعلق بدفن والدي..الفاتحة تقام في مسجد “……” من الرابعة حتى السابعة مساءأ..هناك من يقوم بالمهمة عني. حدثت الجميع عنك وعن كل شيء. الكل تواقين لمقابلتك. قد تقول لماذا ذهبتُ معه أمس لوحدي؟ هناك أسباب خاصة لا أريد البوح بها الآن. طلبتُ من زوجي أن يجهزك بكرفان كبير في نفس المكان الذي تبيع فيه بضاعتك البسيطة… كلفتُ شخصاً ما ليجهزك ببضائع متنوعة للكرفان كلها من نقودي الخاصة. طلبت من مدير المكتب أن يبقيك ثلاث ساعات لغرض نصب الكرفان في هذه الفترة كي تكون مفاجأة لك..أنا لاأتصدق عليك أبداً. اللحظة التي شاهدتك فيها تحمل والدي بين ذراعيك وأنت تدخل المستشفى راكضا لاتلتفت لصيحات رجال المستشفى أقسمت مع نفسي أنك ستكون أخي حتى يوم مماتي.سأبقى أمنحك أي شيء ثمين حتى لو أضطررت لأستخدام القوة إن لم تقبل. “

كانت تمسح دموعها بين الحين وألأخر. كانت ذكريات اليوم المنصرم تسيطر عليها بشكل لايمكن التخلص منه أبداً. حاول أن يقول شيئاً بيد أنها أشارت له بعدم قول أي شيء حتى تنتهي من حديثها. إستأنفت حديثها بصوتٍ واهن ” عبارتك التي تقول – سأعلق منديلي ألأبيض علامة الحب والسلام لكل الناس – هزت مشاعري وجعلتني أذرف دموعاً طيلة ليلةِ أمس. سأجعل مكانك الذي تعمل فيه مكانا مقدساً زاهيا لكل الناس.. اللحظة التي شاهدتك تحمل فيها والدي من السيارة كي يتقيأ كانت لحظة مقدسة يالنسبة لي…لن أنساها أبداً. كنتُ أغرق في تلك اللحظة ..كان جسدك جسراً أعبر عليه إلى الضفةِ ألأخرى …كان بأمكاني أن أتصل بأأحمد ويجلب لي كل سيارات الشرطة المتواجدة في الواجب آنذاك..كنتُ كطفلة تخاف الظلام لا أعرف ماذا أفعل؟ نسيتُ كل شيء في حينها..نسيتُ من أنا وما هو مركزي الوظيفي… لم أجد سوى كلمة – عمو ساعدني – كنتَ كريماً أقصى درجات الكرمِ والشهامه والصدق في حبِ الناس. جن جنون أحمد أمس حينما حدثته عنك ..طلب مني أن نذهب أليك ليلة أمس ..ولكنني لا أعرف أين تسكن وفي أي بيت. وبخني زوجي لأنني لم أتصل به أو بأحمد. لا أعرف هل قدرك الذي ألقى بك

قرب الطريق السريع أم قدري الذي ألقى بي إلى ذلك الطريق. إن لم يكن عندك بيتاً سأشتري لك أفضل بيت. زوجتك ستكون بمثابة أمي. سأتردد عليك مرات عديدة في الشهر كضيفه كواحدة من بناتك. فقط قللي من يزعجك في منطقتك..سأعلقه في حبل المشنقة في لحظات. ” كانت تتحدث والدموع تنهال من عينيها كتيارٍ جارف.

في اللحظة التي إقتربا فيها من مكان العمل مسحت دموعها وعادت إلى حالتها الرزينة. وقف العم سمير قرب عربته مذهولا. كان هناك – كرفان عملاق خلف السياج الحديدي للطريق السريع يقف شامخا وعمالاً يدخلون ويخرجون كأنهم خليةِ نحل كبيرة ..قُطع الشارع السريع تماماً ..أصبح خالياً من حركة السيارات كأنَّ هناك منعاً للتجوال في يوم إنتخاباتِ رئيساً جديداً للبلاد…صُفت ألأعلام الوطنية على كلا الجانبين كأنه يوم خاص لأفتتاح الطريق السريع..كان العم سمير يبكي بصمت..هل هذا عرسٌ أم مأتم لروحٍ شارفت على الأفول؟ كانت العربة مركونة خلف الكرفان ..عليها كتباً قديمة وبضاعتةِ على حالها تئنُ بصمتٍ أم ترقص طرباً لايعرف الوصف الحقيقي لحالةٍ كهذه أبداً. تقدم الضابط أحمد من قاضي التحقيق ألأول وهو يؤدي التحية بقوة قائلاً ” كل شيء جاهز” . سحبت المرأة يد العم سمير ناحية باب الكرفان..قدمت له – مقصا – قائلة ” أنت ستفتح ألأسواق..لا أحد غيرك..” بيد مرتعشه قص العم سمير الشريط الملون…في اللحظةِ التي إنقطع فيه الشريط صاح الضابط أحمد بأعلى صوته ” أطلق النار في الهواء…..” أكثر من عشرين بندقية راحت تزغرد في الفضاء كأن حرباً مباغته إنطلقت عند الطريق السريع…بعدها صرخ مرة أخرى ” إنهي ألأطلاقات ..الى مواقعكم..إنطلق ..إنتهى الواجب” تدافع رجال الشرطة نحو سياراتهم يتقدمهم الضابط أحمد وأنطلقوا على الطريق السريع وصفارات سياراتهم تشق الصمت بلحنٍ مؤثرٍ جميل. حينما دخلت المرأة مع العم سمير الى داخل الكرفان أُعيد فتح الطريق السريع وعادت السيارات تنطلق بسرعة لا أحد يعرف سر أنقطاعه على حين غرة.

وقف العم سمير وسط الكرفان لايعرف ماذا يقول..هل هذا حلم كما يحدث في الروايات التي كان يقرأها في الزمن السحيق..أم هذا واقع ملموس؟ كانت المرأة تشرح له كل شيء…هذه بضاعة من أرقى بضاعة موجودة في أسواق الجملة.. وهذه ثلاجات مملوءة بالمشروبات ..وهذا مكتب لك كي تجلس عليه..لقد تم ترتيب كل شيء. سأتركك ألأن ..تستطيع أن ترتب أي شيء حسب ماتراه مناسباً …” قبل أن تنهي كلامها توقفت سيارة فارهه ..ترجل منها رجل وسيم في نهاية الخمسينات من عمره صرخ بهدوء نسبي ” ميساء” . حينما سمعت إسمها قالت ” هذا زوجي تعال كي أعرفك عليه”. سحبته كأنه طفل صغير. ” أقدم لك العم سمير..سمير هذا زوجي..” تصافح الرجلان بقوة. قال الزوج ” هل أنتِ راضية ألآن.؟ لقد فعلتُ كل مافي وسعي لأنجاح المهمة…سيادة القاضي” وراح يضحك بصوت منشرح وهو يتوجه نحو سيارته . قبل أن تستقل السيارة مع زوجها..كانت هناك إمرأة تركض بأقصى سرعة وهي تصرخ باكية ” سمير ..سمير.. أين كنت؟ جئتُ إليك ولم أجدك..كان رجال الشرطة يحرسون عربتك وأنت غير موجود..أين كنت؟ حينما سمعتُ الطلقات النارية أيقنت أنهم قتلوك..” إرتمت في أحضانه وهي تبكي بحرقة شديدة. حينما هدأت حدة بكائها قدمها إلى ” ميساء وزوجها” قائلا” أصبح عندنا سوقاً بدل العربة ..ستعملين معي من الصباح حتى المساء..سأعطيك راتباً شهريأ. لم تفهم ماكان يقوله في تلك اللحظة. قالت ميساء ” خذ مفاتيح سيارتك سأذهب مع زوجي في سيارته

