يصف بعض المراقبين الغربيين قيادة التظاهرات في محافظات الأنبار وصلاح الدين والموصل با “الذكية” وذلك على ما يبدو من نجاحها في الثبات وضبط النفس أمام أساليب رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي المعتمدة على مزيج الترهيب من الحرب الطائفية المرتبطة ذكرياتها بقوة في أذهان العراقيين بالعود إلى الأعوام 2006-2007-2008 من جهة ، وعلىستخدامه لسياسة التجاهل واللامبالاة التي مارسها تجاه مطالب المتظاهرين والكتل السياسية التي دعمت أو تبنت هذه المواقف ، مع مراعاته أستعراض متكرر للقوة الأمنية والعسكرية كلما بدت مؤشرات توسيع رقعة هذه التظاهرات وخاصة في العاصمة العراقية بغداد .
وقد يختلف البعض في قدرة قيادة التظاهرات في المحافظات العراقية المشار إليها على إدارة الملف الخاص بتحقيق إرادة الجماهير والتقدم خطوات إلى أمام بعد أن مرّت أيام طويلة وصعبة عانى فيها ابناؤنا هناك من ظروف جوية ونفسية شديدة الوطأة دون أن يتحقق لهم ما خرجوا من أجله ، ولن يتحقق بالطبع ، ودون أن يهددوا حكومة المالكي بشكل فعلي وفعّال يجبرها على تحقيق مطالبهم ، ورغم أن مفتي العراق أتهم مؤخرا رئيس الوزراء نوري المالكي بالإعداد لحرب طائفية مبررا ذلك بكثرة ترديد هذه المخاوف من قبله ، وقد تكون وجهة نظر المفتي صحيحة إذ ما أنفك المالكي ، والمالكي حصريا ، منذ انطلاق المظاهرات الوطنية العراقية في الأنبار أولا ثم الموصل وتكريت وديالى وبغداد والبصرة وغيرها لاحقا ، ضد سياساته وضد الفساد والظلم المستشري بالبلاد، ما انفك من التحذير منها ووصفها بالطائفية ، والغريب ، أن يربط رئيس وزراء العراق بين أنتصار الثوار في سوريا وبين الحرب الأهلية أو الطائفية في العراق كما فعل في تصريحه الأخير في فبراير الماضي لوكالة الأسيوشيتد برس .
المالكي يرى في التظاهرات والمتظاهرين أنها طائفية وستقود إلى حرب طائفية في البلاد ، والمتظاهرين ومعهم الكثير من بناء شعب العراق بكل قومياته وطوائفه يؤمنون أن عهد نوري المالكي من أكثر العهود التي مرّت بالعراق ظلما وطائفية وفسادا ، لا بل أنهم يعتبرون فترة حكم المالكي (فترة مظلمة) في تاريخ العراق والعراقيين !! فما العمل إذن ؟ وكيف سترسو سفينة الأوضاع السياسية في العراق بعد أن نجح المالكي إلى حد ما ولفترة وجيزة في تهميش التظاهرات والمتظاهرين بمناطقهم ، وبعد أن عاد (نواب الشعب …) يمارسون أدوارهم في التصويت على مشاريع وتبادل التهم والمهاترات والتمتع بالأجازات حتى بات موضوع مناقشة التظاهرات مسألة نسبية لا تكاد تذكر بعد أن كادت تطيح بالمجلس برمته في أيامها الأولى ..!!
