25 نوفمبر، 2024 11:15 ص
Search
Close this search box.

الطاعون والكوليرا في لمحات علي الوردي والعبرة منها في زمن الكورونا

الطاعون والكوليرا في لمحات علي الوردي والعبرة منها في زمن الكورونا

شعرت بالغثيان والرهبة والخوف من جراء القصص والاحداث والروايات التي ذكرها الدكتور علي الوردي عن الأوبئة في العراق عامة، وفي بغداد تحديداً، من خلال موسوعته التاريخية الاجتماعية (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث)، حيث كان الطاعون والكوليرا وباءاً كارثياً حصد أرواح جمع كبير من الناس في سنوات متعددة من تاريخ العراق الحديث، وهو ما يذكرنا بالموقف نفسه اليوم من واقع العراق الصحي الكارثي الذي نعيشه، مع أنتشار وباء وفايروس (كورونا) المستجد، والمستبد بنا، الذي غزا العالم، حتى عدته منظمة الصحة العالمية وباءاً عالمياً، نتيجة للانتشار الكبير والخطير الذي ساد أغلب بلدان العالم في آسيا وأوربا، والكثير من الدول العربية، وكان للعراق موعداً سيئاً ومرعباً مع كورونا.
يذكر الوردي عند حديثه عن واقعة كربلاء التي حدثت مع الوهابية في عام 1802م،، انه في شهر شباط من هذا العام بدأ الطاعون ينتشر بشدة في بغداد، مما اضطر الوالي العثماني وحاشيته مغادرة بغداد والذهاب الى الخالص بغية الابتعاد عن منطقة الوباء، ومن المناطق التي انتشر فيها الوباء بقوة ـ اعتماداً على رواية الوردي لتاجر مسيحي كان يسكن في بغداد أسمه يوسف بن ديمتري المقدسي ـ منطقة باب الشيخ، اي الشيخ معروف، وباب الكاظم، وكان يموت من الناس من هذه المناطق كل يوم من 20 الى 25 الى 30 شخص، وقد نجا من نجا من هذا الوباء عن طريق مغادرة وترك المدينة الى مناطق أخرى.(1)
والظاهر انه في فترات تاريخية لاحقة قد تكرر أنتشار الطاعون في بغداد مرة أخرى، اذ توسع الوردي في ذكره في موضوع الطاعون في بغداد، وقد أنتشر هذه المرة في شهر شباط من العام 1831م، حيث جعل هذا الوباء العراق كالريشة في مهب الرياح لا تملك من أمرها شيئاً، كما يقول الوردي. وقد ذكر (ان هذا الطاعون كان أفظع وباء حل بالعراق عبر تاريخه الطويل، وقد ظل المعمرون من أهل بغداد يتحدثون عن مآسيه حتى عهد متأخر، وفي بغداد الآن ـ كما يذكر الوردي ـ سوق يسمى “السوق الجائف” وهو انما سمي بهذا الأسم لأنه أمتلأ بالموتى أثناء الطاعون وأشتدت النتونة فيه الى درجة لا تطاق.)(2)
ومما ذكره الوردي عن مصدر مجيء الوباء كان من شمال العراق، قادماً من ايران من مدينة تبريز التي أنتشر فيها الطاعون من شهر تموز 1830، وبعد شهرين من هذا التاريخ وردت الاخبار عن وصوله الى كركوك، وقد طلب والي بغداد آنذاك داود باشا من طبيب القنصلية البريطانية إعداد منهج للحجر الصحي بغية منع الوباء من التقدم نحو بغداد، وقد أعد الطبيب المنهج ولكن المتزمتين من رجال الدين أفتوا بأن الحجر الصحي مخالف للشريعة الاسلامية، ومنعوا داود باشا من أتخاذ اي عمل لصد سير الوباء، ولهذا كانت القوافل الواردة من ايران وكردستان تدخل الى بغداد بكل حرية.(3)
ومما ذكره الوردي بصورة مخيفة عن عدد المصابين بالطاعون بقوله 🙁 وفي أواخر آذار من عام 1831م ظهرت أول اصابة طاعونية في بغداد وكانت في محلات اليهود القذرة، ثم أخذ الطاعون يسري نحو المحلات الاخرى. وقد ذكر سليمان فائق الذي كان في بغداد يومذاك : إن عدد الجنائز التي اخرجت من أبواب المدينة في أواخر شهر آذار بلغ الألف، وفي أواسط شهر نيسان بلغ العدد ثلاثة آلاف جنازة يومياً حسب ما ضبط في سجلات الموظفين، ثم لم يبق من الموظفين بعديذٍ من يقوم بالتسجيل.)(4)
ويذكر الوردي أن الكثير من الاوربيين الذين كانوا في بغداد، وكذلك من المسيحيين المتصلين بهم عمدوا الى حجر أنفسهم في بيوتهم ولم يخرجوا منها، وكانوا قد جهزوا أنفسهم بما يلزمهم من مواد التموين، ولهذا كانت الاصابات بينهم قليلة نسبياً، تأتي اليهم من القطط أحياناً. أما سائر السكان فقد أستسلموا للقدر وأخذ الطاعون يحصدهم حصداً حتى قيل ان عدد الموتى في اليوم الواحد بلغ أخيراً تسعة آلاف.(5)