سأمر عليك كل يوم حينما أذهب إلى العمل وعند العودة على هذا الطريق السريع..وداعاً في الوقت الحاضر”. إختفت السيارة والملاك الذي فيه في لمح البصر. “الطريق السريع”
حينما بدأت تباشير الصباح تنبثق بهدوءٍ على البيت المتواضع القريب من الطريق السريع وإزدادت أصوات العصافير حده على شجرة السيسبان الوارفة ، طفق العم ” سمير” يلملم حاجياتهِ القليلة المتواضعة كي يضعها في عربته الصغيره التي كان قد صنعها بنفسه قبل أيام ليتخذ منها وسيلة جديدة للعيش في هذا العالم المظلم الدامي. أنواع مختلفة من علب السكائر المختلفة ألألوان وألأحجام . رصفها بطريقةٍ أنيقة كأنه يرصف رصيفا لطريقٍ جانبي تم إهماله منذ مئات السنين. كان يعرف في قرارةِ ذاته أن بضاعته ماهي إلا ” سموم” قد صُنعت خصيصاً لتدمير البشر في كل زمانٍ ومكان. وقفت شريكة حياته إلى جانبه تمده بشيء من القوة والطاقةِ الكامنة في جسدٍ بشري لم يعد له دور في هذه الحياة سوى ذكريات الماضي السحيق ” ومغامراته” حينما كان يافعاً يرفد من أنهار الحب الخالد ذكرياتٍ سقيمة أكل الدهر عليها وشرب. كانت تخالفه دائماً في التعامل مع هذه البضاعةِ التي تعتبرها ” محرمه” في نقاطٍ كثيرة. كانت تتوسل إليه أن يتعامل مع أشياءٍ أخرى مفيدة للمجتمع والتنمية البشرية. سنين مرت كلمح البصر لم يكن فيها سوى الحرمان وألاشتياق إلى أشياءٍ كثيره ليس لها حصرٍ أو عد. أحلامٌ لم تجد لها طريقاً سوى الدموع وألأنتظار كلما غابت شمس يومٍ وبزغ فجرٌ جديد. كان يعرف تماماً أن كلامها صحيح مبني على أُسس علمية ومعروفه للجميع بَيْدَ أنه يسير حسب ماتمليه عليه ضرورات الحياة اليومية. كانت تساعده في مليء البراد الصغير المصنوع من طبقةٍ عازله لحفظ علب المشروبات الرخيصة…أنواع مختلفة من علب البيبسي والسفن آب وأشياء أخرى.

إنطلق بهدوء يدفع عربتهِ الصغيره صوب الشارع السريع الذي لايبعد عن موقع البيت إلا مايقرب من المائتي متر أو أكثر بقليل. حينما يصبح على بعد أمتار قليلة إعتاد أن يلتفت إلى الوراء كأنه يستمد من شريكة حياتهِ قوة خفيه تعينه على قضاء كل النهار هناك وحيداً على حافة الشارع يحلم ببيع كل ماكان قد وضعه في العربه. إعتادت هي ألاخرى أن تصرخ بصوتٍ مكتوم كلما غادر البيت ” كن هادئاً ومطمئناً ..الرزق على الله “. كانت تلك الكلمات الصادرة

بأخلاص من شخص شاركه كل معاني الحب والحنين على مدى سنوات شارفت على الثلاثين عاماً تمنحه قوه خفيه لاتنتهي طيله تواجده وحيداً على الشارع السريع. يتخذ مكانه المعتاد قرب الرصيف الحديدي للطريق الجهنمي الطويل . يبدأ بترتيب سعفات النخيل اليابسة التي إتخذ منها سقفاً بسيطاً كي تقيه حرارة الشمس الملتهبه طيلة فترة تواجده هناك. مضى على تواجدهِ في هذه المهنة نصف شهرٍ أو أكثر بأيامٍ قليلة. في ألايام ألأولى لم يوفق في شيء فقد كان يعود إلى البيت مهموماً لأنه لم يبع إلا علبةِ سكائر واحدة أو ثلاثة علب من السفن آب. قرر ترك العمل والرضوخ وألأستسلام إلى مصيره المجهول من شظف العيش وإنتظار راتبه التقاعدي فقط والذي لايكفي لأشياء كثيرة . كانت شريكة حياته تمده بكلمات تعيد له الحياة أحيانا وأحيانا أخرى يستهزأ منها. ظلت تغرس في روحه نبضات ألأمل وألأحلام الكبيره يوما بعد آخر ” لاتيأس ..لاتستسلم أبداً..ألأستسلام هو الموت بعينهِ..يوماً بعد آخر سيكون حضورك هناك مألوفاً كل أصحاب السيارات والمركبات المختلفة سيتعرفون عليك…مرحلة تكوين الحضور شيء مهم جداً في معركةٍ كهذه. صدقني ستحب المكان وسيصبح جزءاً من حياتك…من يدري قد يحدث شيء مفيد..إذا بقيت جالساً في البيت تنظر إلى أغصان الشجرة هذه وتراقب حركات العصافير ..لم تحقق إلا مزيداً من ألآلام وكره الذات. إبني لك وهماً هناك وصدقهُ من يدري قد يكون ذلك الوهم حقيقة وتتحول حياتك وحياتي إلى شيء آخر…البيت خُلق للنساء وليس للرجال. حياتنا هذه لايمكن العيش فيها دون وهم جميل ..قد يعذبنا هذا الوهم ولكن قد يمنحنا حلماً يرفد حياتنا بأشياء جميلة.”

كانت كلماتها ترن في أذنيه كلما جلس قرب الطريق السريع ينظر إلى المسافات المترامية وتموجات السراب التي تشبه الماء. أحياناً كان العم : ” سمير ” يشعر بالعار والخذلان من أن يراه شخصاً يعرفه أو صديقِ طفولةٍ شاركه مقاعد الدراسةِ الطويلة . لم يكن العم سمير بائعاً إعتياديا كؤلائك الباعةِ المنتشرين في مناطق مختلفة من العاصمة الكبيرة. كان شخصاً آخر ينتمي إلى عالمٍ خاص . شيءٌ واحد جعله ينتمي إلى هذا الشارع السريع ينتظر بزوغ الشمسِ كل يوم كي يجلس هناك تحت سقف بسيط يتكون من سعف النخيل. كانت ملايين السيارات تمر من أمامهِ كل يومٍ يحدق في كلِ واحدةٍ ويقول في ذاته ” من ينظر إلى هذه المركبات الكثيرة يشعر أنه لايوجد شيءٌ إسمهُ الفقر في هذا العالم.. من أين جاءت كل هذه المركبات وكيف تم دفع سعرها..قضيت أكثر من خمسين عاما دون أن أتمكن من شراء نصف مركبه من هذه المركبات..دخلتُ حروباً كثيرة وشاهدتُ مآسي جمه..ولكن يبقى السؤال…لماذا لم أتمكن من الحصول على واحدة طيلة هذه السنوات..هل هو العيب في شخصي أم في مكانٍ آخر؟” .

بعد لحظاتٍ من هذا التأمل وحديث الروح يستعيد وعيه ويستغفر الله من كلِ ذنبٍ عظيم. يتذكر كلمات شريكة حياته ” أهم شيء في الحياة أن يكون المرء مطمئن البال خالٍ من أي ذنوب وأعمال شريره وأن لايؤذي ألآخرين وأن يعود إلى بيتهِ سالماً من أي مكروه ” وتعيد له سرد حكاياتٍ مأساوية حدثت للجيران….كيف تمزقت أشلاء بنت جيرانهم عند الجامعة المستنصرية وكيف تمزق جسد خطيب “غفران” في باب المعظم وحوادث أخرى مرعبة يعرفها كل من عاش في هذا البلد في سنواتٍ معينه. حينما يستعيد تلك الحوادث يحمد الله كثيراً لأنه لازال على قيد الحياة هو وزوجته بالرغم من سنوات الحرب التي لاتنتهي . يجلس بالأتجاه المعاكس للشارع الطويل يفتح كتاباً لكاتبٍ عالمي ويبدأ بألتهام سطوره الواحد تلو ألأخر بنهمٍ لاينتهي. حينما يستغرق في الكتاب ينسى الشارع السريع ولم يعد يسمع أي شيء سوى دمدمات مكتومة كأنها طبول تُقرع لقبائل الزنوج في إحدى الغابات الوحشية. في يومٍ ما وبينما كان يسبح في عالم إحدى الروايات العالمية توقفت سيارة ” ميني باص” . إلتفت صوبها وهو لايزال تحت مخدر إسلوب الكاتب الفريد . ترجلت مجموعة من الطالبات الجامعيات بملابسهن ألأنيقة جدا . كُنِّ يتدافعن للوصول إلى ” الصندوق الفليني” بضحكاتٍ هستيريه خارجة عن المألوف. كل واحدة منهن تتحسس مدى برودة العلبة. في لمح البصر كان ” صندوق الفلين” قد نفذ عن بُكرةِ أبيه. لم يفاوضن على السعر وكأن ألامر كان لايعنيهن من قريبٍ أو بعيد . كان العم سمير ينظر إليهن بمرح ٍ وحزنٍ في نفس الوقت. كان سعيداً جداً لأن بضاعته قد نفذت وهذا معناه العودة إلى البيت قبل نهاية النهار وحزين لأن تواجد الفتيات قد أعاد لروحه المنهكه سراباً كان قد عاشه قبل أربعين عاما .

