يُعد حلم الطب في العراق طموحًا مجتمعيًا عميق الجذور، يدفع العائلات إلى توجيه أبنائها نحو كليات الطب بتنافس شديد على المقاعد المحدودة بعد الدراسة الإعدادية. هذا الطموح، وإن كان مشروعًا ويرمز لمكانة اجتماعية مرموقة واستقرار مادي، إلا أنه يحمل في طياته آثارًا جسيمة على منظومة التعليم العالي وسوق العمل، ويفرغ الشهادة من محتواها العملي، خاصةً عند مقارنة الوضع بالدول المتقدمة. فالسعي المحموم نحو الطب يهمل ويضر بالاختصاصات الأخرى اللازمة في حياتنا المعاصرة، مما يخلق مجتمعًا يعاني من نقص في التخصصات الأساسية لتعقيد الحياة الحديثة، ويعيق مسيرته نحو التقدم والازدهار. بينما تعتمد الدول المتقدمة على قاعدة عريضة من التخصصات العلمية، الهندسية، التكنولوجية، والإدارية، يجد العراق نفسه في وضع لا تتوفر فيه الكفاءات الكافية لبناء بنية تحتية حديثة، تطوير قطاع تكنولوجيا المعلومات، أو دفع عجلة البحث العلمي والابتكار في مجالات الصناعة والزراعة والطاقة.
هذه المشكلة، التي تنبع من عدة أسباب متشابكة، لا تقتصر على أعداد الطلاب الهائلة فحسب، بل تمتد لتشمل جودة التعليم الطبي ذاته. من أبرز الأسباب وراء هذا التوجه المفرط نحو الطب هي المكانة الاجتماعية الرفيعة التي تمنحها المهنة، والأمان الوظيفي النسبي والدخل المرتفع مقارنة بغيرها من التخصصات في ظل ظروف اقتصادية غير مستقرة، إضافة إلى الضغط الأسري والمجتمعي الشديد الذي يمارس على الأبناء لضمان مستقبل “مضمون”. يضاف إلى ذلك نقص التوعية الكافية بأهمية التخصصات الأخرى ودورها الحيوي في بناء الدولة الحديثة. نتيجةً لهذه الأسباب، يصبح العراق غير مؤهل لاستقبال هذه الأعداد الضخمة من طلاب الطب، وذلك بسبب قلة الكوادر التخصصية والبنية التحتية اللازمة للتدريب العملي. فالطالب في كلية الطب ليس له مجال تطبيقي عملي كافٍ، ويحتاج إلى تفاعل مباشر ومكثف مع الحالات المرضية تحت إشراف دقيق من أطباء متخصصين، والتدرب على أحدث الأجهزة والتقنيات.
إن نتائج هذا القصور وخيمة؛ فالنقص في التدريب العملي، الناجم عن الأعداد الكبيرة وضغط المستشفيات التعليمية المحدودة، يضر بالحماية المدنية للبشر ويعرض المجتمع للخطر من خلال قلة خبرة الخريجين. الأطباء المتخرجون يمتلكون المعرفة النظرية، لكنهم قد يفتقرون إلى الخبرة السريرية والثقة اللازمتين لممارسة المهنة بكفاءة، مما يؤثر سلبًا بشكل مباشر على جودة الرعاية الصحية المقدمة للمواطنين. ويزداد الوضع تعقيدًا مع ظاهرة انشغال الكوادر الطبية المتخصصة، وخاصة الأساتذة والاستشاريين، بالعيادات الخارجية الخاصة خارج المستشفيات الحكومية. هذه الظاهرة تنبع أساسًا من ضعف الرواتب والحوافز الحكومية التي تدفع الأطباء للبحث عن مصادر دخل إضافية، إضافة إلى غياب أنظمة التفرغ والحوافز الأكاديمية الكافية التي تضمن التزامهم الكامل بالمؤسسات التعليمية. نتائج هذا الانشغال متعددة؛ فهو يقلل من الوقت المتاح للإشراف المباشر على طلاب الطب والمقيمين، ويقلص فرص التدريب العملي المباشر، ويؤثر على جودة الجولات السريرية والمؤتمرات العلمية وفرص المشاركة في العمليات الجراحية. على النقيض، تعتمد الدول المتقدمة على أنظمة رواتب وحوافز مجزية للأطباء العاملين في المستشفيات الجامعية والحكومية، تضمن لهم مستوى معيشيًا ممتازًا وتقلل من حاجتهم للعمل الخاص، وتطبق أنظمة تفرغ واضحة، وتُعلي من شأن الدور الأكاديمي والبحثي، مما يضمن تفرغ الكوادر العليا لمهامهم التعليمية والعلاجية والبحثية داخل المؤسسات الحكومية. هذا الفارق الجوهري في هيكلة القطاع الطبي والتعليمي يؤكد أن الفجوة تكمن في الاستثمار في البنية التحتية التعليمية والتدريبية، ونظام الحوافز للأطباء، والتخطيط الاستراتيجي لأعداد المقبولين بما يتناسب مع الطاقة الاستيعابية الحقيقية.
إن معالجة هذه التحديات في العراق تتطلب نهجًا استراتيجيًا وشاملاً، يتجاوز مجرد زيادة أعداد الخريجين. يجب إعادة تقييم سياسات القبول في كليات الطب بناءً على الطاقة الاستيعابية الفعلية والكوادر المتاحة، وتنويع الاستثمار في التعليم العالي لدعم التخصصات الحيوية الأخرى كالهندسة وتقنية المعلومات. كما ينبغي تحسين رواتب وحوافز الأطباء في القطاع الحكومي لتشجيع التفرغ، وتطوير البنية التحتية الطبية والتعليمية، بما في ذلك تفعيل دور مراكز المحاكاة الطبية. الأهم من ذلك، هو تعزيز التوعية والإرشاد المهني للطلاب وأولياء الأمور حول أهمية وضرورة التخصصات المتنوعة، وربط مخرجات التعليم باحتياجات سوق العمل. إن خبرتي في مجال عملي بمجلس جامعة البصرة واطلاعي الكامل على كافة مشكلاتها تقريبًا هي التي دفعتني للكتابة عن هذه الأفكار ومشاركتها. إن مستقبل العراق يكمن في بناء قاعدة معرفية وبشرية متنوعة ومتوازنة، تضمن جودة التعليم في كافة التخصصات، وتوفر رعاية صحية متقدمة، وتسهم في تحقيق التنمية الشاملة التي يتطلع إليها المجتمع العراقي.