وقد اعتمد الوردي في حديثه عن الطاعون في بغداد على مذكرات ومشاهدات رواها مجموعة من الاشخاص، أمثال مشاهدات غروفر، وهو مبشر بريطاني كان قد أفتتح في بغداد مدرسة لأيتام النصارى، وقد سجّل غروفر مشاهداته في كتاب صدر في لندن عام 1832م، ويرى الوردي أن كتابه هذا يعد أدق تسجيل لأحداث الطاعون في بغداد. كما أعتمد الوردي وأشار الى شخص آخر كان قد ذكر أحداثاً عن انتشار الطاعون في بغداد، وهو سليمان فائق(*) في مذكراته، ولا أدري هل أن الوردي قرأ هذه المذكرات ككتاب مستقل لفائق أم هي تقع ضمن كتاب (تاريخ بغداد) للأخير، والذي أعتمده الوردي في أكثر من موضع؟
ومما ذكره الوردي عن غروفر هو الحال المأساوي لبغداد وأهلها في تلك الايام وهي تعاني من الموت الأسود، الذي هدد الجميع، والذي لوحظ في بغداد هو كثرة تساقط الموتى وكثرة الجثث التي تنتشر حتى في الطرقات آنذاك، وقد (ذكر غروفر أن الموت أصبح مألوفاً عند الناس بحيث كانوا يدفنون أقرب الناس أليهم من غير أكتراث ظاهر، ثم وصل الحال أخيراً الى أن الناس أخذوا يتساقطون في الطرقات فلا يدفنهم أحد فتأتي الكلاب تنهش أجسادهم وربما كان بعضهم أثناء ذلك لا يزال يعالج سكرات الموت. وكان أشد المناظر ايلاماً وجود المئات من الأطفال الصغار في الطرقات وهم يتصارخون، بعد أن ماتت أمهاتهم، فيختلط صراخهم بزمجرة الكلاب التي تنهش جثث الموتى.)(6)
ومما نقله الوردي عن سليمان فائق في مذكراته، والذي كان شاهد عيان على انتشار ذلك الوباء، أنه بلغ عدد الجنائز بين الستمائة والسبعمائة جنازة يومياً، مما أضطر فائق للخروج فاراً من مدينته الى البادية حفاظاً على سلامته وسلامة عائلته ومن معه من أهل بغداد، الذين خيموا في الصحراء على مقربة من بعقوبة، وقد ساعد ذلك الامر على نجاتهم وسلامتهم من الوباء والعودة الى بغداد مرة أخرى. وبعد ذلك ذهب سليمان فائق الى زيارة والي بغداد داود باشا، الذي أصيب بالطاعون أيضاً، ولكنه نجا منه وتعافى، وبعد نجاته أخذ الباشا ينشر الامن والحرس والموظفين بين الناس ومحاسبة اللصوص والسراق.
ومما لوحظ أيضاً في بغداد آنذاك أن (جثث الموتى اذ ذاك لا تزال مطروحة في البيوت والاسواق والطرقات، وبلغ تعفن الهواء حداً لا يطاق، فعين داود باشا جنوداً لتنظيف بغداد وجعل مقداراً من المال لنقل كل جثة. فألقيت آلاف الجثث في دجلة من غير تكفين وتجهيز، وكانت أكبر الجثث تُشد من أرجلها بالحبال وتُربط بذيول الحيوانات السائبة التي لم يكن لها مالك، فتسحبها الحيوانات وهي مقلوبة على وجوهها حتى شاطي النهر.)(7)
وقد لاحظ الوردي من خلال تلك القصص والاحداث في انتشار وباء الطاعون في العراق مجموعة من الظواهر الاجتماعية التي تنتشر بين الناس، ومنها (شدة اهتمام الناس بغسل الميت وتحنيطه وتكفينه واجراء كل ما أمرت به الشريعة الاسلامية في هذا الشأن، انهم أعتادوا أن يخالفوا أوامر الشريعة في حياتهم العملية كل يوم فلا يبالون، ولكنهم عند الموت يحرصون كل الحرص على أتباع الشريعة مع العلم أن غسل الميت وقت الوباء يزيد من انتشار عدواه بينهم).(8)
ومما ذكره الوردي في زمن أنتشار الطاعون هو الغلاء الفاحش وأستغلال الناس لبعضهم البعض في الاسواق وتوجه الناس لشراء ما يحتاجونه بعد موتهم من كفن وقطن وحبال وماء ولوازم أخرى، (فهم يخافون أن يدفنوا من غير ذلك، وكأنهم يتصورون أن الله سيرميهم في نار جهنم اذا وجدهم غير محنطين ولا مكفنين)(9)
وأيضاً من الظواهر التي رصدها الوردي زمن أنتشار الطاعون هو تفشي السرقة والسطو والنهب في المجتمع، أستغلالاً للظروف التي يعيشها الناس. تلك الظاهرة التي سعى الوالي داود باشا محاربتها من خلال نشر الجنود والشرطة في بغداد آنذاك.