كُنَّ يتحدثن عن أمور دراسيه وعن أسئله إمتحانيه تخص لغه أجنبية كُنِّ يدرسنها في ذلك الزمن. على حين غره حدث شجار طفولي بين البعض منهن حول إجابةٍ لسؤالٍ ما …واحدة تقول هكذا وألاخرى تعاندها في محاولةٍ لأثبات صحة إجابتها. كان العم سمير يصغي بأنتباهٍ شديد . حينما إحتدم النقاش – الذي كان قد أدى إلى صراعٍ بكلماتٍ نابيه بينهن- تنحنح العم سمير وهو يقول بأدبٍ مسرحي ” هل يمكن أن أطلع على السؤال ؟” . سكتن جميعاً بذهول لهذا التدخل غير المتوقع من قبلِ هذا الرجل الذي يرتدي ” دشداشه” غامقة اللون وكأنه فلاح في أرضٍ لم يعد لها وجود. صاحت إحداهن ” ماذا؟ ” . كرر قوله” أستطيع أن أكون حكماً متواضعاً لحل هذه المشكلة بينكنِّ”. دون تردد قفزت الفتاة التي كانت تقود الحوار إلى داخل السيارة وقدمت له ” أسئلة ألأمتحان” . ” خذ فلنرَ ماذا تستطيع أن تفعل؟” قالت ذلك بتهكم وسخرية جعلت الفتيات ألأخريات ينتقدنها على سلوكها الفظ. تناول العم سمير قصاصة الورق الصقيل. راح يُمعن النظر بدقة متناهية وهو يمسد لحيته التي لم يُحلقها منذ ثلاثة أيام . كُنَّ ينظرن اليه بطرق متباينه…بعضهن يطلقن ضحكات ساخره والبعض ألأخر يتعاطف معه. أنهى العم سمير قراءة السؤال بدقة . نظر إلى الجميع بطريقة جادة وهو يقول ” إسمعن جيداً…المقصود بالشقوق الموجودة في يد الصياد …الصعوبات والمعاناة والمشاكل التي تواجهه في ذلك البحر المتلاطم ألامواج..كان يعاني من مشاكل كثيرة.. العطش الجوع صراع السمكة الكبيرة ومقاومتها للخلاص من الشبكة.. كانت السمكة تمثل بالنسبةِ له الهدف الذي جاء من أجله ..قطع مسافاتٍ بعيدة كي يصل إلى هذا المكان..سمكة القرش أو لنقل سمك القرش تُمثل العدو الوحيد في ذلك المكان المنعزل..كان سمك القرش وحشياً في هجماته إلى أبعد الحدود..يريد أن ينهش السمكة من كل ألأتجاهات.. الشيخ الوحيد في ذلك البحر يقاتل بضراوةٍ لوحده..لا يريد

ألأستسلام. كان بأمكانه أن يحرر السمكة لأسماك القرش ويبحث عن صيد أخر ولكن هذا يعني ألأنهزام ألأندحار العودة خاوي الوفاق من كل شيء..هو عجوز ..لديه قوة محدودة وسلاح بسيط وعدوه شرس ..سمك القرش إلتهم كل السمكة عدا العظام…كانت سمكة كبيرة جداً أراد أن يعيدها إلى الساحل كي يُثبت لأبناء القريةِ الساحلية قوته وصبره في قتال ألأعداء على الرغم من عدم وجود نصير له سوى إرادته وثباته..بالتأكيد عاد الشيخ إلى الساحل يجر عظام السمكة الكبيرة ولكن بلا لحم..هذا مختصر لكل السؤال” .

رانَ صمتٌ مديد على الوجوه النضرة الحائرة لهذا الجواب غير المتوقع. صاحت إحداهُنَّ ” ياألهي لقد قُضيَ علي هذا اليوم..كان جوابي بعيداً جداً عن هذا التشبيه غير المتوقع” وصاحت ألأخرى ” واو..سأفشل في هذا ألأمتحان” . في لحظات عُدن إلى السيارة التي إبتعدت في ثوانٍ قليلة. أراد أن يصرخ بأعلى صوته ” لم تدفعن الثمن ” . جلس متهالكاً يشعر بالخذلان . لقد ضاعت بضاعته دون جدوى..لم يدفعن أي شيء. راح العرق يتصبب من جبينه. ماذا سيقول لشريكة حياته؟ هل هو غبي إلى هذه الدرجة من ألاهمال؟ قال يحدث ذاته ” خسارة أخرى تُضاف إلى خسارات حياتي التي لاتعد ولاتحصى….إيه ..فليحترق العالم طالما أن هناك لامناص من إحتراق روما..” كانت عيناه ترفرفان على الطريق السريع دقائق معدودة ..كان يشعر بأستوحادٍ رهيب وخلوةٍ مرعبة ويأسٍ لايجاريه يأس في هذا الكون. شعر أن هناك ثقبٌ كبير يتسع في قلبه. أدار ظهره للشارع السريع وهو يشعر بكرهٍ لكلِ شيء يمر قربه. تناول رواية ” عناقيد الغضب” وراح يُكمل ماكان قد بدأهُ قبل مجيء الطالبات سارقاتِ بضاعته بلا خوفٍ أو حياء. قبل أن يُكمل الصفحةِ التي طفق بقرائتها سمع صرخةٍ قويةٍ لعجلاتِ مركبة غاضبه . أدار جسدهُ بتثاقل . كانت سيارة الطالبات تعود من جديد. كان يشعر بكرهٍ داخلي تجاه كلِ واحدةٍ منهن. لم ينهض كنوع من التمرد تجاه عملهن المشين..أراد أن يبرهن سخطه من خلال صمته وعدم النهوض. إندفعن جميعهن صوبه كأنهن يندفعن لأنقاذ غريقٍ غريب في هذا الكون. صرخن جميعهن في وقتٍ واحد ” المعذره ..المعذره.. لم ندفع ثمن علب المشروبات الباردة” . لم ينبس ببنت شفه. كان كجريحٍ يلفظ أنفاسه ألأخيرة.

كانت كل طالبة تضع فوق ” صندوق الفلين” ثمن جميع العلب دفعه واحدة. لم ينظر إلى النقود بفرحٍ كما كان يفعل في المرات الماضية. كان يشعر كأنه يستجدي ألأخرين بطريقةٍ غير شرعية. حصل على عشرة أضعاف الثمن بيد أنه لم يشعر بأي شيء كالمرات السابقة. عُدنَ إلى الحافلة بصمت ملبد بعارٍ وحياء لهذه الهفوه التي أرتكبنها دون قصد. لم يلتقط النقود وكأنه شعر بأنه يأخذ حقاً ليس له. بقيت فتاة واحدة تنظر إليه بعينين حزينتين . قالت بصوتٍ هامس ” كانت غلطتي.. أنا التي دعوتهن جميعاً …كانت الدعوة بسبب خطوبتي أمس.. أنا عاجزة عن ألأعتذار..إعتبرني مثل إبنتك التي ترتكب هفوه غير مقصودة…..” إستدارت لتعود إلى الحافلة ..قبل أن تصل باب السيارة عادت مسرعة وهي تقول ” خذ هذه المئة دولار .. لقد أعطتني أمي إياها أمس لشراء فستانا جديداً ولكنني أعتقد أنك تستحقها لشراء ثوباً جديدا..” لم يمد العم سمير يده لأخذ الورقة من فئة المئة دولار.. وضعت الفتاة قطعة النقود فوق صندوق الفلين بسرعة وركضت نحو الحافلة. كانت تنظر إليه من بعيد وهي تمسح دموعها بصمت. لم ينهض من مكانه ولم يحول بصره عن السيارة التي كانت تختفي رويدا رويدا على الطريق السريع كما

إختفت أحلامه وأنقضت سنوات عمره في صمتٍ وذبول. جمع العم سمير جميع النقود وقرر العودة إلى البيت كي يُخبر شريكة حياته بما حدث له على الطريق السريع هذا اليوم.

