23 ديسمبر، 2024 11:41 ص

الطائفية فتنة يوقظها التخلف

الطائفية فتنة يوقظها التخلف

لا بد من قراءة التاريخ لاخذ العبر ، ومن ابلغ عبر التاريخ تلك التي تفيد ان الامة في فترات انكسارها تصطدم مع نفسها ، فهي عندما تعجز عن مواجهة العدو الخارجي تجنح الى ان تخاصم ذاتها ، ومن ابرز تجليات ذلك الخصام هو الصراع الطائفي الذي يعني ان الامة تقر في لحظة من اللحظات انها ليست امة واحدة وانما هي طوائف متعددة متناحرة ، وكأنها في هذا الاقرار الزائف تحاول ان تتنصل من مسؤولية مجابهة الاخطار الخارجية التي تتهددها ، وقد يرى بعضهم ان الطائفية هي الخاصرة ارخوة التي يستطيع من خلالها العدو الخارجي ان ينفد الى كيان الامة فيعصف به ، وعلى وفق هذا الطرح الطائفية صناعة خارجية تروج داخل كيان الامة لتمزقه فتضعفة لتسيطر تلك القوى الخارجية عليه ، وهذا الكلام صحيح في حدود استغلال العدو الخارجي للتناحر الطائفي في اختراق كيان الامة ، الا ان الطائفية نفسها ليست صناعة خارجية وانما هي فتنة كامنة تنام في كيان الامة تستيقظ عندما تتوافر لها الظروف ، فهي الفتنة النائمة التي تكلم عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله الشريف الفتنة نائمة لعن الله من ايقظها ، فالنبي الكريم عندما يتكلم عن موقظي الفتنة ويصب لعنة الله ورسوله عليهم ، انما يتكلم عن كل مسببات ايقاظ الفتنة ، وفي اول هذه المسببات ما يؤدي الى تخلف الامة ونكوصها ، من سياسة واقتصاد ومجتمع وثقافة وفكر ، وغير ذلك من الاسباب التي تدفع الامة الى النكوص والارتداد الى الذات ، والتموقع في زواياها وتعذر الانفتاح على مكوناتها الا من خلال العدوان ، ففي سنة 469هـ ، وهي من سني الفترة المظلمة التي تمثل احدى انكسارات الامة كانت هناك فتنة هوجاء بين الحنابلة والاشاعرة ، ففي ما يروي ابن الأثير ان في هذه السنة ورد بغداد أبو نصر القشيري وجلس في المدرسة النظامية يعظ الناس ، وينصر مذهب الأشعري ، فكثر أتباعه والمتعصبون له ، وقصد خصومه من الحنابلة ومن تبعهم سوق المدرسة النظامية ، وقتلوا جماعة وجـرت بين الحنابلة والاشاعرة أمور عظيمة ، وبعد سنة اشتعلت الفتنة نفسها وأدت إلى حرب قتل فيه عشرون ، وجرح اخرون ، كما ويروي ابن الاثير ايضا تفاصيل فتنة سنة 554هـ التي وقعت في نيسابور بين الحنفية والشافعية بسبب التعصب فحُرِقَت الأسواق والمدارس وكثر القتل في الشافعية الذين مالوا فيما بعد على الحنفية وأسرفوا في قتلهم ، ويروي وقائع فتنة أخرى بين الشافعية والحنابلة سنة 716 هـ

والسرد يطول اذا ما اردنا ان نتوقف عند كل الفتن والمحن التي مرت بها الامة بسبب التعصب المذهبي ، في لحظات تراجعها وانكسارها ، وهو تعصب مقيت يحول ايجابيات المذاهب في التوسعة على الامة عندما تتسع دائرة الاختيار ليكون المسلم امام خيارات متعددة كل واحد منها مبرء لذمته ، يحولها الى طائفية مقيتة تضيق الخناق على المسلم وتدفعة على طريق الانغلاق الذي يسد الافق امامه ويحول دون انفتاحه على مكونات الامة التي تتعدد طرقها الى الهدف الواح ، ولكن ما نريد ان نقوله ان الصراع الطائفي دليل قاطع على ان الامة تعيش فترة مظلمة

