يشكل الوعي الاجتماعي ديناميكية تفاعل الأمم والشعوب في عملية إنتاج وجودها الحضاري، حيث يمثل الدين من أهم العوامل التي تحكم سلوك المجتمعات إضافة إلى دوره في تنظيم العلاقة بينها وبين المقدس في الحياة. وإذا نظرنا إلى الدين من وجه كونه منظومة أخلاقية وروحيّة فمن بالغ الخطورة أن يتم إقحامه في السياسة أو استثماره أيديولوجيا لإنتاج فكر حزبي لأن هذا الاستثمار سيؤدي إلى إحداث شرخ كبير داخل الدين وينتهي من كونه عقيدة عامة وفطرية إلى مؤسسة حزبية تمثل من ينتمي إليها بشروط اجتهاد طبقة معينة وفق اعتبار الزعامة. سيما إن عدم الانتباه لهذه الخطورة دفع منظري الإسلام السياسي المعاصر نحو ركوب سفينة الدين في محاولة تحقيق أهدافهم الحزبية ولم يفطنوا بأن فشلهم سينعكس على الدين أو ينتهي بتدميره.
إن ظاهرة المقدس الديني ليست صدفة تاريخية وإنما هي ظاهرة تشكلت ضمن دينامية حياة في شعوبنا العربية، وخلال عقود أصبحت ظاهرة المقدس الديني من أبرز الظواهر في مجتمعاتنا العربية. في المقابل لم تسعى الطبقة المثقفة على أقل تقدير أن تأخذ تلك الظاهرة في الحسبان، وتحولت هذه الظاهرة على أنها ظاهرة نموذجية وطبيعة بارزة ويمكن تصنيفها كحالات من الدين الخاص، من ثم رفض المقدس الديني البنى الفكرية وكل النماذج التحديثية. هذا إضافة إلى أن المقدس الديني يظهر وجهه بصفته حاملا للدين بصورة حصرية وخصوصية وأولية.
وبما أن العقل الإنساني هو البؤرة العظمى التي تستقطب أنوار وأسرار جميع معالم الوجود والكائنات بما في ذلك ما هو خارج عن الإدراك الحسي والتصوّر. إذن عند هذه النقطة الجوهريّة في ذات العقل تكمن العلاقة بين الخالق العظيم ومخلوقه المنتخب الإنسان. المسألة التي نحن بصددها هي الإرادة، إمكانية العقل على الفعل والتأثير أبعد من حدود قواه الماديّة، صناعة المعجزة، التحكم في مقدرات العالم وتسخيره. مع العرض أن العقل البشري كما تعرّفه لنا الماركسية يمثل أعقد صورة أنتجتها المادة من خلا التطور التاريخي وهو تعريف ساذج. فما هو الحقيقي الذي يعجز المنطق عن تفسيره أو تعليله، الى أي غاية تسير حياتنا ووجودنا، أسئلة لا حدود لها. لكن الأهم في مجمل الأسئلة هو من يدير كل شيء ويحكم مقاليد الوجود حقّا وحقيقة. من هنا لابد أن نسأل هل استطاعت النخب في مجتمعاتنا وبكافة اتجاهاتها من الوصول إلى إجابة منطقية لهذه الإشكاليات، أو تفسير إشكالية العلاقة بين ما جرى وما سيجري وبين المقدس الديني بعد أن ضاعت عدسة العقيدة ثم تعطلت الحقيقة؟
الإجابة ببساطة شديدة، لا جديد في عالمنا، فالطبقة المثقفة في (بعض المجتمعات) أعجز في كل إمكاناتها الذاتية أن تغيّر شيء من معادلات موروثة للخلق ومسار أفلاك الحياة وتقلباتها التي كانت وماتزال من نتاج المقدس الديني، في الوقت نفسه نجد في كثير من المواقف تصبح النخب أكثر عجزا من الآخرين عن تعطيل السُنن التي تحكم الأشياء أو التلاعب في قوانين الكون، مقابل ذلك، أيمكننا الجزم بأن كل شيء على ما يُرام، ثم نقتنع بأن الصراع الذي يدور في عالمنا بجميع حيثياته وكوارثه ما هو إلا حالة طبيعيّة تُحسب على توازن الكائنات.