توالت ألايام وأستمر العم سمير يتأقلم مع الوضع الجديد الذي طرأ على حياتهِ. أصبح المكان جزأً من حياتهِ وكانت شريكة عمره تمده بمساعدات كثيرة حتى أنها في بعض المرات كانت تأتي إليه تجلس معه دقائق قليلة ثم تعود بناءاً على طلبه…كان لايريدها أن تدخل هذا الميدان القاسي عند حافة الشارع. كانت تشعر بالوحدة والعزلة في البيت وهي تنتظره طول اليوم. ذهب كل أبنائهم إلى بيوتٍ مستقله مع زوجاتهم الغريبات عن القبيلة. حاول أبناءه عدة مرات أن يثنوه عن هذا العمل – غير الشريف في نظرهم – وحينما وافق العم سمير على ترك العمل مقابل منحه نصف راتبهم شهرياً نظر بعضهم إلى بعض بطريقةٍ غريبة وسكتوا إلى ألأبد. كان يشعر بسعادة كبيرة يوماً بعد آخر. أصبحت لديه علاقات جديدة مع بعض سائقي المركبات المختلفة ..فقد تكررت بعض الوجوه مراتٍ عديدة لدرجة أن بعضهم كان يجلس قربه خصوصاً أؤلئك القادمين من محافظاتٍ بعيدة. كانت بعض السيارات تتوقف عنده يسأله البعض عن عنوانٍ ما في العاصمة أو عن مكان عيادة أحد ألأطباء في منطقةٍ معينه. في بعض ألأحيان يستمع إلى حوارات ونقاشات عن أشياءٍ متباينه. كان يدون قسماً من ألاحاديث التي يراها مناسبه تصلح لحكاية قصيرة يكتبها حينما يعود إلى البيت. لم يكن يعشق التلفاز كما كانت تفعل شريكة حياته. كان يجلس قربها في المطبخ البسيط وهي تشاهد تقريراً عن إحدى مناطق ألأمازون أو تقريراً عن حالات المجاعة في دولةٍ أفريقية لم تصلها الحضارة بعد. كانت تعشق التقارير الغريبة . يبقى العم سمير يدون ماكان قد سمعه في النهار عن حكايات بسيطة ويحورها إلى قصصٍ خيالية. مرة قالت له شريكة حياته ” لماذا لاتخلد إلى الراحةِ وتترك هذه الحكايات التي ليس بها شيء سوى وجع الدماغ”. ينظر إليها برأفه ويعود بفكرهِ إلى أيام الشباب وكيف تعرف عليها وتزوجها حينما كانا في جامعةٍ واحدة. حينما ترى نظراته الشاردة عن الواقع الذي يعيش فيه… تبادر قائلة بسرعةٍ كبيرة ” حسناً إفعل مايحلو لك…….”.

عند ظهيرة أحد ألايام توقفت سيارة حديثة بالقرب منه. ترجلت إمرأه متوسطة العمر أنيقة جداً..تقدمتْ نحوه وقد ظهر على وجهها قلقٌ ملحوظ. دون مقدمات سألته فيما إذا كانت لديه قناني ماء معقم بارد. بطريقةٍ آليه قدم لها قنينة واحدة ..فتحتها على عجلٍ من أمرها وراحت تسكب الماء على وجه الرجل العجوز الجالس في المقعد ألأمامي. كان العم سمير ينظر بعدم إكتراث لتلك الحالةِ التي كانت تجري أمامه. تعلم من سياق العمل الذي مارسه هنا على مدى ستة أشهر على أن لايتدخل في أي شيء ما لم يُطلبُ منه ذلك. حوادث كثيرة كانت قد مرت أمامه على طول تلك الفترة التي قضاها مراقباً لهذا الشارع الطويل. فجأةً صرخت المرأه ” عمو تعال ساعدني كي نخرج والدي من السيارة.. يريد أن يتقيأ” . جاء نداء العون ..أو صرخة الحياة المكتومة في صدر تلك المسكينة. أسرع العم سمير وهو يحاول سحب الرجل العجوز الذي كان على وشك أن يفقد وعيه. حمله بين ذراعيه كأنه يحمل طفلاً صغيراً ..وضعهُ على مسافةٍ مناسبة من الطريق وتركه يفرغ مافي معدته بهدوء. كانت المرأه تقف إلى جواره ترتعش من قمة رأسها حتى أخمص قدميها. كانت تمسح دموعها بين الفينةِ وألأخرى. ظل الرجل المسكين جالساً على ألأرض المتربة بعضاً من الوقت كي يلتقط أنفاسه من جديد. في اللحظةِ التي أشار فيها إلى إبنته معلناً إنتهاء فترة التقيء والرغبةِ للعودةِ إلى داخل السيارة نظرت نحو

العم سمير دون أن تتفوه بحرفٍ واحد. فهم الرسالة الصادرة من أعماق ألأنثى الواقعة تحت عذاب الخوف من أن شيئاً ما قد يحدث لوالدها قبل أن تصل به إلى المستشفى. حمله من جديد ووضعه بهدوء في المقعد ألأمامي.

لم يقبل أن يأخذ ثمن قنية الماء البارد ..شكرته وهي تعود إلى داخل السيارة. قبل أن تنطلق عادت راكضة نحو الرجل الذي إتخذ من هذا المكان موطناً له .. كانت ترتجف كسعفةٍ في مهب الريح ” عمو تعال معي إلى المستشفى ..أرجوك.. والدي لايستطيع التنفس بصورةٍ منتظمة.. أخاف أن يلفظ أنفاسه قبل أن أصل إلى المستشفى…أترك كل شيء هنا ..سأعطيك ثمن العربة وكل مافيها ..أرجوك.. أتوسل إليك….خذ ما تشاء من هذه النقود وأترك كل شيء.. سيموت والدي .. أنا عاجزة عن القيام بكل شيء.. لا أحد عندي في البيت سوى هذا الرجل العجوز.. سأقتل نفسي إن مات هنا ” راحت تخرج من حافظة نقودها أوراق كثيرة من فئة ال ( 25 ألف دينار). كان العم سمير يصارع ذاته بشكل كبير…لم يقل أي شيء سوى كلمة واحدة ” إنتظري) . مزق ورقة كبيرة من دفتر ملاحظاته فرشها على ” صندوق الفلين ” وراح يكتب بصوتٍ مسموع كأنه يخاطب زمناً لم يعد له وجود في هذه الحياة. – ( إلى كل الشرفاء في هذا الطريق المرعب.. الطريق السريع..سأترك بضاعتي هنا أمانه لديكم..خذوا ماتريدون وأتركوا الثمن في هذا الكتاب – عناقيد الغضب- سأذهب لأنقاذ رجلاً غريباً ولكنه ينتمي إلينا جميعاً في رابطة الوطن وألارض والدم وألأنسانية… أليس من الممكن أن ننقذ أنسانا يغرق حتى لو كان غريباً… أنا لاأملك أي شيء سوى هذه العربة والبضاعة التي فيها.. لكن الواجب المقدس.. واجب ألانسانية أجبرني لترك كل شيءٍ هنا.. .إذا كنتم أشرار فخذوا كل شيء وأتركوا لي العربة التي صنعتها بدمي وعرقي ..عائلةٌ تعتاش عليها.. وزوجة مسنّه تنتظر عودتي عند المساء ..من كان لصاً فليأخذ كل شيء لأنه بنظري جانح لايعرف معنى الشرف وألاخلاق.. ومن لم يكن لديه أخلاق فليفعل مايشاء… سأعلق منديلي ألأبيض في ذراع العربة علامة الحب والسلام لكل الناس..” وبسرعة البرق أخرج منديله ألابيض مثبتاً إياه في ذراع العربة. وضع الورقة على الصندوق الفليني وثبت فوقها طابوقة كبيرة. ركض نحو السيارة صوب الرجل المسن الذي يكاد يلفظ أنفاسهُ في أي دقيقة. لم تتحرك المرأه ظلت تقرأ الورقة عدة مرات لدرجة أنها نسيت والدها لحظاتٍ قليلة..

