18 ديسمبر، 2024 6:59 م

الطالب تشيخوف وقصصه

الطالب تشيخوف وقصصه

اصبح تشيخوف طالبا في الكلية الطبية بجامعة موسكو عام 1880 , وفي هذا العام نفسه بدأ بنشر قصصه القصيرة ايضا , وتخرّج في الكلية الطبية عام 1884 , واصبح طبيبا ماهرا , و في الوقت نفسه اصبح ايضا كاتبا معروفا في عموم روسيا , فقد نشر خلال سنوات دراسته في الكليّة الطبية بجامعة موسكو الكثير من القصص القصيرة في مختلف الصحف والمجلات الروسية , ومع ذلك فانه كان يداوم بشكل منتظم ويؤدي واجبه الدراسي كما يجب , ونجح باستيعاب العلوم الطبية, وهي ظاهرة نادرة جدا , ويمكن القول انها لم تحدث في تاريخ الادب الروسي لا سابقا ولا لاحقا , ونحاول في مقالتنا هذه ان نتكلم عن هذه الظاهرة في مسيرة ابداع تشيخوف , اذ انها ظاهرة فريدة فعلا و تستحق الوقوف عندها وتأمّلها بعمق.
كانت حصيلة السنة الاولى في مجال نشر القصص متواضعة جدا , وهي في حدود عدة قصص ليس الا , اذ ان تشيخوف على ما يبدو لم يكن واثقا من نفسه في هذا المجال الادبي الجديد بالنسبة له , الا ان عدد القصص أخذ يتزايد بالتدريج , بعد ان فهم تشيخوف , انه يسير في الطريق الصحيح , الذي يتناغم وينسجم مع موهبته الادبية , ولا يتعارض في نفس الوقت مع واجباته الدراسية في الكليّة الطبية , وهكذا نشر تشيخوف اثناء سنوات دراسته الجامعية بين اعوام 1880 و 1884 اكثر من ( 200 ) قصة قصيرة ( منشورة حسب سنوات صدورها في المؤلفات الكاملة لتشيخوف بثلاثين مجلّدا , وهي المؤلفات التي صدرت في الربع الاخير من القرن العشرين وباشراف لجنة علمية مختصة ) , وكانت اكثر السنوات انتاجا هي سنة 1883 , اذ نشر تشيخوف فيها اكثر من مئة قصة , اي بمعدل قصة في كل ثلاثة الى اربعة ايام لا أكثر , (نكرر – يكتب قصة وهو يتابع واجباته الدراسية في الكلية الطبية) , واصبحت عدة قصص من تلك المرحلة المبكرة في ابداع تشيخوف معروفة ومشهورة لحد الان في روسيا وخارجها ايضا , اذ تم ترجمتها الى عشرات اللغات الاجنبية بما فيها طبعا لغتنا العربية , ومن بين هذه القصص , مثلا وليس تحديدا – ( البدين و النحيف ) و( نسى ) و ( المنتقم ) و ( موت موظف ) و ( رسالة الى جار عالم ) و ( فرحة ) و..و..و..الخ…
نشر تشيخوف (11) قصة قصيرة عام 1880 , واول تلك القصص كانت بعنوان ( رسالة الى جار عالم ) , والتي لازالت حيوية وتتعايش مع القراء حتى في روسيا المعاصرة اليوم , اذ يستخدمها مدرسو اللغة الروسية بالمدارس في تدريسهم , فيطلبون من التلاميذ ان يحددوا الاخطاء الواردة في تلك الرسالة , والتي تعمّد تشيخوف ان يذكرها في تلك القصة القصيرة تعبيرا عن المستوى الثقافي الواطئ لذلك الجار , وهو يكتب رسالته , وينفّذ التلاميذ هذا الواجب المدرسي بكل سرور وهم يقهقهون عند قراءة نص تلك القصة الطريفة . لقد استطاع تشيخوف ( وهو طالب بالصف الاول في كلية الطب بجامعة موسكو ليس الا !!!) , استطاع ان يعطي لنا قصة تحتوي على درس تطبيقي و (دائمي!) لتلاميذ المدارس الروسية في موضوع الاملاء , درس حيوي وباسم ومهم جدا , لانه يجعل التلاميذ تسخر وتقهقه من الاخطاء اللغوية الموجودة في تلك الرسالة , اي ان تشيخوف حوّل ( الضحك !) الى اسلوب تربوي غير مباشر, اسلوب يصل تلقائيا الى قلوب التلاميذ رأسا , وبالتالي , الى عقولهم طبعا , ويعرف التربويون الاهمية الكبرى للاسلوب غير المباشر في ايصال المعلومة الى اذهان التلاميذ , وكيف ان تلك المعلومة في تلك الصيغة غير المباشرة تبقى راسخة في ذاكرة هؤلاء التلاميذ , لانها (… كالنقش على الحجر !) كما يقول مثلنا الشهير عن (العلم في الصغر. . .)
لا يمكن طبعا التوقف ( حتى ولو قليلا) عند هذا العدد الكبير من القصص التي نشرها تشيخوف في مرحلة دراسته تلك , ولكننا نشير هنا فقط الى نموذج من تلك القصص ليس الا , ويكفي ان نتوقف عند قصة ( موت موظف ) , التي اصبحت مشهورة عالميا . تصوروا , قصة (موت موظف ) كتبها تشيخوف وهو طالب في الكلية , هذه القصة التي تحوّلت في الوقت الحاضر الى رمز للانسان المسحوق في المجتمعات , حيث يشعر الانسان فيها بذنب لم يفعله , ويمكن لهذا الاحساس بالخوف ان يقضي حتى على حياته , كما حدث بالنسبة لذلك الشخص , الذي ( عطس !!!) ليس الا , والذي مات في نهاية القصة خوفا من ذلك ( الذنب !!!) . لقد رسم لنا هذا (الطالب!) لوحة مرحة (لكنها تقطّر دمعا ) لحالة انسانية لازالت تتكرر في الكثير من المجتمعات الانسانية , ومن ضمنها مجتمعاتنا العربية مع الاسف ….
الا يستحق هذا ( الطالب ) ان نصفّق له تحية ؟ الا يستحق هذا ( الطالب ) ان يكون قدوة لنا جميعا ؟ الا يستحق هذا ( الطالب ) ان نقول له – شكرا يا انطون بافلوفيتش ؟ والاجابة عن كل هذه الاسئلة ستكون بكلمة واحدة لا اكثر , بكلمة نعم.. نعم.. نعم …