23 ديسمبر، 2024 3:12 م

الطب في فكر الإمام الشيرازي

الطب في فكر الإمام الشيرازي

ربما لا يوجد أي متابع للإعلام الشيعي الحاضر لم يسمع بالسيد محمد الشيرازي رحمه الله إمام التيار الشيرازي ، الذي إزدادت شعبيته بعد سقوط نظام البعث ، حيث فُسح المجال للفضائيات أن تغزو البيوت العراقية ، و منذ ذلك الحين و نحن نسمع عن إنجازاته في مجال الفكر و التأليف ، و بين حين و آخر كنت أسمع في فضائيات الشيرازيين إطراءا له و ثناءا عليه يصل لدرجة المبالغة ، و هذه المبالغة هي التي دفعتني قبل فترة إلى محاولة قراءة كتبه و خلقت فيّ فضولا للإطلاع على آثاره ، وحيث أن الراحل قد ألّف كما هو مشهور أكثر من ألف كتاب أيقنت اني سأجد كتابا أو أكثر في مجال إختصاصي وهو الطب ، فوقعت يدي على كتاب له بعنوان مبادئ الطب فأخذته متلهفا لأقرأ ما به و إذا بي أجده شرحا لكتاب علي بن ابي حزم القرشي الشهير بإبن النفيس ، و هذا يعني أن عمر الكتاب ٨٠٠ سنة و قيمته لا تعدو كونها تراثية فخاب أملي عندها ولم أقرأ منها إلا المقدمة التي كتبها الشارح رحمه الله و التي صدمت عندما قرأتها ، إذ وجدت الشارح رحمه الله يدعو فيها إلى الإعراض عن الطب الحديث و الرجوع الى الطب القديم أو المجرّب كما يسميه و كأن الطب الحديث لا يعتمد على مئات بل و آلاف التجارب في دراسة الأمراض و علاجها .
 بدأ الشارح مقدمته بلوم الناس لإقبالهم على الطب الحديث الذي جاء به الغزاة وشبّه ذلك بهروعهم الى السيارة صنعا و ركوبا من دون تجربة سابقة و لا دليل واضح ، و لم أفهم هنا قصده رحمه الله فهل كان ينصح بعدم ركوب السيارات كما نصح بعد قليل بترك الطب الحديث  ؟ والحقيقة أن هذا قد ذكرني رغما عني  بأحد أفراد الجماعات الإسلامية المتشددة  في مصر في الثمانينيات الذي كان طالبا في الجامعة و أصرّ على الذهاب للجامعة على بعير و ليس في سيارة !
بعد ذلك قام بإنتقاد الطب الحديث لأنه رفع أجور الدكاترة على حد تعبيره و رفع أثمان الأدوية و لست أدري  ماعلاقة هذه الأمور بالمنهج العلمي للطب الحديث إذ أن وراء ذلك كما لا يخفى عوامل إقتصادية و إجتماعية و قانونية و غير ذلك .
ثم واصل إنتقاداته للطب الحديث بسبب ما أسماه تأرجح الأدوية و المناهج الطبية و على حد قوله : ( فكل يوم كشف جديد و دواء جديد و منهاج جديد و كلها تتفق على ان ما سبقه كان مغلوطا) ،  و هذا من أغرب ماقرأت إذ أن ميزة العلم الإكتشاف و التجديد وعدم الجمود و هو – أي العلم – تجريبي بالضرورة بل حتى الطب المجرّب الذي يدعو سماحته لإتباعه هل كان إلا حصيلة تجارب و محاولات و أخطاء ؟ مع فارق أن الطب القديم فعل ذلك أيام طفولة العقل البشري بينما يفعله اليوم في زمن ثورة تكنلوجية لم يسبق لها مثيل في تأريخ الإنسانية ،  و الحقائق الطبية الحالية كما ذكرنا هي نتيجة دراسات و تجارب كثيرة ، حتى أنني قرأت ذات مرة عن أحد الأورام النادرة التي تنشأ في الفكين أنه لا يوجد عنها دراسات كافية لأن الحالات المسجّلة منها في العالم لا تتجاوز ٢٠٠ حالة و هو عدد رغم أنه يبدو كبيرا لدى غير المتخصصين إلا انه غير كاف للبتّ في كل الحقائق العلمية المتعلقة بهذا الورم وفق المنهج العلمي الحديث مما يعطي فكرة عن تشدّد هذا المنهج في تقرير أي حقيقة علمية ، علما أن كثيرا مما يتوصل إليه العلم الحديث لا ينفي بالضرورة كل النظريات العلمية السابقة  إنما يكمّلها و يسدّ فيها بعض الثغرات ، بل أن في هذا ميزة للعقل البشري فهو رغم إحساسه بقصوره في الكثير من المجالات إلا انه يسعى على الدوام إلى سدّ هذا النقص و إكتشاف الكون المحيط به في بحث مستمر عن الحقيقة (و فوق كل ذي علم عليم ) .
و الغريب أن ينصح سماحته بعد ذلك  بعدم إجراء عملية الزائدة الدودية لمن يشتكي من أعراضها بل عليه بدلا من ذلك أن يجرّب زيت الخروع !