كما يذكر الوردي أن الخوف والرعب قد سيطر على الناس من جراء وباء الطاعون، وأن الكثير من الناس ماتوا دون أن يصابوا بالطاعون، بل أستولى عليهم الخوف فأماتهم. ولهذا أعتاد العامة في العراق أن يسموا الوباء بـ “الوهم”. ينظر: الوردي.(10)
هذا ما ذكره الوردي عن أنتشار وباء الطاعون في العراق وفي بغداد تحديداً، أما عن وباء الكوليرا فقد ذكر الوردي أن الوباء قد أنتشر في ايران أولاً في عام 1846م وكان قد جاء اليها من الهند، ثم أخذ يسري من ايران نحو العراق كعادته في كل مرة، وكان قد حل الوباء في العراق في تاريخ 23 آب من ذلك العام، وكان موافقاً لليوم الأول من شهر رمضان، وقد ظهرت بوادر الرعب من الوباء في بغداد، وأرتفعت أسعار مواد التحنيط والتكفين. ومن اللافت للنظر كما يذكر الوردي أن الناس المتيسرة الأحوال والأموال يهربون فارين من الوباء من المدينة لمدن أخرى هادئة ونظيفة لا ينتقل اليها الوباء، كما خرج القنصل البريطاني وجماعته ومجموعة من أهل بغداد من اليهود والمسيح وغيرهم هرباً من الوباء المدمر، وقد تبين بعد ذلك أن وباء الكوليرا قد حصد أرواح 4318 نسمة من السكان بمختلف الاعمار. ومما يذكره الوردي أن الحكومة آنذاك، في زمن الوالي العثماني نجيب باشا، كانت مقصرة في دعم الجانب الصحي ومحاربة الوباء، مما جعل عدد الاصابات كثيرة بين الناس، اذ وصل معدل الاصابة بالكوليرا الى ثلاثين حالة يومياً ويموت نصفهم تقريباً.(11)
ومن وباء الطاعون والكوليرا الذي حلّ في العراق من خلال كتابات الوردي، الى كيفية الاعتبار منها في زمن الكورونا، هذا الفايروس والوباء المسمى بـ (كوفيد 19)، الذي اجتاح العالم، بدءاً من الصين في مدينة ووهان الصينية، انتقالاً الى ايران وايطاليا وفرنسا وأسبانيا وأوربا والامريكيتين والى الدول العربية ومنها العراق، حيث تم اكتشاف أول حالة بالأصابة بالفايروس لطالب ايراني يدرس في مدارس النجف الدينية قادماً من ايران في نهاية شهر شباط من العام 2020، وبعدها تم أكتشاف حالة مصابة في محافظة السليمانية شمال العراق، وايران هي الدولة الجارة الأولى للعراق التي أنتشر فيها الوباء بصورة مرعبة جداً، أنتشر من خلال مدينة قم الايرانية، مركز انتشار الفايروس، وبعدها أنتشر الى بقية المدن الايرانية وللعراق، عن طريق العراقيين المقيمين او القادمين من ايران.
وأخذت الأعداد في محافظات العراق وفي بغداد تحديداً تتزايد يوماً بعد يوم، وبين الاصابات كانت هناك وفيات لمجوعة من الاشخاص وخاصة من كبار السن ومن المصابين بأمراض مزمنة وضعف المناعة. وقد تشكلت جراء ذلك الوباء خلية أزمة حاولت أن تعالج وتتسيطر على أنتشار الوباء في العراق، سواء بالتحذير من خطورة الفايروس والمراجعة للفحص الطبي أو من خلال الحجر الصحي، وبعدها تم الاضطرار لحظر التجوال في الكثير من المحافظات العراقية، لمدة أسبوع أو أكثر، اذ أخذ الوباء بالانتشار والتوسع والتحذير من خروج الناس من منازلهم والدعوة للابقاء على الحجر والتقيد بالتوجيهات، خشية أن يصاب أكثر عدد ممكن من الناس ويتحول الفايروس الى وباء كارثي لا يمكن السيطرة عليه. ولكن من المؤسف أن الوعي والثقافة الصحية بسيطة جداً للمواطن العراقي والاستخفاف بالموضوع من قبل جمع كثير من المواطنين، مما يفاقم ذلك من حجم أنتشار وتكاثر الفايروس بين االمجتمع.
