23 ديسمبر، 2024 3:54 م

الطبيعة ام الانسان الثانية

الطبيعة ام الانسان الثانية

قراءة نقدية في نص الاديبة السورية الدكتورة عبيريحيى
امي اخبرتني ان الشمس تحبني
تمهيد
خلق الله الطبيعة فضاء خلابا تسكنه المخلوقات ويسهم في بقائها والحفاظ عليها وعلى نوعها ،  كمجال للراحة والاستمتاع بمناظرها المبهرة . وتعد عطاياها الثرة  والمتواصلة للإنسان علاقة توازن وانسجام وليس استغلال وسيطرة….. وتقوم الابحاث والدراسات العلمية والإنسانية  برصد طبيعة هذه العلاقة واشكالها وتطوراتها ، و يظهر ذلك جليا بقول الفيلسوف جان جاك روسو : ” لم يكن الإنسان يعرف غير الغريزة، فلم تخالجه رغبة سوى احتياجاته العضوية، ولم يتصور في الكون خيرا إلا الغذاء، والجنس والراحة. ولم يتصور فيه شرا إلا الالم والجوع. وكان سعيدا ” اذا هي علاقة انسجام وتناغم وارتباط وثيق محفوف بسعادة عارمة . فقد كانت الطبيعة مصدر إلهام الإنسان ونبوغه الفكري التأملي ، ويظهر ذلك بوضوح عند الفلاسفة الطبيعيين . حين ميز الفيلسوف راسل بين مرحلتين في علاقة الانسان بالطبيعة….. الاولى :علاقة حب الإنسان  للطبيعة من خلال عمليات التأمل والاستمتاع التي حظي بها حين كانت الطبيعة ملهمة للفلاسفة، ومحركة ليقظتهم الفكرية …..فأقاموا معها علاقة حميمية غايتها البحث عن السعادة والتوافق،  وكذلك  كانت مصدر الهام للشعراء و الادباء و معين إيحاء للتعبير عن الجمال والتغني به ، واستعارة بهائها وإضفائه على الانسان. ولم يقف الامر عند الحد الايجابي بل انتقل نحو المرحلة الثانية في التحول السلبي حين  تغيرت النظرة إلى الطبيعة عند ناصية التطور العلمي وظهور الصناعة التي فرضت على الانسان قسرية التدخل وتخريب الطبيعة فأخذت العلاقة الجيدة المنحى السلبى المعاكس من خلال سعي الانسان إلى تغييرها وتطويعها تلبية لطموحاته، فكشفت الأرض تربتها كمستودعات للمعادن، وحجبت جمالية الحقول بالبيوت الزجاجية، و توقفت الانهار عن جريانها بفعل السدود ، .عند ذلك الحد تولدت لدى الإنسان رغبتان متباينتان، الاولى رغبة في الاستمتاع بجمال الطبيعة وإحداث علاقة حميمة معها، والثانية رغبة في السيادة على الطبيعة واستعبادها واستغلال ثرواتها لمصلحته فنتج عن ذلك دمارا وتخريبا لهذا الجمال الرباني ولا يزال مستمرا……
 
.
الملامح الجمالية في النص
يظن المتلقي البسيط ، في اول وهلة ، ان هذا النص قد كتب خصيصا للاطفال لان سيدته طفلة قد عانت الكثير من الطبيعة في حياتها، لكن المتبحر في مرامي النص العميقة بعد تفكيكه يجد هذا المتلقي الباحث عن الذائقة الادبية الرصينة ، ضالته المنشودة في هذا النص الذي يعود الى المدرسة الرمزية حين يغوص في خفايا التأصيل والتجذير لخفايا الواقع المترامي واظهار العلاقة الجدلية بين الطبيعة والانسان …عموما ، يضفي  هذا النص ظلا سميكا على تأثير الطبيعة وجمالها على حياة الانسان ويشهد ان الانسان  نفسه طينا منها ويعود اليها ترابا ، خلق من رحمها ، اكل من رزقها ، عاش في كنفها وختمت نهايته بختمها حين دفن فيها …وهل من بد من انفصاله عنها….؟ وهل من بد ان يستغني ساعة واحدة عن عنصر من عناصرها….؟ وهل يستطيع الانسان ان يستغني عن الماء مثلا او عن الشمس او عن المطر….؟…وما تريد ان تقوله هذه الاديبة الذكية الرائعة ….مالنا وقد نسينا امنا الطبيعة….وهل وصل الخبل فينا ان نشوه قوتنا ونعكر ماءنا ونهجر شمسنا…هل نستطيع…؟ اذا هي صرخة عالية مكتومة تطلقها الاديبة الذكية الرائعة  ، المتمكنة عبير يحيى بوجه  الانسان المارق …بوجه ناكر الجميل من عق امه و شوه وجهها وعكر حليبها الزكي النقي…. تأخذ الكاتبة الذكية ،مثالين منها فقط وتترك الباقي لمن يتعظ…الشمس لو احجمت عن الظهور….تصور ماذا سيحدث….؟ لو نضب البحر واصطف مع الصحراء…ماذا سيحدث…؟ وتثبت ذلك بذكائها…..اذا الانسان مخلوق مريض ومتهور حين يكفر بنعمته ويشوهها ولا يحترمها ابدا وهي علاجه ، ان مرض وغذائه ان جاع ، والدفء ان برد ، والستر ان عرى….!!…هو اذا نص فلسفي مرمز تحت خيمة الادب للمجتمع باسلوب سهل ممتنع جاء من وراء جدران القص حين كانت كلماته تحتل السطور بعفوية وانسيابية وبساطة  متناهية وتشير بأصابعها نحو معانيها الحقيقية الكامنة بين السطور …وهذا  ما يظهر لنا قدرة ادبية فائقة وموهبة انثوية تخرج بهدوء من غرف السرد الاخباري لاحداث يومية مستهلكة نحو نص وعظي رصين يدخل المتلقي في دائرة التفكير السليم بعيدا عن جرفي الادب المستهلك وغموض السريالية الباهتة وسنبحر مع النص من مناطق الترميز:
حين كان قلبي صغيراً، ومع كل وداعٍ للشمس كنت أموت ( حبسة نفس) تنتابني عند الغروب ، تجعلني أبكي بحرقة دون سبب ، ويرافقني بانقباض ٍ شديدٍ في صدري ، وكان الأمر يزداد سوءاً ، رغم أني كنتُ مرحةً وكثيرةَ الشقاوة نهاراً.                                                                 
وبعدها أخلُد إلى النوم منهكةً من البكاء المُرّ والنشيج ، استشار أهلي ذوي الإختصاص ، وما من جدوى !!
بذكاء سردي مقتضب ، تضع الكاتبة هنا قيمة الطبيعة بأهم عنصر فيها وهو الشمس مصدر الضوء والحياة والدفء وتأخذ برعم بريء خالي من كل ادران الحياة السالبة، الطفولة النقية البريئة التي تجعلها تشهد على اهمية تلك النعمة دون كذب ورياء وما يحمله الكبار من دنس….والشهادة هنا قاسية جدا ومنصفة في نفس الوقت حيث تغيب حياة هذا البرعم الانساني النقي المتمثل ببراعم النباتات والحيوانات عموما وجميع مخلوقات الله الاخرى ان تفقد حياتها( بحبس نفس) أي تختنق وتموت لو طالت غيبة الشمس فقط دون ذكر الهواء واهميته ورسمت الكاتبة المشهد المأسوي هذا بلطف دون ان تجعل المتلقي يحس بانسيابية القص الهادي والمركز ولو قليلا بالعطف على تلك الطفلة المختنقة بتقديم الاهم وهو غياب الشمس عن المهم وهو نتائج الغياب ، الموت المحتم فشغلت المتلقي بالغياب عن الموت المحتم وهذه نقطة اضافية تحسب
لعبقرية هذه الكاتبة المتمكنة….
وحدها أمي عرفتْ العلاج !                                                                                                                     
كانت وقت المغيب تترك كلَّ أعمالها وتأخذني بنزهة إلى شاطئ البحر ، أنا وهي فقط ، بعيداً عن ضجيج أخوتي .                                                                                                              
وهناك حيث البحر صديقنا ، تطلبُ مني أن أنظر إلى البحر الأزرق ، وإلى السَّمَاءِ الصافية كقلبها ،وإلى قرص الشمس البرتقالي ، وتخبرني أنّ الشمس ذاهبةٌ لتنام ، بعد أن تعبتْ من اللعب معي با لنهار ، وأنها ستعود لنكملَ اللعبَ سوياً، وأن أوان نومها قد حان في البحر وأنها تظلّ تحلم بي
وهنا تشتد عند الكاتبة الغريزة الانثوية مصحوبة بغريزة الامومة ، وكأني اراها وهي تتحمس وتقول لا يعرف اهمية الام الا  الام وبذكاء وغريزة وحنان الام ، استطاعت الام البشرية ان تحدد قيمة الام الطبيعة وتستخدم عناصرها علاجا لمرض ابنتها المستعصي على ذوي الاختصاص الذين حاروا بتشخيصه وعلاجه وبدأت الام تحاور ابنتها وتخبرها عن امها والاخرى ، الطبيعة  واستمرت الام تصف لابنتها جمال الطبيعة والوانها الخلابة وكانها تصف للمتلقي هذا الجمال وتصر ان تجلب انتباهه لزرقة السماء وصفرة الشمس وحركتها من الشروق حتى المغيب تلك الحركة الخلابة التي تشفي ملاحقتها العليل وتقارن بين اهم شيء بالطبيعة الشمس والبحر والماء والسماء بأهم شيء لدى الطفل وهو اللعب والصحبة والنوم …تخاطب الام ابنتها بعذرية الطبيعة وبراءة الطفولة وهي مقارنة ذكية ونقطة اخرى تحسب لابداع هذه الكاتبة المتمكنة من ادواتها الادبية……
لأنها تحبّني ، كنا تحبّني أمي .                                                                                          
وأنٌ البحرَ أيضاً صديقٌ يمكنني أن أُحدّثه وأستودعه أسراري ، كنت أصدّقُ أمي ، كبرتُ واكتملنا ثلاثة ، أنا والبحر وشمس المغيب ، حتى غدا البحرُ عالمي ، والمغيبُ زمني ، والشمسُ صورةَ أمي التي تبتسمُ لي مخبرةً إيايَّ أنها ستذهبُ للنوم وستأتيني صباحاً لنكملَ اماللعب .
