18 ديسمبر، 2024 6:16 م

الطبيخ وصورة الزعيم

الطبيخ وصورة الزعيم

طوال حياتهم كانت السياسة لا تمتُ الى حياة المعدان بشيء ولا تقترب اليهم ولا يقتربون اليها .
مرة فكر الاسكندر وتخيل أن المعدان كائنات غريبة ليس مثلها على الارض فأراد جلبهم في اقفاص وعرضهم في شوارع مقدونيا وأثينا كبشر لا شبيه لهم ، فأرسل قائداً من قواده ( نرخيس ) ليجمعهم من مستعمراتهم ويجيء بهم في صورة سبيٍ كأنهُ يقلد السَبيَّ الذي قام به نوبخذنصر ليهود اورشليم ، حيث أشهر انبياءهم ( العزير ) أختار في مفارقة غريبة ، اختار ليودع قبره بين ظهرانية المعدان وقراهم لشعوره انهم سيكونون أمناء على حفظه من أي عبث تأريخي ، وهاهم الى اليوم يحرسون المكان ويُديموه كما تمناه النبي منهم ، ولم يمس الضريح أحد منذ الالاف السنين ، أما بعثة الاسكندر الحربية فقد ضاعت في ظلمة غابات القصب ، وقلة منهم عاد الى ملكه المقدوني سالما ومنهم قائد الحملة لينصحهُ بعدم التفكير بالذهاب الى هناك مرة أخرى.
عشت معهم ، واكتشفت أن الجغرافية بالنسبة لهم الحدود القصوى التي تصل اليها جواميسهم ، وأن الوطنية بالنسبة اليهم هذا المكان الذي ينبغي أن لا يلوثه شيء يعتدي على موجوداته البسيطة ، وبفطرة مذهبية متوارثة أمنوا مقتنعين أن الأمام ( ع ) هو الملك ورئيس الجمهورية والطبيب والحافظ بعد الله من مفاجآت أخطار المكان ، ومنها الطوفان وحرائق القصب في الصيف وامتناع الطيور المهاجرة عن المجيء لسبب لا يعرفوه واخيرا علل أجسادهم حين يطول المرض بين جنباتها وقد يؤدي الى الموت في أكثر الأحيان.
يسمعون بالملك والوصي وبالقائمقام وعريف الشرطة لكنهم لا يمتلكون هاجس التواصل بالرغم من معرفتهم أن الملك هو الحاكم على هذا المكان وأنهم من اتباعه ، ولكنهم أتباع لا يريدون أن يقتربوا من ظلال العروش حتى يضطرهم البرتوكول الذي يجهلوه هو أن ينحنوا أمام العرش . وعلى حد قول شغاتي ذات يوم : نحن المعدان عروشنا سوابيطنا ، فوقها ننام بشخير تسمعه النجوم ، وبصباحها نتأمل بسعادة شروق شمس الله.
في الجمهورية الاولى للزعيم عبد الكريم قاسم ، أتت بعثة عسكرية من مديرية المساحة ، لعمل خرائط لجميع مناطق الاهوار ، واستراحت في القرية ليوم ، وفي نهاية عملها وتقديراً لكرم أهل القرية اهدى الضابط التي يترأس البعثة الى شغاتي صحونا مطبوعة عليها صورة الزعيم ببدلته العسكرية ، وقال لهم : هذا الزعيم الذي يقود الوطن الآن الى الرفاهية ، وهذه صورهُ في المواعين ، علقوها على الجدران تبركاً ولاتأكلوا فيها الطبيخ.
ولأن لنجمات الرجل التي تلمع على أكتافه رهبة فأن شغاتي اخذ الصحون الثلاث وعلقها الى جانب صورة ملونة ومشهورة ومفترضة بخيال الرسام للأمام علي ع يجلبها الزوار الذين يذهبون لزيارة ضريح الامام الرضا ع المدفون بأرض الطوسِ في ايران ، ويظهر فيها الامام علي جالسا وفي حضنه سيفه ذو الفقار فيما جلسا ولداه الحسن والحسين ع ، على يمنه ويساره وامامها صورة لأسد ، وخادم الامام قنبر يقف خلفهم.
مع هذه الصورة التي يحرص كل معدان الاهوار على اقتناها تبركا ولتحفظهم من نائبات الدهر بالرغم من قلة تلك النائبات في حياتهم. علق شغاتي المواعين التي تحمل صورة الزعيم.
وحتى بعد اغتيال الزعيم ومجيء الجمهورية الثانية لعبد السلام والثالثة لعبد الرحمن والرابعة للبكر ، لم يفكر شغاتي انزال الصور ، لأن الغرباء والموظفين الحكوميين نادرا ما يزورون القرية وهو لا يدخلهم الى تلك الغرفة التي تجمعه وأم مكسيم في عشرة العمر ، وعلى جدرانها علق مواعين الزعيم.
جئت انا معلما تم تعيني للتو في مدرسة البواسل في بداية السبعينات ، وكعادة ادارة المدارس أن تعمل وليمة صغيرة على شرف المعلم الجديد ، يومها تكفل شغاتي وأم مكسيم بشوي السمك وتحضير الرز واللبن ، وكانت مشكلتهم هو عدم توفر الصحون المناسبة للرز . فكان أن قرر شغاتي أن يجلب الصحون التي تحمل صور الزعيم وينزلها لأول مرة من جدارها.
وقال : لا ضير أن نصب الطبيخ بماعون الزعيم ، فهو لا يمانع لأن الفقراء يحبون الطبيخ والزعيم يحب الفقراء.