صرخ العم سمير ” ماذا بك ؟ تطلبين المساعدة الفورية وأنتِ واقفة وكأن الطير على رأسك….تعالي بسرعة”. أعادها صراخ العم سمير إلى واقعها المرير. ركضت بجنون نحو سيارتها وأنطلقت تشق عباب الهواء كصاروخٍ ضال في معركةٍ همجية. كان العم سمير قد وضع الرجل المريض في المقعد الخلفي وهو يمسك جسده بعناية تامة. كان المسكين قد أغمض عيناه وأستسلم لرقدةٍ مخيفة بيد أن نبضات قلبه الضعيف كانت ترسل إشاراتٍ تدل على وجود حياة واهنه على وشك التوقف في أي لحظة مودعةً حياة طويلة لم تكن في حسابات الزمن إلا لحظاتٍ قليلة. كانت المرأة تمسح دموعها بين الفينةِ وألأخرى وصوت نشيجٍ مكتوم يخرج من جسدها رغماً عنها. ” ركزي على الطريق وأتركي علامات العاطفة والبكاء في الوقت الحاضر ..أمامك وقتٌ طويل للبكاء والعويل ” . قال العم سمير تلك الكلمات بقلب جامد وعاطفة ثلجية كانه كان قد إعتاد على مواقف مماثلة مرت عليه قبل سنوات وسنواتٍ… أيام الحرب الطويلة التي أحرقت كل شيء في الزمن البعيد. ” والدي كان ضابطاً كبيراً في الجيش..شهِد أغلب

الحروب التي عصفت ببلدنا..ماتت أمي في صاروخٍ وقع على دارنا لاندري من أطلقه..كانت كل شيء في حياته.. يعشقها ..يعبدها إن صح التعبير..لم يذرف دمعه واحدة.. كنت أسمعه طيلة الليالي التي أعقبت موتها يجلس في حديقة الدار كل ليلة يخاطب شخصاً وهمياً.. أحيانا يضحك بصوتٍ مسموع وأحياناً يصمت.. يقول بصوت كسير وحنين لايوصف ..لقد جئتُ من المعركة.. لم أصب بطلقةٍ واحدة رغم القصف العنيف..جلبتُ لك رصاصات فارغة من مدافعنا كي نعملها مزهرياتٍ نضعها في ركنٍ من أركان البيت… لكنك تأخرتِ في السوق ألم تقولي لي بأنك ستعودين بعد نصف ساعة.. ها أنا أنتظر منذ ثلاثة أشهر هنا في هذا الليل المرعب وحيداً ..لم أعد أتحمل العزلةِ والوحدةِ وعذاب ألأنتظار..سأعاقبك عندما تعودين لأنكِ لم تمتثلي لأوامري.. سأعفي عنكِ إذا بررتِ لي سبب غيابك الطويل..لا أستطيع النوم وحيداً في غرفتنا التي شهدت أحلى سنين عمرنا” .

في اللحظة التي أوقفت سيارتها أمام المستشفى الكبير ركضت تستنجد بالعاملين تنشد عونا طبياً لجسد شارف على الهلاك..ترجل العم سمير ..أسرع نحو غرفة الطواريء وهو يحمل الرجل العجوز بين ذراعيه. كانت تركض وراءه وأحد ألأشخاص يطلب منه أن يضع المريض على النقالةِ المخصصة لنقل المصابين والمرضى. لم يسمع أي شيء مما كان يُقال له وأستمر يركض في خفةٍ ورشاقة. حينما وضعوه في غرفة ألأسعاف الفوري طلب الطبيب من الجميع أن يخرجوا كي يسعفوه بطريقةٍ علميةٍ . صرخ العم سمير ” بالله عليك يادكتور .. حاول أن تنقذ أخي هذا ..هو الوحيد الذي بقي لي في هذا العالم” . كانت تستمع إلى كلماتهِ بشيء من التعجب وعرفان بالجميل. كانت تجلس في ردهةِ ألأنتظار تصارع دموعها المتفجرة بينما كان العم سمير يتحرك بقلقٍ يرتجف من قمةِ رأسهِ حتى أخمص قدميه.. طالت ساعات ألانتظار وألأحتصار وألأحتضار والقلق الكبير. خرج الطبيب مرهقاً وهو يقول ” مع ألاسف لم نستطع إنقاذه..يبدوا أنه كان قد تجرع حبوبا كثيرة أثرت على صحته بشكلٍ كبيرة..يبدو أنه أراد ألانتحار.” لم تصرخ المرأة…لم تقل أي شيء سوى كلمةٍ واحدة ….”ما أتعسني”. خرج العم سمير إلى الحديقةِ الخلفية .. تركها وحيدة .. إنهار خلف الجدار القريب .. جلس على ألأرض وراح يبكي كأمراة أو طفلاً صغيراً يضرب رأسه ويقول ” هكذا أنا.. لا أنفع لأي شيء.. لقد فشلتُ في إنقاذه كما فشلت في إنقاذ جاسم في تلك الليلة المرعبة عند خطٍ من خطوط النار…كم أنا بلا فائدة..”. كانت قد جلست قربه وهي تبكي وتقول ” لقد فعلت كل شيء.. أنت تستحق كل شيء..”

نهض بتثاقل وهو يقول ” لاتوجد فائدة من وجودي هنا بعد الآن…لقد ضاع مني كما ضاع أولادي وتركوني أعاني عذاب الوحدة والرغبة القاتلة للحديث معهم عن أي شيء…تستطيعين القيام بكل شيء لوحدك ..أو مع أقرباؤك إن كان لك أقرباء… سأنسحب من هذه المعركة الخاسرة كما إنسحبنا من أرض الكويت والمطلاع وحفر الباطن وتركنا قتلانا تنهش أجسادهم الغرباء والوحوش…المعذرة لأنني لم أستطع أن أفعل أي شيء…” تركها مسرعاً صوب البوابةِ الخارجية للمستشفى. كانت تركض خلفه كالمجنونة تطلب منه ألأنتظار بعد ساعات ألأحتظار. مسكته بقوة من يدهِ اليسرى وهي تصرخ ” خذ هذا مفتاح سيارتي .. هي هدية مني لك..أن تستحق كل شيء..” نظر إليها بعينين حمراويتين غاضبتين وهو يصرخ بأعلى صوته ” أنا لستُ شحاذاً ….لاأريد منكِ أي شيء.. من قال لكِ أنا أريد ثمناً لعملٍ خيري

إنساني أردتُ القيام به…أستطيع أن أدبر معيشتي حتى لو تخلى عني أبنائي..لازلتُ قوياً …” دفعها أمام الناس وأسرع نحو البوابةِ وهو يبكي كالطفل الرضيع. إستأجر سيارة إلى مكان تواجد عربته البسيطة. على طول الطريق الممتد بين المستشفى ومكان تواجد عربته كان سارحا ساهما في عالمٍ من الحزنِ والشرود . نسي عربتهِ تماما ولم يعد يتذكر سوى نظرات ذلك العجوز المسن ..تذكر كيف كان يمسك يدهِ وكأنه غريق في عالم الغربةِ والوحشة والضياع..كانت نظراته الصافية تنطق أشياءاً كثيرة.. كم تمنى لو أنه إستطاع أن ينقذه في لحظاتهِ ألأخيرة…أعادت له صورة ذلك الرجل ..اللحظات ألأخيرة التي كان ينظر بها إليه أحد أقربائه ألأعزاء وهو يلفظ بها أنفاسه ألأخيرة.