وتستمر الام بالسرد الهاديء من خلال التحدث عن قوى الطبيعة الام وتأثيرها على الانسان وتشخصها تشخيص يستولي على تاصية ابنتها الفكرية الطفولية حين تصور عناصر الطبيعة كأصدقاء  مخلصين وتبث فيهم الادوار الانسانية …….فالبحر صديق عزيز لا نستطيع ان نفارقه فهو اساس الحياة والنماء فهو اساس كل شيء حي ، وبه تحدث دورة الماء في الطبيعة من حالة سائلة ثم غازية ثم سائلة ، مطر…..ارادت الكاتبة هنا برمزية ذكية ان تقول ان اهم عنصرين جميلين ومهمين في الطبيعة البحر والشمس وثالثهما الانسان لو اجتمعا لآلفا ثلاثيا مقدسا  وادرك الانسان  كيف يتعامل معهم  لجنى منهم فوائدا كثيرة وهو فعلا يجني في الحالتين وان الشمس ستأتي ولا تغيب لانها تحب هذا الوجود وتشرف عليه وتمنحه الدفء كما تمنح احضان الام الدفء……
نص جميل لكاتبة رائعة لعلي استطعت بلوغ حدوده الدنيا على الاقل وان لم استطع فعذرا لكاتبتنا الجميلة ان النص اكبر من قدراتي النقدية…..
النص الاصلي
أمي أخبرتني أن الشمسَ تحبُّني
الدكتورة عبيريحيى
حين كان قلبي صغيراً، ومع كل وداعٍ للشمس كنت أموت ( حبسة نفس) تنتابني عند الغروب ، تجعلني أبكي بحرقة دون سبب ، ويرافقني بانقباض ٍ شديدٍ في صدري ، وكان الأمر يزداد سوءاً ، رغم أني كنتُ مرحةً وكثيرةَ الشقاوة نهاراً.                                                                
 وبعدها أخلُد إلى النوم منهكةً من البكاء المُرّ والنشيج ، استشار أهلي ذوي الإختصاص ، وما من جدوى !!                                                                                                                  
وحدها أمي عرفتْ العلاج !                                                                                                                     
كانت وقت المغيب تترك كلَّ أعمالها وتأخذني بنزهة إلى شاطئ البحر ، أنا وهي فقط ، بعيداً عن ضجيج أخوتي .                                                                                                              
وهناك حيث البحر صديقنا ، تطلبُ مني أن أنظر إلى البحر الأزرق ، وإلى السَّمَاءِ الصافية كقلبها ،وإلى قرص الشمس البرتقالي ، وتخبرني أنّ الشمس ذاهبةٌ لتنام ، بعد أن تعبتْ من اللعب معي بالنهار ، وأنها ستعود لنكملَ اللعبَ سوياً، وأن أوان نومها قد حان في البحر وأنها تظلّ تحلم بي ،لأنها تحبّني ، كنا تحبّني أمي .                                                                                          
وأنٌ البحرَ أيضاً صديقٌ يمكنني أن أُحدّثه وأستودعه أسراري ، كنت أصدّقُ أمي ، كبرتُ واكتملنا ثلاثة ، أنا والبحر وشمس المغيب ، حتى غدا البحرُ عالمي ، والمغيبُ زمني ، والشمسُ صورةَ أمي التي تبتسمُ لي مخبرةً إيايَّ أنها ستذهبُ للنوم وستأتيني صباحاً لنكملَ اللعب .