23 نوفمبر، 2024 5:25 ص
Search
Close this search box.

الطبقة العمالية في العراق … مسيرة مشرفة ومستقبل مجهول

الطبقة العمالية في العراق … مسيرة مشرفة ومستقبل مجهول

ولدت الطبقة العاملة في العالم الحديث كناتج للتطور الحضاري ونشوء المدن الكبيرة بعد انحسار دور الإقطاعيات الزراعية في أوربا ، كما أشار عالم الاقتصاد البريطاني فريدريك فون بقوله ..(نشأت المدن لتكون محل إقامة مجتمع لا يعتمد في حياته على الزراعة وإنما يعتمد على الصناعة والتجارة) ، وترافق نشوء هذه المدن مع بداية الثورة الصناعية في أوربا في القرن الثامن عشر وتحديدا في بريطانيا كونها كانت أكثر دول أوربا تقدما في المجال الاقتصادي وقد ساعدها على ذلك هو بعدها الجغرافي عن الأزمات والمشاكل التي كانت تعيشها أوربا ،  واكتشاف الفحم الحجري فيها .. لكن سرعان ما انتقلت هذه الثورة الصناعية لتشمل أوربا بأكملها وخصوصا بعد اكتشاف قوة البخار والطاقة الكهربائية وكان لهذا التطور السريع الذي شهدته أوربا أدى إلى نشوء طبقة اجتماعية جديدة فيها تمثل شريحة العمال والحرفين داخل هذه المدن ، شكلت الركيزة الأساسية لبقائها وديمومتها على الرغم من إن هذه الطبقة كانت تعاني من التهميش والاستغلال من قبل أصحاب رؤوس الأموال ومالكي وسائل الإنتاج ، فنتج عن ذلك صراع طبقي بين فئات تلك المجتمعات وظهور نظريات وحركات قد تبدو غريبة في طرحها بعض الشيء ، لكنها تعكس الواقع الصعب والمرير التي كانت تعيشه الطبقة العمالية اّن ذاك ومن هذه التوجهات هي.. (الحركة النقابية) التي ظهرت في أوربا في بداية القرن التاسع عشر وسميت (بالسندكالية) ومن أهم منظريها (برودن وجورج سوريل) وطرحت نفسها كمذهب سياسي واقتصادي يهدف الى التغيير الاشتراكي لكن ليس على طريقة الاشتراكية الشيوعية ، بل تهدف الى السيطرة على معامل الدولة ومؤسساتها عن طريق سيطرة العمال على وسائل الانتاج ويصبح النظام السياسي غير ذي جدوى عن طريق تاسيس اتحادات عمالية مرتبطة مع بعضها البعض ، وقويت شوكت هذه الحركة وانتشرت مفاهيمها بين الأوساط العمالية في أوربا الغربية في النصف الثاني من نفس القرن إلا أنها اصطدمت بالنظرية الاشتراكية الشيوعية التي كانت أكثر رصانة وواقعية في الطرح كونها تؤمن بامتلاك الدول لوسائل الإنتاج والطبقة العاملة هم الجزء الأساس في إدارة هذه الدولة ، وبانتصار الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 تلاشت النظرية السندكالية وحلت محلها الاشتراكية الشيوعية التي أخذت على عاتقها المطالبة بحقوق الطبقة العاملة … أنشأ أول اتحاد عمالي في العالم عام 1790 في بريطانيا ثم تأسس أول اتحاد دولي للعمال عام 1884، ألا انه لم يتم الاعتراف دوليا بوجود وحقوق هذه الطبقة الكادحة الا في عام 1919 حين تأسست (منظمة العمل الدولية)