طلب من سائق سيارة ألأجرة أن يتوقف في الجهة المقابلة لعربته المتواضعة. قبل أن يعبر الشارع نظر من بعيد ليتأكد من وجود عربته…شاهد منديله ألأبيض يرفرف بقوةٍ كبيرة بسبب الرياح …كان الجو ملتهباً . تنفس الصعداء وهو يقول ” الحمد لله لازالت في مكانها” . في اللحظة التي أصبح قربها وقف مذهولاً..لم يُصدق ماكان قد وجدهُ . كان هناك عدد من قصاصات الورق مخبأه في الكتاب الذي وضع فيه رسالته إلى كل الشرفاء في الطريق السريع. لم يجد أي شيء من بضاعته فقد إختفى كل شيء عدا العلب الفارغة وأعقابُ من سكائر ملقاة عند حافة الشارع. كانت النقود في وسط العلبة المعدنية التي خصصها لجمع ” الوارد اليومي”. قرأ القصاصة ألأولى ” أنا لص ..أعتاش على السرقة..قررتُ إختطاف كل شيء..في اللحظة ألأخيرة ..قلتُ مع نفسي ماذا أفعل بدراهم معدودة؟ أنا أبحث عن أشياءٍ ثمينة..منذ نعومة أظفاري وأنا أسرق ..لا أدري لماذا تركتُ نقودك..لايهم ..أخذتُ علبتين من علب البيبسي وعلبة سكائر..النقود في العلبة المعدنية..من يدري ربما أجد صيداً أضخم من هذا الذي تحتفظ به هنا..مع السلامة..أخوك أبو دموع”. وضع القصاصة جانباً ليقرأ القصاصة ألأخرى ” أسعدني كلامك الجميل ..حينما شاهدتُ المنديل ألأبيض راودني فضول لمعرفة سبب وجود المنديل والعربة المركونة على قارعة الطريق…شعرتُ أن هناك ثمة لغزٍ يكمن وراء ذلك . أنا مدير شركة “………….” للمقاولات العامة في مركز العاصمة…أبحث عن رجالٍ مخلصين ..إذا كانت لديك الرغبة للعمل معي إتصل بي على الهاتف الموجود في أسفل الورقة..من يدري قد تكون لك فرصة جيدة ….أشتريتُ علبة سكائر وعلبة سفن آب….النقود في ” صندوق الوارد اليومي ..أبو أمجد “. كانت بقية الأوراق مجرد دعاء بالموفقية للمبادرة ألأنسانية التي قام بها العم سمير.

جمع النقود ..وضعها في العلبة المخصصة…وضع العلب الفارغة في علبةٍ كارتونية وعاد يجر قدميه بتثاقل صوب البيت. أستقبلته شريكة حياته كعادتها كل يوم بكلمات الحب والدعاء بالصحةِ الجيدة..لم ينبس ببنت شفه. كان صامتاً على غير عادته حينما يدخل البيت بعد إنتهاء عملهِ . دون أن يتوجه إلى المطبخ كما كان يفعل كل يوم..إنسل بصمت تام إلى غرفة نومه ..إستلقى على فراشه بصمتٍ حزين. لم تحاول زوجته ألأستفسار عن سر هذا التحول في البداية أرادت أن تهبه متسعاً من الوقت كي يعود إلى سابق عهده كلما شعر بنوبةٍ من الحزن التي كانت تسيطر عليه بين الفينةِ وألأخرى. إستغرق في نومٍ كطفل سأم اللعب بأشياء رتيبة. في الليل جلس إلى جانب زوجتهِ في المطبخ صامتاً إضطر بعدها إلى شرح كل شيء لها بناءاً على إصرارها المتواصل. ” إترك هذه المهنه وعد إلى حالة الجلوس في الحديقة ..لن نموت

من الجوع…لا أطيق حالة اليأس التي حلت بك هذا اليوم.” قالت ذلك وهي منشغلة بترتيب مائدة الطعام. لم يعلق على كلامها. في الصباح عاد للعمل في نفس المكان والزمان. كان يشعر أن الطريق السريع أصبح جزءاً من حياته. أضافَ إلى بضاعته شيئاً آخر ذلك اليوم. حاولت زوجته في الصباح أن تثنيه عن القيام بذلك لأن الناس سيضحكون عليه على حدِ قولها. لم يهتم لكلامها ” فليضحك العالم كله عليّ طالما أنني لست بسارقٍ ولا منتهكاً حقوقِ أي إنسان” قال هذه العبارة وهو يندفع خارجاَ من بوابة البيت عند بزوغ الشمس. كان قد حمل معه كل روايات أرنست همنغواي وبعضا من كتب دي. أج. لورنس وإحسان عبد القدوس. كانت لديه كتباً قديمة كان يحتفظ بها قبل أكثر من ثلاثين عاما. كانت زوجته قد رزمتها في صناديق كارتونية وخزنتها تحت سلم البيت الداخلي. بين فترةٍ وأخرى كانت تحثه على حرقها أو إلقائها في مزابل المدينة. قرر مع نفسه أن يقضي كل ساعات العمل في إعادة قرائتها إن لم يتقدم أي شخص لشرائها .

كان يشعر بعدم إرتياح وقلق . حادثة اليوم الفائت قد شغلت كل عصبٍ من أعصابه . كان كمن وقع تحت تأثيرِ مخدرٍ مرعب. راح يقرأ في كتابٍ دون أن يفقه منه أي شيء. لم يعد يستطيع التركيز مطلقاً . أحس أن شيئاً ما قد إخترق عالمه وجعله يسبح في دوامة ٍ من الفراغ التي لاتنتهي. راح يتكلم مع ذاته بطريق الهمس وألأيحاءات التي لايفعلها إلا مجنون أو من كان قد تلبسته حالةٍ من ضياع الروح إلى ألأبد ” لماذا لم أبقَ معها وأشاركها في مراسيم نقل الجثةِ إلى عالمها ألاخير؟ ماذا ستقول عني؟ أنا لا أصلح لأي شيء..أنا مجرد جسد بلا روح..لقد فقدتُ حاسة الشعور بالموتى والبؤساء.. سحقاً لي ولعالمي الخيالي الذي لن أجني من ورائه سوى الخيبة وألأندحار…”. ألقى الكتاب جانباً مدَّ ساقية ..أرخى رأسهُ على صدرهِ في محاولةٍ للهروب من عالم الواقع وتجاهلِ دمدمة السيارات المنطلقة بسرعةٍ جنونية. وبينما كانت ألأفكار المرعبة تسيطر عليه من كل ألأتجاهات وهو بين اليقظة والخيال سمع صوتاً لسياراتٍ تطلق صفيراً مدوياً قادمة من بعيد . كانت ثلاث سيارات شرطة تشق عباب الهواء من الجهة ألاخرى للطريق السريع فتح عيناه كمن أصابه رعب مفاجيء . كانت السيارات قد تجاوزته بسرعة البرق وعند الفتحة البعيدة شاهدهن ينحرفن نحو الجهةِ التي يجلس فيها. قال مع نفسه بهلعٍ ” ياستار.. ماذا يحدث اليوم؟” وفي لمح البصر توقفن بالقرب منه. ترجل ضابط شاب لايتجاوز عمره الخامسة والعشرين أو أكثر بقليل. تقدم نحوه وهو يقول ” هل أنت العم سمير؟”. نهض العم سمير بخوفٍ شديد وقلقٍ مستديم ” نعم..أنا …هل هناك …..” لم يستطع مواصلة الكلام فقد قاطعه الضابط الشاب قائلاً ” تفضل معي..قاضي التحقيق الجنائي ألأول يطلبك ألآن “. شَحِبَ وجه العم سمير وراح يقول بتلعثم ملحوظ ” لم أرتكب جريمة في حياتي.. لم أسرق شيئاً طيلة عمري..لم أشترك في أي حربٍ طائفية.. لم أعتدِ على حقوق أي إنسان طيلة عمري..لم أشترك في أي مظاهرة ..لم أهرب يوماً واحداً من الجيش القديم…لم أشترك في أي تجمع سياسي أبداً..لم أتكلم بسوء ضد أي حاكم ….لماذا يطلبني قاضي التحقيق الجنائي ألأول ؟”.

