منذ مقتبل عمري شغلتُ وظائف ثقافية وإعلامية ودبلوماسية وتربوية عالية.. في العراق وفي العديد من دول العالم (دول أوربية وعربية وخليجية متقدمة).. كما شاركتُ في دورات قيادية خارج العراق في شؤون المجتمع وقضايا الشباب.. وفي العمل النقابي واقتصاديات العمل والثقافة العمالية.. والصحافة والإعلام الدولي.. وفي المناهج العلمية.. ووسائل الاتصال والشبكات الالكترونية.. إضافة إلى دراساتي (الاقتصادية والاجتماعية والإعلامية).. مثلما شاركتُ ومثلتٌ بلادي في مؤتمرات عربية وعالمية كثيرة ..
ومنذ وقت مبكر كنتُ حريصاً على دراسة (طبائع الشعوب.. وسلوكياتهم.. وتاريخ البلدان).. حتى إنني كتبتُ ونشرتُ كتباً وبحوثاً علمية في هذا الشأن عن دول عديدة.. فأصبحت لديً ذاكرة عن تلك الشعوب وخصائصها وثقافاتها ..
مثلما درستُ بشكل تفصيلي طبائع المجتمع العراقي وخصائصه.. ونشرتٌ بحوثاً عديدة في هذا الشأن.. وما زلتُ أواصل هذا المشوار.. وأجلُ الاحترام والتقدير العالي لأساتذتي : علي الوردي.. إبراهيم كبه.. حسين محفوظ،.. شمران حمادي.. طارق الهاشمي.. صادق الأسود.. عماد عبد السلام رؤوف.. منذر الشاوي.. وميض عمر نظمي.. نوري العاني.. والبروفيسور لا نكه.. والبروفيسور فليلغنتريو.. والبروفيسور فيلكه.. وغيرهم من عمالقة العلوم الاجتماعية والاقتصادية والدبلوماسية والعلاقات الدولية والنظم السياسية والصحافة والإعلام والتاريخ ..
توصلت دراساتي الى حقائق مذهلة.. فإن ما يميز شعب العراق عن شعوب العالم انغماسه في السياسة.. ويفسر كل الأمور على أساس سياسي.. فنجد الشخصية العراقية.. أخذت تتصاعد في سلوكها السياسي منذ أواخر القرن التاسع عشر دون غيرها من المجتمعات الأخرى.. وكان العراق أول البلدان (الإسلامية والعربية والشرق أوسطية) التي قامت فيها التمردات والثورات ضد الحكم العثماني.. ثم ضد الاحتلال البريطاني.. ثم الثورات والتمردات ضد الحكم الملكي.. وأول انقلاب عسكري في المنطقة حدث في العراق العام 1936.. والعراق هو أول بلد عربي يحصل على الاستقلال لنظامه السياسي في العصر الحديث العام 1932 ..
بالمقابل ما يثير الدهشة إن آخر الشعوب العربية والإسلامية تتشكل فيه الجمعيات والأحزاب السياسية الحديثة كان شعب العراق.. وما يثير الدهشة ثانياً: إن جميع الأحزاب العراقية بلا استثناء منذ ظهورها في العراق العام 1908 حتى اليوم.. ومن خلال مسيرتها السرية والعلنية أثبتت إنها لا تمتلك رؤى عراقية.. بل كانت وما زالت حتى اليوم رؤاها.. وإيديولوجياتها.. الفكرية.. أما عثمانية.. أو عربية.. أو أفكار ماركسية.. أو ليبرالية.. أو طائفية.. وجميعها إن صح التعبير مستوردة الأفكار.. وليس لها شأن في الإنسان والأرض العراقية.. أو في الحقيقة إن الأحزاب في العراق هي أحزابٌ تابعة لأحزاب رئيسة من خارج العراق.. فلا نجد حزباً حتى اليوم عراقيُ (التنظيم.. والفكر.. والقيادة.. والأفراد) ..
وهنا لابد أن نؤكد إن رجالات هذه الأحزاب لم تستطع أن تتجاوز هذا التفكير التقليدي.. على الرغم من عظمة نضال الكثير من كوادر هذه الأحزاب.. ووطنيتهم التي تخضبت بدمائهم الزكية ..
وما زال التفكير حتى اليوم بنفس الأساليب التقليدية.. ليس في تأسيس أحزاب عراقية في الفكر والممارسة والبرامج.. بل إن هذا التقليد شملً حتى منظمات المجتمع المدني في العراق فتجد معظمها تمويلها وارتباطاتها خارجية ..
اليوم نجد الغالبية العظمى من شعبنا ذات تفكير وسلوك سياسي.. (في الصباح يفطر على سياسة.. ويتغذى سياسة.. ويتعشى سياسة.. وينام على السياسة).. ومشكلته في الحياة تتمحور سياسياً.. وأحلامه في النوم واليقظة سياسة.. ومعظم هذا السلوك (مستورداً) إن صح التعبير.. فهو يتحدث عن مشكلة عراقية بحلول أجنبية.. سواء بحلول إقليمية أو دولية.. وتجد الغالبية تطرح أو تؤيد أو تعارض الأطروحات والرؤى الخارجية للمشكلات العراقية ..
مثلما يفسرون كل الأحداث الكبرى التي مرت في تاريخ العراق الى عوامل خارجية أو الى أيدي أجنبية (سواء الأحداث المصيرية كالثورات والانقلابات.. أو حتى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية).. سواء أكانت ايجابية أم سلبية ..