كحماية لحقوق العمال وكجزء من عصبة الامم المتحدة ، ونتيجة لهذا التطور السريع الذي طرأ على الصناعة في الغرب احتاجت هذه الدول إلى أسواق جديدة لتصريف منتجاتها والى مصادر للتمويل بالنسبة للمواد الأولية الرخيصة فعمدت الى احتلال بعض بلدان العالم لتحقيق هذه الغرض الاستعماري ، وكان من نتائجه هو نزول القوات البريطانية على الأراضي العراقية عام 1914 وبداية الاحتلال الاستعماري الحديث للمنطقة بعد رحيل الدول العثمانية عنها مهزومة نتيجة خسارتها في الحرب العالمية الأولى عام 1918 وقد جلب معه المحتل الجديد جزء من ارثه الحضاري وتطوره التكنولوجي ، فنشأت الورش والمصانع الصغيرة في المدن العراقية والتي كان اغلبها تابعة لمستثمرين أجانب وشركات انكليزية ، وظهرت طبقة جديدة في المجتمع العراقي للعيان هي طبقة العمال والحرفين وشكلوا هؤلاء النواة الأساس لحركات واتحادات عمال العراق الذي اطل على القرن العشرين وهو عبارة عن قرية كبيرة يعاني الجهل والفقر والحرمان، وقد شكلت هذه الطبقة قاعدة ثورية جديدة في المجتمع العراقي المطالبة بالحقوق والعدالة والمساواة فكان أول حراك لها هو إضراب عمال شركة (بيت لنج) النهرية عام 1918 للمطالبة بمساواتهم بالأجور وساعات العمل مع نظرائهم من الجنسيات الأخرى ،وجوبه هذا الإضراب بقسوة من قبل المحتلين الانكليز … لكن الحادثة التي شكلت نقطة التحول وخط الشروع لنهضة عمال العراق هي إضراب عمال سكك الحديد عام 1927 ضد شركات النقل البريطانية ، وقد رفعوا عدة مطالب الى هذه الشركات والى وزارة الأشغال آنذاك ، وبإصرارهم الدءوب على تحقيق مطالبهم استطاعوا الحصول على جزء مهم منها وهي (تحديد عدد ساعات العمل والعلاج الطبي المجاني) وعلى اثر هذه الحادثة تأسست أول جمعية لأرباب الحرف والصنائع في العراق عام 1929 وبعد ذلك سن قانون العمل رقم 72 لسنة 1936 والذي حدد فيه حقوقهم وواجباتهم ، واستمر عمال العراق بالمطالبة بحقوقهم كجزء من حقوق شعبهم المسلوبة على مر التاريخ كإضراب عمال المطابع عام 1942 للمطالبة بتطبيق الفقرة 72 من قانون 1936 والتي بقيت حبرا على ورق ومنها تحديد ساعات العمل وزيادة الأجور بنسبة خمسة وعشرون بالمائة ، ومن ثم إضراب عمال شركة دخان جعفر وعمال شركة دخان عبد العزيزعام 1953 للمطالبة بنفس الحقوق  ، وكان لهذا الزخم والحراك الجماهيري لعمال العراق الأثر الأكبر في تبلور قاعدة ثورية حية في أوساط المجتمع تجاوزت في مطاليبها وطموحاتها حقوقها الخاصة وتعدت إلى مفاهيم اكبر وأوسع ، كالمطالبة بالحرية والاستقلال التام ، ونوع وشكل النظام السياسي الحاكم في العراق ، إضافة إلى حضور البعد القومي والدولي في حراكها السياسي الداخلي ، خصوصا بعد تنامي الفكر اليساري في أوساطها ونجاح التجربة الاشتراكية وحكم البروليتارية في الاتحاد السوفيتي السابق ، وتوج هذا النضال بقيام ثورة تموز المجيدة عام 1958 والتي فجرها الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم حيث قام بتبني واحتواء هذه الشريحة الاجتماعية المهمة وجعلها جزء من مقومات الثورة وزخمها الدافع نحو التقدم والبناء ،  فقام بافتتاح ورعاية المؤتمر التأسيسي الأول للاتحاد العام لنقابات العمال في الجمهورية العراقية في تموز عام 1959 وبعدها انعقد أول مؤتمر عام لها في شباط 1960 تحت إشراف ورعاية ودعم هذه الجمهورية الفتية ، وشكلت الطبقة العمالية الركيزة الأساس لهذه الثورة والمحرك الرئيسي لها وحققت الكثير من الانجازات على الرغم من العمر القصير لها الذي لم يتعدى الخمس سنوات ، لذلك كانت أول القوى المستهدفة بعد انقلاب شباط الأسود عام 1963 والذي قامت به أذناب الرجعية من قوميين وبعثيين ، فامتلأت السجون والمعتقلات بمناضليهم ..