إستدار الضابط نحو أحد رجالهِ وهو يقول بنبرةٍ آمِره سرعان ما إمتثل لها رجل الشرطةِ ألأخر ” رابط هنا قرب هذه العربة ولا تدع أحداً يقترب منها” إلتفت الضابط إلى العم سمير وهو يسحبه برفق من يدهِ ” تفضل معي ..لا أعرف أي شيء أنا مجرد مأمور لتنفيذ واجبي”. في لمح البصر إنطلقت السيارتين تشقانِ عباب الريح نحو المجهول. كان العم سمير يرتعد طيلة

الفترة التي قضاها داخل سيارة الشرطة..حاول أن يستذكر حياته منذ أن كان طالباً في جامعةِ المدينة الكبيرة حتى هذه اللحظة يبحثُ في تجاويف ذهنهِ المرهق عن أي حادثة أو فعلِ مشين يعاقب عليه القانون. لم يجد أي شيء . إستسلم لقدره وقال مع نفسه ” إنها تهمه كيديه..سأقضي قسماً من عمري في السجن وأنا بريء ……”. في اللحظةِ التي دخل فيها مكتب مدير قاضي التحقيق الجنائي ألأول إنسحب الضابط الشاب وهو يؤدي التحية للرجل عالي الشان. رحب به مدير المكتب وهو يقول ” هل تمت مضايقتك من قِبل الضابط أو أي واحدٍ من رجاله؟” تلعثم العم سمير وهو يجيب بصوتٍ مبحوح ” كلا”. صمت الرجل . وضع يده على زرٍ قريب منه . في لحظاتٍ لاتُذكر دخل رجل وهو يقول ” نعم سيدي”. أشار إليه مدير المكتب دون أن ينبس ببنت شفة ” حاضر سيدي”. وخرج بهدوءٍ من الغرفة. بعد لحظات مناسبة دخل ثلاثة رجال يحملون طعاماً شهياً. عند إتمامهم لمهمتهم تقدم مدير المكتب وهو يقول ” تفضل معي لنأكل سوية بعدها نتحدث في ألأشياء المهمة”. حاول العم سمير أن يبين له بأن ليست له أي رغبه لتناول أي شيء . إبتسم مدير المكتب وهو يقول ” لاتخف ..إذا لم تأكل فلن أتناول أي شيء.. من أجلي شاركني هذا الطعام”. راح المدير يتحدث عن أشياء عامة وعن قصص فكاهية ويضحك لوحده . قبل أن ينهي طعامه نظر إلى العم سمير وقال بجدية ” إسمع أيها العم سمير..ستبقى معنا هنا ثلاث ساعات فقط ثم نعيدك إلى نفس مكانك..لاتسألني عن أي شيء لأنني لا أعرف..أي شيء..واجبي أن أبقى معك هنا أو لنقل تبقى معي هنا ثلاث ساعات ثم تعود ..قد تقابل أشخاصاً هنا أو قد لايحدث ذلك..المهم أن تنقضي الثلاث ساعات ثم تعود .. هل هذا مفهموم ؟ إذا كنت في حاجةٍ لأي شيء أنا مكلف بتنفيذها..إذا أردت النوم أو ألأسترخاء يوجد لدينا مكان لهذا..إذا أردت ألأستحمام ..يوجد لدينا مكان لهذا..لا تسألني أي شيء”.

ظل العم سمير صامتاً ينظر إلى أرجاء الغرفةِ ألأنيقة الزاخره بأشياء لاتعد ولاتحصى..قطع رخامية لتماثيل جميلة جداً ودواليب من أرقى ماوقعت عليه عيناه في حياته الطويلة. كان المدير ينشغل بين الحين وألأخر بمكالمات طويلة تدل على عملٍ لاينتهي أبداً . كان العم سمير ينظر في ساعته اليدوية يعد الثواني والدقائق كأنها سنين عجاف لاتنتهي. مضت ساعة وأخرى…حسناً بقيت ساعة على المصير المجهول والنطق بالقرار الذي قد يغير كل تاريخ حياته إلى ألأبد… من يدري قد يدخل السجن دون أن تعرف حبيبته التي شاركته كل شيء طيلة السنوات المنصرمة..ستبكي في الليل إن بقيت لوحدها..لا..لا..ستصاب بالجلطة إن جاء الليل دون أت يعود لمنزله البسيط..لا.لا…ستموت في اللحظةِ التي تعلم بدخوله السجن.. كانت تقول له دائما ” بالله عليك لاتتأخر بعد مغيب الشمس…أيتها المسكينة …ماذا جنيتِ كي تتعذبي معي كل هذه السنين .؟” حسنا بقيت نصفُ ساعة. رن جرس الهاتف..إلتقطه المدير بسرعةٍ متناهية ” حاضر” ..هي الكلمة الوحيدة التي قالها. نظر إلى العم سمير وهو ينهض قائلاً ” تفضل معي ستقابل بعض ألاشخاص..لاتهتم ..كن صبوراً” . كان قلب العم سمير يدق بعنفٍ وهو يقف قرب الباب الذي سيدخل من خلاله لتقرير مصيره إلى ألأبد .قال المير للعم سمير وهو يفتح الباب بهدوء ” تفضل” . في اللحظةِ التي دخل فيها الرجل المرعوب خرج مدير المكتب. أنعقد لسان العم سمير ظل واقفاً كأنه فقد قابلية النطق. كان الضابط الشاب يجلس على أريكةٍ فاخرة يطالع صحيفة يومية وخلف مكتبٍ فاخر جداً جلست المرأة التي توفى والدها أمس. نهضت بسرعة متقدمه نحوهُ وهي تقول ” العم سمير ..أهلاً وسهلاً” وراحت تقبل خديهِ كأنها تعرفه منذ أن جاء إلى هذا العالم. نظرت ألى الضابط الشاب وهي تقول ” أحمد إذهب إلى عملك” . وقف الشاب بسرعه وهو يقول ” حاضر ماما”. خرج دون أن يلتفت إلى العم سمير.

بنظراتٍ حائرة وصوتٍ متهدج راح يتكلم بتقطع ” أنتِ…أنتِ؟ ماهذا ؟ هل أنا في حلمٍ أم أن هذا حقيقة؟”. سحبتهُ من يدهِ بلطفٍ تام وهي تقول ” لاتهتم ..تعال وأجلس هنا قربي لنتحدث عن كل شيء ” . كانت الصدمة قد عقدت لسانه لدرجه أنه لم يعد قادراً على قول أي شيء. كان كغريق شارف على الهلاك. وهي تقدم له قدحاً من الماء البار قالت ” ستعرف كل شيء بعد قليل…سنذهب أنا وأنت في سيارتي..عفوا سيارتك التي رفضتَ أن تأخذها أمس..لقد سجلتها بأسمك وأنتهى كل شيء..لم تعد ملكاً لي..بعد دقائق سأعيدك إلى مكانك بنفسي..أنا قاضي التحقيق الجنائي ألأول..أنت تستحق أكثر من هذا بكثير…” سكتت قليلاً ثم قالت ” أُفضل أن نتحدث في الطريق ..فلنذهب ألأن ” قبل أن تخرج ضغطت على الزر القريب من مكتبها. دخل مدير المكتب تحدثت إليه بطريقةٍ أخرى ” سأخرج ألآن وأعود بعد ساعتين..من يتصل قل له ستعود بعد ساعتين…” خرجت من الغرفة وهي تسحب العم سمير من يده بلطفٍ تام. كانت تقود السيارة بهدوء وتتكلم طيلة الوقت لدرجة لم تكن هناك فرصة له للحديث إلا ماندر ” الضابط هو أحمد إبني الوحيد..والده مدير البلدية التابعة للمنطقة التي تسكن بها أنت..تحت إمرتي عدد لابأس به من رجال الشرطة..حالتنا المادية جيدة جداً..أمس إتصلت بألأقرباء وقاموا بكل شيء فيما يتعلق بدفن والدي..الفاتحة تقام في مسجد “……” من الرابعة حتى السابعة مساءأ..هناك من يقوم بالمهمة عني. حدثت الجميع عنك وعن كل شيء. الكل تواقين لمقابلتك. قد تقول لماذا ذهبتُ معه أمس لوحدي؟ هناك أسباب خاصة لا أريد البوح بها الآن. طلبتُ من زوجي أن يجهزك بكرفان كبير في نفس المكان الذي تبيع فيه بضاعتك البسيطة… كلفتُ شخصاً ما ليجهزك ببضائع متنوعة للكرفان كلها من نقودي الخاصة. طلبت من مدير المكتب أن يبقيك ثلاث ساعات لغرض نصب الكرفان في هذه الفترة كي تكون مفاجأة لك..أنا لاأتصدق عليك أبداً. اللحظة التي شاهدتك فيها تحمل والدي بين ذراعيك وأنت تدخل المستشفى راكضا لاتلتفت لصيحات رجال المستشفى أقسمت مع نفسي أنك ستكون أخي حتى يوم مماتي.سأبقى أمنحك أي شيء ثمين حتى لو أضطررت لأستخدام القوة إن لم تقبل. “