ثم يستعرض الراحل بعدها  بعض القصص عن أخطاء – و بعضها في الحقيقة لم يثبت خطؤه الا بعد التنزّل –  وقع فيها بعض الأطباء ليخلُص منها إلى ضرورة رفض هذا الطب الزائف ، و ببساطة أتساءل : هل أن إشتباه بعض رجال الدين في بعض المسائل إذا أدّى إلى وقوع فتن و سفك دماء – و هو ما حدث كثيرا و خصوصا في وقتنا الحاضر و قد يحدث مجددا ببركة بعض الفضائيات الموجودة حاليا  – يعطينا مبررا لرفض الدين ككل ؟
ثم يقول رحمه الله  أنه ليس طبيبا بالمعنى القديم و لا دكتورا بالمعنى الحديث  لكنه اجرى مقارنات و مباحثات و درس بعض الطب القديم و بعض الطب الحديث و هو ما جعله – و هنا المفاجأة – يشعر بوجوب إنقاذ البشرية من براثن هذا الطب كما يجب إنقاذها من براثن القنابل و الصواريخ !
– المفارقة الطريفة هي أننا شاهدنا الفقيد الراحل في ساعاته الاخيرة  راقدا في العناية المركزة محاطا بعدد من وسائل الطب الحديث ! –
و ثمة تعليق بسيط على هذا الكلام ، و هي أن الطب الحديث لم يبتدع إبتداعا في عصرنا الحاضر و أنما جاء نتيجة تراكم معرفي لقرون و أي طالب للطب يصادف أثناء مطالعته للكتب الطبية المتخصصة شيئا من التأريخ يتحدث عن أمراض و علاجات يعود بعضها لزمن أبقراط أو الفراعنة فليس الطب الحديث لقيطا جاءت به الحضارة المعاصرة .
و الحقيقة أن المشكلة ليست فقط فيما قاله المؤلف بل في نوع الثقافة التي يروّج لها الإعلام التابع له و هو المستولي حاليا للأسف الشديد على قطاعات واسعة نسبيا من الجمهور الشيعي و هي ثقافة فيها الكثير من التطرف و إستغفال العقول و الديماغوجيا ، هذا الإعلام الذي يوظّف – ربما أحيانا بدون قصد – تفاعل جمهور الشيعة مع قضية الامام الحسين (ع) و عواطفهم الصادقة تجاهها ليحاول أن ينصّب من نفسه مدافعا عن الشيعة و ممثلا لهم ، و ليهاجم العديد من الشخصيات الاسلامية البارزة لمجرد إختلافهم معه في بعض التفاصيل الصغيرة ، و عتبنا هنا على بقية الفضائيات أو الجهات التي بإمكانها فتح فضائيات واعية مكرسة للقضية الحسينية لإنقاذ الجماهير من هذا المستوى الهابط من الإعلام الذي يسير باتجاه التأسيس لسلفية شيعية ، ماسخا و مسطّحا الكثير من المبادئ الحسينية ، أفلم يكن  الأجدى بهذه الفضائيات أن تصرف وقتها في تحصين الشباب ضد العشرات من الشبهات التي أثيرت في هذا العصر ضد الاسلام ككل بدلا من الإختباء خلف قدسية الشعائر للتهجم على كل من لا يروق لأتباع هذا الخط ؟ و لماذا نجدها منشغلة في كثير من وقتها بإظهار بعض المهووسين بحب الظهور و إغراء البث المباشر من المتمسكين بهذا الخط لا لشئ سوى أنه يضمن لهم إستمرار النجومية و الشعبية أو ربما بسبب وسخ الدنيا كما في التعبير العراقي الدارج ؟
والمصيبة عندما لا يتوقف أتباع هذا الخط عن إستغفال الناس و مصادرة عقولهم والترنّم بالتراث الفكري للسيد الشيرازي مستغرقين في خطاب تمجيدي شاعري لا يؤيده الواقع ، بل يصل الأمر الى أن يطعن مثل ياسر الحبيب المحسوب على هذا الخط بكتاب إقتصادنا لمفخرة العقل الإسلامي  الحديث الشهيد الصدر و يحيلنا إلى كتاب فقه الإقتصاد للسيد الشيرازي – و من كان طرحه حول الطب كما ذكرنا فما عساه يقول في الإقتصاد ؟ – و لمن لا يعرف ياسر الحبيب فهو ذلك الشيخ الذي لا يعجبه العجب و لا الصيام في رجب ، و الذي كاد قبل سنوات أن يشعل فتنة بين المسلمين لا تبقي و لا تذر عندما طعن في عرض النبي ( ص ) بكلام لا يقبله أي مسلم على نفسه فكيف بنبيه ، و الذي لم يدع علما من أعلام مذهبه الا و سلقه بحاد اللسان على طريقة السنفور غضبان ، و بإمكان القارئ الكريم أن يدخل موقعه الألكتروني القطرة و يفتح صفحة المواقف ليرى مانقول جليا ، فالشيخ الوائلي عنده كالحجاج الثقفي و باقر الصدر منحرف و كبار رموز الشيعة كالخميني و الطباطبائي و مطهري و شريعتي و كمال الحيدري و هادي المدرسي و اليعقوبي و الخامنئى و بهجت و نصر الله و فضل الله كلهم عنده منحرفون ، و منهم من هو ضال مضل و لله في خلقه شوؤن !