وكانت من أسوء الفترات في المسيرة العمالية هي تسلط البعث على زمام السلطة في العراق فسعى إلى القضاء عليها باتجاهين … الأول كان بإنهاء كل فكر يعارض او يتقاطع مع أيدلوجية  البعث وقد عمل على ذلك بمحاربة كل التوجهات الوطنية واليسارية داخل الأوساط العمالية ، ومن ثم سيطرة البعث على كل الاتحادات والنقابات العمالية وبالتحديد بعد انهيار الجبهة التقدمية عام 1979 وقتل وسجن ومطاردة كل القوى الوطنية التي كانت منضوية تحتها من قبل النظام ألبعثي الحاكم  ، والاتجاه الثاني كان القضاء على التحدي السياسي والفكري والتعبوي الذي كانت تمثله هذه الطبقة الحية من المجتمع للنظام ، من خلال محاولة إذابتها ودمجها ضمن منظومة اكبر وجعلها جزء من الحراك الذي يصب في صالح السلطة وأهدافها فاصدر مجلس قيادة الثورة المنحل القرار رقم 150 لسنة 1987 والقاضي بتحويل جميع عمال العراق إلى موظفين ، وبذلك أنهى هذا النظام مسيرة نضالية دامت لعقود طويلة وصادر حقوق وواجبات هذه الشريحة الفاعلة في المجتمع ومن ، ثم أصبح عمال العراق وقودا لحروب النظام العبثية كحربه مع الجارة إيران واحتلاله للكويت ومغامراته الكارثية التي أوصلت العراق إلى حافة الهاوية وكانت سببا في احتلاله من قبل القوى الغربية  ، إضافة إلى تسخير خبراتهم وإمكانياتهم لعجلته الحربية في مصانع ومنشات التصنيع العسكري بدلا من تحويل هذه الجهود لبناء قاعدة صناعية تساهم في تطور والازدهار لبلد مثل العراق يمتلك إمكانات مادية وبشرية استثنائية على عموم المنطقة والعالم … وبعد سقوط الصنم عام 2003 تخلصت هذه الشريحة كما الشعب العراقي بأكمله من حكم نظام البعث البغيض وبدأت تستعيد جزء من عافيتها لكن بخطى وئيدة جدا حتى بعد إلغاء قرار تحويل العمال إلى موظفين الذي أصدرته وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في 2011   فما زالت آلاف المعامل والمصانع متوقفة عن العمل ، والقطاع الخاص يعاني  شلل شبه تام بسبب عدم وجود سياسة اقتصادية واضحة للدولة في موضوع حماية المنتج الوطني والحد من الاستيراد العشوائي للسلع والبضائع ، ودعمه من قبل الدولة من خلال إصدار القوانين الخاصة بالاستثمارات والتشجيع على الصناعات الوطنية والحد من استقدام العمالة الأجنبية الخارجية  ، إضافة إلى إن القطاع العام يعاني من نقص كبير في توفر الأيدي العاملة الماهرة بسبب قلة وجود المدارس المهنية والمعاهد الخاصة بتخريج الفنيين العمال المهرة والحرفين وتوقف معظم مؤسساتها عن الإنتاج ، لأسباب لوجستية وتنظيمية وكذلك تحول معظم الطبقة العاملة إلى اختصاصات أخرى بسبب دخولهم المعاهد والكليات المسائية والأهلية مما أدى إلى وصول هذه الفئة إلى مرحلة التلاشي والاندثار ، في فترة العراق بأمس الحاجة لسواعد أبنائه لإعادة بناء ما دمرته الحروب والإرهاب … لذلك على الدولة الالتفات لهذه الشريحة المهمة من الشعب العراقي والعمل على إعادة احتضانها ودعمها بكل السبل والإمكانات للنهوض من جديد ، من خلال إصدار القوانين واللوائح التي تنظم عملها ،  وإعادة تأهيل المعامل والمؤسسات في القطاع العام ، وفتح المدارس والمعاهد الفنية والمهنية التي تأخذ على عاتقها تخريج الأيدي العاملة الماهرة ، ودعم القطاع الخاص الذي من شأنه استيعاب هذه الطبقة العمالية والإسهام في القضاء على البطالة وازدهار الصناعة في العراق.

أحدث المقالات

أحدث المقالات