كانت تمسح دموعها بين الحين وألأخر. كانت ذكريات اليوم المنصرم تسيطر عليها بشكل لايمكن التخلص منه أبداً. حاول أن يقول شيئاً بيد أنها أشارت له بعدم قول أي شيء حتى تنتهي من حديثها. إستأنفت حديثها بصوتٍ واهن ” عبارتك التي تقول – سأعلق منديلي ألأبيض علامة الحب والسلام لكل الناس – هزت مشاعري وجعلتني أذرف دموعاً طيلة ليلةِ أمس. سأجعل مكانك الذي تعمل فيه مكانا مقدساً زاهيا لكل الناس.. اللحظة التي شاهدتك تحمل فيها والدي من السيارة كي يتقيأ كانت لحظة مقدسة يالنسبة لي…لن أنساها أبداً. كنتُ أغرق في تلك اللحظة ..كان جسدك جسراً أعبر عليه إلى الضفةِ ألأخرى …كان بأمكاني أن أتصل بأأحمد ويجلب لي كل سيارات الشرطة المتواجدة في الواجب آنذاك..كنتُ كطفلة تخاف الظلام لا أعرف ماذا أفعل؟ نسيتُ كل شيء في حينها..نسيتُ من أنا وما هو مركزي الوظيفي… لم أجد سوى كلمة – عمو ساعدني – كنتَ كريماً أقصى درجات الكرمِ والشهامه والصدق في حبِ الناس. جن جنون أحمد أمس حينما حدثته عنك ..طلب مني أن نذهب أليك ليلة أمس ..ولكنني لا أعرف أين تسكن وفي أي بيت. وبخني زوجي لأنني لم أتصل به أو بأحمد. لا أعرف هل قدرك الذي ألقى بك

قرب الطريق السريع أم قدري الذي ألقى بي إلى ذلك الطريق. إن لم يكن عندك بيتاً سأشتري لك أفضل بيت. زوجتك ستكون بمثابة أمي. سأتردد عليك مرات عديدة في الشهر كضيفه كواحدة من بناتك. فقط قللي من يزعجك في منطقتك..سأعلقه في حبل المشنقة في لحظات. ” كانت تتحدث والدموع تنهال من عينيها كتيارٍ جارف.

في اللحظة التي إقتربا فيها من مكان العمل مسحت دموعها وعادت إلى حالتها الرزينة. وقف العم سمير قرب عربته مذهولا. كان هناك – كرفان عملاق خلف السياج الحديدي للطريق السريع يقف شامخا وعمالاً يدخلون ويخرجون كأنهم خليةِ نحل كبيرة ..قُطع الشارع السريع تماماً ..أصبح خالياً من حركة السيارات كأنَّ هناك منعاً للتجوال في يوم إنتخاباتِ رئيساً جديداً للبلاد…صُفت ألأعلام الوطنية على كلا الجانبين كأنه يوم خاص لأفتتاح الطريق السريع..كان العم سمير يبكي بصمت..هل هذا عرسٌ أم مأتم لروحٍ شارفت على الأفول؟ كانت العربة مركونة خلف الكرفان ..عليها كتباً قديمة وبضاعتةِ على حالها تئنُ بصمتٍ أم ترقص طرباً لايعرف الوصف الحقيقي لحالةٍ كهذه أبداً. تقدم الضابط أحمد من قاضي التحقيق ألأول وهو يؤدي التحية بقوة قائلاً ” كل شيء جاهز” . سحبت المرأة يد العم سمير ناحية باب الكرفان..قدمت له – مقصا – قائلة ” أنت ستفتح ألأسواق..لا أحد غيرك..” بيد مرتعشه قص العم سمير الشريط الملون…في اللحظةِ التي إنقطع فيه الشريط صاح الضابط أحمد بأعلى صوته ” أطلق النار في الهواء…..” أكثر من عشرين بندقية راحت تزغرد في الفضاء كأن حرباً مباغته إنطلقت عند الطريق السريع…بعدها صرخ مرة أخرى ” إنهي ألأطلاقات ..الى مواقعكم..إنطلق ..إنتهى الواجب” تدافع رجال الشرطة نحو سياراتهم يتقدمهم الضابط أحمد وأنطلقوا على الطريق السريع وصفارات سياراتهم تشق الصمت بلحنٍ مؤثرٍ جميل. حينما دخلت المرأة مع العم سمير الى داخل الكرفان أُعيد فتح الطريق السريع وعادت السيارات تنطلق بسرعة لا أحد يعرف سر أنقطاعه على حين غرة.

وقف العم سمير وسط الكرفان لايعرف ماذا يقول..هل هذا حلم كما يحدث في الروايات التي كان يقرأها في الزمن السحيق..أم هذا واقع ملموس؟ كانت المرأة تشرح له كل شيء…هذه بضاعة من أرقى بضاعة موجودة في أسواق الجملة.. وهذه ثلاجات مملوءة بالمشروبات ..وهذا مكتب لك كي تجلس عليه..لقد تم ترتيب كل شيء. سأتركك ألأن ..تستطيع أن ترتب أي شيء حسب ماتراه مناسباً …” قبل أن تنهي كلامها توقفت سيارة فارهه ..ترجل منها رجل وسيم في نهاية الخمسينات من عمره صرخ بهدوء نسبي ” ميساء” . حينما سمعت إسمها قالت ” هذا زوجي تعال كي أعرفك عليه”. سحبته كأنه طفل صغير. ” أقدم لك العم سمير..سمير هذا زوجي..” تصافح الرجلان بقوة. قال الزوج ” هل أنتِ راضية ألآن.؟ لقد فعلتُ كل مافي وسعي لأنجاح المهمة…سيادة القاضي” وراح يضحك بصوت منشرح وهو يتوجه نحو سيارته . قبل أن تستقل السيارة مع زوجها..كانت هناك إمرأة تركض بأقصى سرعة وهي تصرخ باكية ” سمير ..سمير.. أين كنت؟ جئتُ إليك ولم أجدك..كان رجال الشرطة يحرسون عربتك وأنت غير موجود..أين كنت؟ حينما سمعتُ الطلقات النارية أيقنت أنهم قتلوك..” إرتمت في أحضانه وهي تبكي بحرقة شديدة. حينما هدأت حدة بكائها قدمها إلى ” ميساء وزوجها” قائلا” أصبح عندنا سوقاً بدل العربة ..ستعملين معي من الصباح حتى المساء..سأعطيك راتباً شهريأ. لم تفهم ماكان يقوله في تلك اللحظة. قالت ميساء ” خذ مفاتيح سيارتك سأذهب مع زوجي في سيارته

سأمر عليك كل يوم حينما أذهب إلى العمل وعند العودة على هذا الطريق السريع..وداعاً في الوقت الحاضر”. إختفت السيارة والملاك الذي فيه في لمح البصر.