الأخطر من ذلك عبادتنا للفرد.. فإن لم نجد فرداً نقدسه.. نخلق هذه الفرد حتى لو كان جاهلاً أو مجنوناً.. ونغطي على كل أخطائه.. ونبرر جرائمه.. وندافع عنه.. لدرجة تصفية المقابل إن تفوه بشيْ عليه.. حتى لو كان ما يقوله صحيحاً.. (فنجد الكثير مازال يحنُ بشكل غريب الى العهد الملكي.. ويخلق الروايات والأساطير لنوري السعيد على سبيل المثال لا الحصر.. ونجد الشعب متخندق حتى اليوم بين: قاسميون حتى الثمالة.. وصداميون حتى الثمالة.. أو طائفيون حتى الموت .. ويجمعهم شيْ واحد غياب النظرة العراقية لحل مشاكلهم ..
في تفكيرنا السياسي: إن الماضي هو الجيد.. وهو الزمن الجميل مهما كان.. وإذا لم يكن جميلاً.. فنحن نجمله بحكايات وهمية.. نحن نصدقها !! وإن الحاضر مهما كان هو السيئ حتى لو كان جميلاً ..
لهذا فنحن الشعب الوحيد الذي نكرر وبإصرار الى إعادة كتابة التاريخ حسب ما نشاء.. وحسبما نرغب.. وليس كما هي الحقيقة.. حتى إن الكثير من رسائلنا وأطاريحنا الأكاديمية التاريخية والسياسية تفتقد الى الكثير من الموضوعية والعلمية والوثائق الرصينة ..
ـ النقطة الثالثة المثيرة للدهشة : إن جميع سياسيي عراق ما بعد 2003 حتى اليوم بقادتهم.. وأحزابهم.. ومسؤوليهم.. لا يفهمون ألف باء السياسة ..
ـ والمصيبة الأنكى اليوم : هي إن الغالبية العظمى من سياسيينا اليوم.. ومن يقود السلطة والاقتصاد في العراق.. عراقيون بالاسم.. وهم وعوائلهم جنسياتهم أجنبية.. ولن يتنازلوا عن هذه الجنسيات .. وإقامتهم الدائمية في تلك الدول.. وهم يقودون العراق.. ويعيشون مترفين حتى الثمالة من أموال العراق ..
ـ الأغرب في كل من ذلك إن الكثير من أعضاء مجلس النواب العراقي يعتزون بجنسياتهم الأجنبية.. أكثر من جنسياتهم العراقية.. ويسمون أنفسهم ممثلي الشعب العراقي !!
صحيح إن معظم الدول الأوربية والأمريكية الكثير الكثير من أبنائها هم من المهاجرين.. لكنهم ليسوا مزدوجي الانتماء.. ولا مزدوجي الفكر.. ولا مزدوجي المصالح.. بل إن هؤلاء المهاجرين بغالبيتهم قطعوا علاقاتهم بدولهم الأم.. وانتموا بشكل حقيقي للدول المهاجرة لها.. وأصبحوا مواطنين حقيقيين للدولة التي يعيشون فيها ..
ـ فمتى يفكر العقل العراقي بحسم ولائه بشكل تام ؟.. والعمل على تطوير أيديولوجيات للأمة العراقية ؟.. ومتى نعمل على خلق أجيال متخصصة في علوم: النفط.. والاقتصاد.. والتخطيط المالي.. والعمراني والمدن.. وعلم الحياة.. والأرض.. والفلك.. والمياه.. وعلوم الجو والمناخ.. والذرة.. والطاقة.. والأديان.. والكهرومغناطيسية.. وغيرها من العلوم بعيداً عن الانتماء السياسي والسياسة ؟.. وإذا وجدت بعض هذه العلوم في جامعاتنا.. فهي مازالت تعيش عصر خمسينيات القرن الماضي.. ولم تواكب التطورات العلمية.. وبالتالي فهي متخلفة.. ولا يمكن أن تساير تطور الحياة ..
ـ ومتى نؤمن بالحرية والقانون والقيادة الجماعية وحب الوطن وليس بالأشخاص.. وبالعشيرة.. ونبني دولة مدنية ؟؟
ـ متى نعيد للأديان قدسيتها.. ونترك التجارة بالدين ؟.. ونترك إننا دينيون لساناً ونفاقاً.. (فالدين لله.. والوطن للجميع).. وان الدين ينظم صلة المرء بربه وفي آخرته.. والوطن لجميع الشعب بكل طوائفه.. والقانون هو الذي ينظم السلوك العام وصلاته بين قومه ودنياه) ..
ـ متى نجد التفكير العراقي وصل لإنضاج فكر عراقي نابع من واقع العراق لبناء عراق متطور في واقعه وظروفه ورجاله ؟..
ـ متى نترك التخندق الى خنادق نتقاتل ليس لبناء العراق.. بل لتوجهات إقليمية ودولية ؟.. فهذه حرب بالنيابة عن الأمة العربية.. وتلك حرب بالنيابة عن العالم ..
ـ ومتى تكون مرجعيتنا الأولى (الوطن).. وتبقى مرجعياتنا الفرعية تخص كل طيف وتحترم من قبل كل الأطياف ؟؟؟