إن الحياة عند أبسط معالمها المتمثلة في الخليّة الحيّة الى أعقدها كمالا وإجمالا لدى الإنسان موظفة عمليّا ومبرمجة بعناية لإنتاج غاية نموذجية عظمى. إذا تجاهلنا وجود هذا التوظيف والغاية فلن يبقى أي معنى لحياتنا ووجودنا غير العبث. من هذا المنطلق علينا تقبل فرضية مبدأ الصدفة لكي نبرر عجزنا عن فهم علل التكوين والخلق، بهذا العجز يجب أن نقنع ونسلم بأن بعض المخلوقات ليست سوى دُمى تتراقص في تناسلها وفنائها على مسرح العبث أو اللامعنى. إزاء هذا التخبط والضياع، بل الصراع، وتحديدا صراع الخطابات بين النخبة المثقفة وبين المقدس الديني، هناك موروث ديني (استراتيجي) يرفض الطبقة المثقفة إلى درجة اعتبار هذه الطبقة وفلسفتها بالهوس الفكري الى مستوى اتهامها بأنها تتحدى القوانين الإلهية. لكن قوانين السماء أكبر وأقوى من اي مقدس، تلك القوانين التي فتحت لنا ثغرة في جدار الجمود المادي، بالتحديد نتحدث هنا عن النبوّة، وبشكل خاص أعني الأنبياء الثوّار اللذين أحدثوا تغيّرا في الواقع الإنساني إبتداءا من السلطان العظيم آدم مرورا بنوح الذي صنع سفينة البقاء الى إبراهيم الذي هشّم أصنام النمرود ثمّ موسى في عصاه التي ابتلعت أفاعي الطغيان وشقت البحر الأحمر ومرورا بمملكة داوود وسليمان حتى المسيح عيسى بن مريم الذي محق العجل الذي عكفت عليه اليهود ومهّد الطريق لثورة النبيّ الأمي المهدي محمد بن عبد الله في جزيرة العرب.
في السياق ذاته فإن الطبقة المثقفة في علاقتها المأزومة مع المقدس الديني من حيث كونها حالة ثقافية فكرية وإنسانية، بنظرة مبسطة سنرى أغلب عناوين النخب في العالم وحتى الدينية منها كانوا يسخطون على واقعهم ويدعون الى تغيره وجلهم كان عالما مصلحا، والبعض منهم كانوا زعماء لحركات إصلاحية وثوريّة وتشكلت أحزابا من خلال دعوتهم وخاضوا حروبا فكرية وأسسوا دول وأنظمة. من هنا يمكن أن نفهم مبررات العلمانية في فصل الدين عن الدولة، لاسيما أن هذا الفصل ليس هو الفصل القطعي ما بين الحياة العامة والدين كما تفسره الطبقة الدينية. ربما أن مشكلة المقدس الديني تكمن في أفكاره بالذات، من خلال احتكاره للحقيقة والعقل والفهم، بالتالي كان ثمنه عزلة النخب، وهذا بالإجمال ما حاولت القيام به (أوهام المقدس) ونجحت تلك الأوهام في تحقيق أهدافها ألا وهي نهاية الطبقة المثقفة أو النخب في (بعض المجتمعات). وبعد الفشل في مهمة قود المجتمع نحو عالم أكثر تقدما، فالأجدى أن تعمل الطبقة الدينية على التحرر من بعض شعاراتها وأفكارها، لإعادة صوغ المفاهيم المتعلقة بالتغيير الاجتماعي والعمل السياسي وبعض الأفكار على سبيل المثال لا الحصر (الجهاد) وغيرها من الأفكار التي تدعو إلى العزلة عن المجتمع، وقطع العَلاقة مع الآخرين.
على ما تقدم، من غير الحكمة أن نحاول تغيير الأفراد والمجتمعات بالقوّة دون مراعاة السياق الثقافي والنفسي، فكل مجتمع يتميز بنمط حياة خاصة وحضارة ممتدة في أعماق التاريخ، ومن التعسّف أن تفكّر جماعة في تغيير المجتمعات الأخرى، واستبدالها بمجتمعات افتراضية رسمت معالمها الإيديولوجيات الضيّقة، بعد أن سيطر المقدس الديني على عقول بسطاء الناس الذين اعتقدوا أن تعليمات وأفكار المقدس تعكس بالضرورة الشريعة والحقيقة الربانية، فذهب أولئك البسطاء وقاتلوا الناس من أجل حقائق لم تكن قط حقائق، وحاربوا غيرهم من أجل تعاليم لا علاقة لها أصلاً بالدين، بل هي فتاوى وأقوال وآراء صدرت عن المقدس عبر الزمن وخضعت لسنن التاريخ وتحوّلاته، فتوهم بسطاء العقول أنّهم يقاتلون من أجل دين الله، ولكنّهم كانوا يقتلون بعضهم من أجل آراء بشرية اقترحها هذا المقدس الديني أو ذاك.