و المفارقة تكمن في وصف السيد رحمه الله بالمجدّد ، و لا أدري أي نوع من التجديد يمكن أن يجده عاقل في مثل هذا الطرح ، إلا إذا كان منطقيا لمن يريد ان يتعرف على عالم الحيوان في وقتنا الحاضر أن يقرأ كتب الجاحظ و الدميري بدلا من  أن يتابع ناشيونال جيوغرافيك !
يشهد الله أني لا أبغض آل الشيرازي بل أجلّ الكثير منهم و أعتبرهم أشخاصا صالحين متدينين و لكن لا يصل الأمر الى إعتبارهم  مفكرين ، و أعلم ان التهمة الجاهزة لمنتقد هذه الثقافة هي محاربة الشعائر و علماء الدين ولكن الحق أحقّ ان يتّبع ، و قد يكون فيما كتبه السيد الشيرازي رحمه الله بعض الفائدة لبسطاء الناس و قد تكون الفضائيات الشيرازية نافعة لأنصاف المتعلمين و الانفعاليين و عجائز البيوت الذين يأخذون التفكير – فضلا عن العقيدة – مقولبين و جاهزين من الشعراء الشعبيين أو الرواديد أو بعض الروزخونية ، لكن ذلك لا يبرر أن يقوم الشيرازيون بتنصيب مرجعهم سلطانا للمؤلفين و مفكرا قلّ نظيره و يسخّرون لذلك عددا من مرتزقة القلم و المنبر غاضّين النظر عن بل و منتقصين من قامات شامخة في الفكر الإسلامي ، و متذرعين لذلك بكثرة عدد المؤلفات وبهذا المقياس تكون أجاثا كريستي أعظم من دستوفسكي و تولستوي و فيكتور هوجو مجتمعين !
وهناك تساؤل آخر يستحق الوقوف عنده سريعا ، و قد نناقشه في مناسبة اخرى ، و هو لماذا يصر بعض رجال الدين على  أن يخلقوا لهم من العلم عدوا و يحاولون التقليل من شأنه في كل مناسبة ؟ و لماذا يتدخل البعض فيما لا يعيه أو يعنيه من الأمور العلمية و يجعلنا بذلك اضحوكة لكل المتعلمين فضلا عن المثقفين ؟ و لمصلحة من تصطنع القطيعة بين العلم و الدين ؟ أليست وسائل العلم الحديث من الطباعة و الفضائيات و الإنترنت هي التي أوصلت لنا صوت هذا البعض و سمحت لآخرين أن يمارسوا علينا نوعا من التقيؤ الفكري ؟ على غرار الشيخ بن باز الذي ألّف في الثمانينات كتابا يثبت به سكون الكرة الارضية و أن ما يقال من أنها تدور حول الشمس هو محض أباطيل ، و لا أذكر بالضبط ان كان قد كفّر من يقول بدورانها ام لا !
ألا نقرأ في مقتل أمير المؤمنين (ع) انه دًعي له بطبيب رغم وجود ثلاثة أئمة معصومين في البيت و رابعهم الإمام السجاد الذي كان لا يزال صغير السن ؟ ألا نفهم من هذا إحتراما للعلم و رجاله ؟ و أنا هنا أخاطب الوجدان الشعبي البسيط و إلا فإن المسألة أوضح من أن تناقش لدى المطلعين ، إن كل من قرأ تأريخ النهضة الأوربية الحديثة قد رأى كيف أنهزمت الكنيسة عندما عادت العلم – رغم أن الدين كعقيدة و إيمان لم ينهزم ، فالكثير من الاوربيين و الأمريكان اليوم وفيهم العديد من العلماء هم مؤمنون – فلماذا يحاول البعض أن يؤسس لإسلام طقوسي فارغ معادٍ للعقل و العلم ؟  
بقيت كلمة أخيرة نريد أن نقولها و هي أن الرهان على بساطة الوعي هو رهان خاسر و سينتهي عاجلا أو آجلا ، فنحن اليوم في عصر العولمة و لسنا في زمن البغال و الإبل ، و في غضون بضع سنوات سيكون أغلب الشباب قد نالوا تحصيلا أكاديميا واْنفتحوا على العالم و سمعوا شبهات لن يتمكن من إجابتها إلا أنصار العقل من علماء الدين الواعين و المنفتحين على ثقافة العصر لا أولئك الذين ما زالوا يعيشون بين كتب القرون الوسطى ، و يتخذون من التأمل المجرّد وسيلة لمناقشة الحقائق العلمية التجريبية ، و لن يكون بالامكان أن تستمر الكثير من الدعوات الرجعية التي تمارس اليوم إستغفال الناس و تسطيح وعيهم بإسم الدين فمنطق التأريخ أن البقاء للأقوى فكريا ! .