أعتقد ان المتظاهرين في المحافظات الثلاث ، الأنبار وصلاح الدين والموصل ، بات لزاما عليهم تطوير شعاراتهم وتقليصها لتصب في كبد الحكومة العراقية ولتجعل من هذه الحكومة تحسب ألف حساب لهذه المطالب ، لا بل وتخشى أشد الخشية من تحقيق المتظاهرين لها ، نعم ، فلم تعد فقرات هنا أو هناك تذوب في ألسنة الناس ويتفنن أنصار الحكومة في فبركتها وحرفها عن معانيها ، كافية بعد أن تجاوز المتظاهرين حدود السبعين يوما من المماطلة الحكومية ثم الأهمال المتعمد ، اقول بات لزاما على قيادة التظاهرات ، وهم على حد علمي مجموعة طيبة من الحكماء والشجعان ، بات لزاما عليهم أن يتوجسوا طريقا للجماهير المظلومة والصابرة إلى المنطقة الخضراء ببغداد ، نعم ، ليس مطلوبا بعد الآن المناداة بالصلاة الموحدة ، ولا التوجه إلى مسجد ابي حنيفة النعمان أو موسى بن جعفر ، لإن ذلك يعني أن هناك طائفة تريد الصلاة مع طائفة أخرى ، وهو أمر يكرّس الأحساس بالطائفية ، ولا طائفية بين العراقيين ، وأن نجحوا بالمال والخديعة والخوف تكريسها لبعض من الوقت وعلى فئة من الناس ، فإن العراقيين قد أفاقوا على خطر يتهددهم كلهم دون أستثناء ، خطر التغلغل والهيمنة الإيرانية من جهة ، وخطر الفساد المروع من جهة ثانية ، هو إذن طريق واحد يجب أن يسلكه المتظاهرون ن ذاك هو طريق التحشد أمام المنطقة الخضراء ، وسيشهد العالم كيف سيتصرف المالكي مع هذه الحشود وكم ستصبر حكومته أمامها .
إن العراق وفي كثير من أنحاءه يشهد تظاهرات دخلت اسبوعها الحادي عشر على التوالي ، تظاهرات مازالت تطالب باصلاحات سياسية وقانونية من بينها إطلاق سراح المعتقلين الأبرياء ، وإلغاء المادة الرابعة من قانون مكافحة الإرهاب ، وإلغاء قانون المساءلة والعدالة سيء الصيت، وإجراء تعداد سكاني بإشراف دولي , وتحقيق التوازن في مؤسسات وأجهزة الدولة وعدم تهميش أي مكون من مكونات الشعب العراقي ، هذه المطالب حقيقة ليست قابلة للتحقيق أبدا ؛ ذاك أن أساس هذه الحكومة هو الأرتكاز على هذه القوانين وتكريس سياسة التهميش والأقصاء ، وخوفها ، كل خوفها ممن تسميهم أنصار النظام السابق وهو مرتبط جذريا بقانون المساءلة والعدالة ، ولما كانت هذه الأمور غير قابلة للتنفيذ والتغيير ، أليس من الحكمة من قيادة التظاهرات ومن قيادات الفكر والأجتماع وكل عراقي غيور على حرمة العراق وشرفه وخيراته أن يستبدل كل هذه المطالب التي لم تستطع ، ولن تستطع الحكومة العراقية الحالية تنفيذها ، بمطلب واحد يجبر الحكومة على تنفيذه ثم تكون الكلمة الفصل للشعب بعدها ؟ .
إن تغيير الأهداف إلى هدف واحد سيعني الكثير للعراق حاضرا ومستقبلا ، وحدة وقوة وبناءا ، وبدل الأعتصام الأنباري على جانبي الطريق الدولي الذي يربط العاصمة بغداد بكل من الأردن وسوريا ، وكذلك ببقية محافظات العراق ، على المتظاهرين التحرك نحو بغداد ، العاصمة ، وتحديدا ، نحو محيط المنطقة الخضراء ، وليعتصموا هناك ، عليهم ان يجعلوا رئاسة الوزراء العراقي وسفراء الدول الكبرى والضباط الأمريكيون الموجودون في داخل المنطقة الخضراء بالإضافة لكافة زوار العراق الرسميين أو التجاريين ، على كل هؤلاء أن يروا حقيقة شعب العراق دون طائفة تذكر أو اسم يكرر ، عليهم أن يصرخوا بصوت واحد : الشعب يريد رحيل النظام ، نعم ، رحيل ، ولكن بقيود ، فكل دينار ذهب في جيوب المفسدين يجب أن يعود ، وكل قطرة دم أريقت يجب أن يقتص ممن أراقها ظلما وتفرقة ، ذاك هو الطريق إلى المنطقة الخضراء ، وبعدها لن تكون هناك منطقة خضراء ، بل عراق اخضر جميل ليس فيه حدود بين ابناءه ولا محافظاته ، وسيطرد كل وكر إيراني أسس له على مدى العشر سنوات الماضية ليعود العراق قويا معافى يؤدي دوره الحضاري لإبناءه ولمحيطه العربي والأقليمي والأنساني .