ومن الملاحط أيضاً في هذه الفترة مجموعة من الظواهر الاجتماعية التي لم تقتصر على العراق فقط بل على العالم أجمع، منها الغلاء في اسعار المواد الغذائية والأدوية والعلاجات ما تحتاجه العائلة، والاستغلال الكبير للتجار وأصحاب المصالح للناس، ومن الظواهر الملاحظة على ابناء المجتمع العراقي من الناس البسطاء هو الرجوع للتقاليد القديمة المتوارثة في معالجة الامور، والتوجه نحو الدين والعبادة والادعية وممارستها ونشرها في كروبات وأرسالها للاحباب والاهل والاصدقاء، وأشعال البخور والحرمل، والاكثار من أكل البصل والثوم، مما جعل أسعار هذه المواد في زيادة. أما عن الجهات الحكومية الرسمية فنحن نمر في أزمة سياسية وأجتماعية، فحكومتنا في زمن الكورونا بين حكومة تصريف اعمال الى حكومة مكلفة الى تعطيل حكومي، واجتماعات حزبية تناقش حقوقها وامتيازاتها ومصالحها الحزبية في زمن الازمات، ولم تكترث لصوت التظاهرات والمتظاهرين الذين تكبدوا خسائر كبيرة في صفوفهم، من السجن والاختطاف والاغتيالات والقتل قبل حلول لعنة الكورونا، وبين خلية الأزمة المشكلة برئاسة وزير الصحة ألف أزمة وأزمة، وقد صرح السيد الوزير بعدم كفاءة وكفاية وجودة الوضع الصحي في العراق، فالعراق أغنى دول العالم لكنه الأفقر بين الدول، اذ يشهد الوضع الصحي سوءاً وفساداً كبيراً، في المستشفيات والعلاجات وقلة الكوادر ومحاربتها. وبين أزمة السياسة وأزمة الصحة تحل علينا أزمة ولعنة انخفاظ أسعار النفط عالمياً، تلك الأزمة التي تنذر بالدمار الاقتصادي للعراق، البلد الذي يعتمد على 95 % على واردات النفط في اقتصاده، الذي وصل سعر برميل النفط الى 25 دولاراً، وهي أزمة كارثية قصمت ظهر العراق، فالعراق الحبيب مصاب بألف كورونا وكورونا، وبألف لعنة ولعنة، ان حياتنا مهددة ومليئة بالمخاطر، فهل نتعظ ونعتبر من التاريخ وأحداثه لننجوا بحياتنا من خطر الكورونا المستبد.
د. رائد جبار كاظم. استاذ الفلسفة في الجامعة المستنصرية
الهوامش:
(1) ينظر: علي الوردي. لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ج 1. ط2. دار الراشد. بيروت ـ لبنان. 2005.ص 194 ـ 195.
(2) المصدر نفسه. ص 277.
(3) ينظر: المصدر نفسه. ص 278.
(4) المصدر نفسه. ص 278.
(5) ينظر : المصدر نفسه. ص 279.
(*) سليمان فائق مؤرخ عراقي كبير من مواليد 1816، وله مؤلفاته العديدة منها :كتابه (تاريخ بغداد ) وهو الموسوم ” مرآة الزوراء في أخبار الوزراء ” وكتاب “تاريخ المماليك في بغداد ” وكتاب “الخبر الصحيح عن عشائر المنتفق (تاريخ المنتفك ) وكتاب (حروب الايرانيين في العراق ) وكتاب (سفينة الرؤساء ) . وقد سبق لسليمان فائق ان تولى مناصب عديدة منها انه كان مديرا للحسابات العسكرية للجيش العثماني السادس في بغداد سنة 1850 وقائمقام قضاء خراسان اي بعقوبة سنة 1857ومتصرف البصرة 1864-1869وكان اديبا ومؤرخا له صلة بمثقفي بغداد من أبناء جيله.
(6) الوردي. لمحات اجتماعية. ج1. ص 280.
(7) المصدر نفسه. ص 284.
(8) المصدر نفسه. ص281.
(9) المصدر نفسه. ص 281.
(10) المصدر نفسه. ص 279.
(11) ينظر : علي الوردي. لمحات. ج لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ج 2. ط2. دار الراشد. بيروت ـ لبنان. 2005. ص 153 ـ156.

أحدث المقالات

أحدث المقالات