أكتفيت بوضع ذراعي على مسند الكرسيّ الخشبي ، ورغم أن ركبتيَ قد أخذت وضعا منحنيا قريبا من صدريَ لكني شعرت بالراحة حين أخذت عيناي أمتدادا عرضيا صوب البرج تارة وصوب الجسر تارة أخرى ،ولاشك أن تداخلاتي في تلك اللحظة لم تكن تداخلات جراحية للصورة التي جمعتها المخيلة ليلة أمس ، وتفككت من تلقاء حالها، فقد حاولت أن أستحضر شيئا ما من الأشياء المتحللة أستحضرها لكنها لم تكن كافية في أن تلبي طلبي في رسم المشهد المقصود ، ومن حين لآخر أتنفس بنفس هواء البحر وأتثأب بغواء أصوات الطيور المائية وأحتسب لأمر ما قد تصفى به التركات التي لازالت في قاع باطني ،والتي يبدو لي بأنها لابد من أن تؤدي لي واجباً، فتضيف أو تصحح
أو تتكامل أمام الجديد الذي بدأت المخيلة بجمعه للتو حين تقدم نادل المقهى من مائدتي وقدم لي أبريقا برونزيا من الشاي ،
كنت قد أنتظرت الفتاة الكرواتية التي دعوتها لجلستي هذه والتي تعرفت عليها ليلة الأمس حين دخلنا المترو سوية بعد أن أقتربت مني وأرتني على خارطتها مقصدها الذي تروم ، وكان مكانا مُعرفا يقع قرب المطار الرئيس للمدينة ، طلبت منها النزول في المحطة الرابعة ونزلنا سوية فكان لابد أن تصطحب قطارا مترويا أخر من محطة أخرى ، وهذا يعني أننا ننتقل سيرا لبعض من الوقت ،وأثناء ذلك تحدثت لي بشكل صارم يخلو من العاطفة عن رغبتها بتطوير رغباتها ومتعها ،وهي تريد أن تمر على لغة أخرى غير لغة موطنها ، لم أسألها الكثير ولم أفتح جعبتي فأطلق عليها حشدا من الأسئلة اللغوية التي تتصل باللغات ونموها وجمالياتها إذ أكتفيت بالصمت ملوحا لها وهي بجانبي إلى جدارية كبيرة طلّت أحدى الأبنية ، كنتُ أريد أشغالها بشيء ، أريد أن أدعها أن تتكلم ،وفعلا ماأن سرنا خطوات حتى أفترشت الأرض وأخرجت قلما وورقة وراحت تكتب بلغتها الأم ،خيل لي أنها تكتب ملاحظاتها والأماكن التي نمر بها ولكنها
أستمرت بالكتابة وهي جالسة على الأرض في حين بقيّتُ واقفا أتفرس باللاأبالية الغير مقصودة التي هي عليها تجاه المارة والفضولين منهم بعد أن تكشفت أجزاء من جسدها بشكل عار تماما من رقبتها إلى أقدامها، ولربما بشكل غير مألوف وغير معتاد لكنها أسترسلت فيما تكتب وهكذا لم أكن أنوي الجلوس جوارها خوفا من تشتيت أفكارها حيث بدأت لي أنها سارحة عن العالم وملتصقة في نقطة ما من الحدود القصوى التي خلقتها في لحظة السير نحو المحطة التالية ،
بعد وقت ما وجدتها قد إنتهت حين لمت ورقتها وطوتها ووضعتها بكل دقة وعناية في محفظتها الصغيرة ودنت وقبلتني قبلة شكرٍ على أنتظاري لها وعلى صمتي القنوع من أنها تريد أن تكتب رغبة ما لنفسها أو لإنسان ما أو أي ماتفكر به وتلك لحظة حريتها وأنسجامها مع الطارئ الذي يحل كوهج برق لابد من الإمساك به قبل أن يرحل ،
لم تعثر في محفظتها على المبلغ الذي تضعه في ماكنة التذاكر وكان معي من القطع المعدنية مايكفي فوضعت قطعتين أدخلّتها سلم النفق الذي سيتجه بها صوب المترو وقبل أن تهم عادت مرة أخرى وفعلت معي
مافعلت حين أنتهت من الكتابة ، المهم بدأتُ بشرب الشاي وأنهيت قدحا ثم أخر وبعده أخر ولم أكن في جلستي أعي كيف أشرب الشاي وكيف أتلذذ به وكيف أزاول متعي إذ أن الأنشطارية في الروح وفي العقل لصيقة اللحظات مادام الخوف من المجهول نزيلنا الأبدي رغم أنه وإلى الأن لاشيء يقرع أمامك جرس الإنذار ولكن هكذا يجد الإنسان نفسه فهو على حين غرة يُخرج آهاته ، وعلى حين غرة يطيل بتلك الآهات وعلى حين غرة يلعن يوم مولده إن لم تصل اللعنات على أشياء أخرى قد تكون من المقدسات ،حين أتت وتقدمت جليستي حجبت شيئا من أشعة الشمس وكانت
بديلا لذلك الجزء المحجوب فهي طويلة وفارعة وبيضاء وممشوقة وذات تركيز عال فيما تريد وما تود إيضاحه وعلى الحين أعتقدت أن ثقافتين متباينتين قد تقابلتا ولابد من المزيد من شرب الشاي وبدون أن أنادي النادل قدِمَ لنا بأبريق آخر، في حين قدمت السفن من الموانئ لترحل عبر البسفور بعضها بالركاب وبعضها بالوقود والبضائع ،وها أني بدأت لطيفا وأنيسا مقبولا وتكلمت معها عبر ذاكرة الترحال وداعبت يديها ومددت أصابعي لأقراطها، ورضيّت أن أصلَ إلى أطراف سيقانها ،لكني على حين غرة تلبست
شخصيتها الصارمة وتغير مابي وأدركت هي ذلك وراحت تحاول أستلطافي وحاولت ولكن الطارق الذي يزورني أحايين فعل فعلته حين نهضت وبجدية لافتة لأنظار الآخرين أن أغادر بمفردي بعد أن رميت ثمن الأبريقين على المائدة حتى أن مغادرتي وطريقتي في دفع حسابينا لم تكن باللائقة ،
ربما أعطيت مثالا سيئا لتلك المرأة عن أنيسها الشرقي لكنها كانت أبعد أيصالا مني لذلك الموروث الثقيل من الأحداث والذي جعلنا خارج دائرة المسرة والأفراح والأمل ،
شممت بعمق هواء الأشجار وبعمق أخر رائحة الماء في حين كانت خلفي تدنو كقط مذعور خلف كلب شرسٍ لايستقر على حال ولايدري من سيطارده