   والطامة الكبرى ان تطور المدنية التي تتطور معها معدات القتال والفتك بالخصم قد جعل ذلك الصراع اشد ضراوة ومن شواهد ، دولة داعش التي تمتلك من العدة والعتاد ما يفوق قوة دولة ، ومن ذلك ايضا تداعيات ما يسمى بالربيع العربي في ليبيا ومصر وسوريا وتونس حيث ادى الى انقسامات ترتبت عليها صراعات دموية كان مرعبا حجم ضحاياها ، وان النموذجين السوري والليبي يعبران بوضوح شديد عن عن دوافع ذلك الصراع المرير ونتائجه ، فالذين يتكلمون عن صراع طائفي في سوريا متذرعين بتعدد مكونات الشعب السوري ، بماذا يصفون الصراع في ليبيا وشعبها ذي المكون الواحد ، فالامة منقسمة على نفسها بسبب التراجع الحضاري فهي تعيش احدى فتراتها المظلمة ، تعيشها متسلحة بما انتجته المدنية من سلاح فتاك.

   فما حدث في سوريا كان يمكن ان يؤدي الى تغيير يريده السوريون الذين سأموا من نظام الجمهوريات الوراثية ولكنهم بعد ان سرقت ثورتهم من مثيري النعرات الطائفية وروا باعينهم ما تفعله قوى الارهاب المتذرعة بالدين والدين منها براء وقفوا بين خيارين احلاهما مر فاختاروا النظام القائم رافضين نظام داعش الارهابي ، ولو قدر لليبيين ان يقفوا الموقف نفسه لاختاروا القذافي .

   اما العراق الذي ورث جذور الطائفية من نظام صدام كان يمكن لحكامه الجدد الذين رفضوا كل ما يمت الى صدام بصلة ان يرفضوا الطائفية نفسها ، وكان يمكن للعراق ان يلعب دورا مميزا على صعيد الامة الاسلامية من خلال تلك اللحمة التي كانت تقوم بين مكوناته قبل حكم البعث الطائفي ، فان سنة العراق ليسوا نواصب ، بل ان ولاءهم لاهل البيت عليهم السلام كان ولاء حقيقيا وعميقا ، يمكن تلمسه في الموروث الشعبي المعبر عنه في الموالد والمناقب النبيوية فهو موروث يعبر حسن انساني عميق بموالاة اهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن الحوادث التي حفرت في ذاكرتي عميقا وتؤكد ما اذهب اليه انني في عام 1986 كنت مطلوبا لمخابرات نظام صدام ، وكنت اجوب محافظات الشمال في كردستان العراق علي اجد منفذا اخرج منه ، وفي يوم العاشر من المحرم من ذلك العام وكان يوم جمعة صليت الظهر في احد جوامع كركوك ، وسمعت خطبة الجمعة التي عرج فيها الخطيب السني الى استشهاد الامام الحسين عليه السلام بطريقة رائعة تنم عن شعور عميق بالفاجعة ما جعلني اجهش بالبكاء فانتبهت الى الجميع وهم يتظرون الي عندها خشيت ان اقع في يد المخارات الذين يحضرون هكذا مجالس فخرجت من الجامع مسرعا وتخفيت في زحام المدينة وان اتذرع الى الله لا يصيب خطيب الجمعة مكروها بسبب ولائه لاهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، اما شيعة العراق فليسوا روافض على الاطلاق ، انما كان النصب والرفض ثقافة دخيلة على العراقيين ومن يقرا صراع القوى الاقليمية على العراق سيجد تفاصيل تفاصيل ذلك الصراع السياسي المغلف بغلاف ديني طائفي ، فكان على حكام العراق الجدد ان يهياوا المناخات لاجتثاث الطائفية التي زرعها نظام صدام ، ولكنهم للاسف لم يفعلوا ربما لان بقايا البعث المتحالف مع قوى اقليمية قد استعجل المعركة التي هيات المناخات لمد طائفي مقيت كان يوظف الدين في خدمة مشاريعه السياسية ، ومن شواهد هذه ان الصراع بين العراق والسعودية لا علاقة له بالدين وانما هو صراع اقتصادي ، فهدوء العراق ونموه مفض الى تضخم صادراته من النفط وهذا لا يكون الا على حساب السعودية التي جندت قوى ظلامية كثيرة لتعرقل مسيرة العراق وقد عرقلتها وحصدت اثمان هذه العرقلة تطورا اقتصاديا يقابله تدهور اقتصادي في العراق ، يدفع ثمنه كل العراقيين بكل مذاهبهم واديانهم .

   ان الامل يحدوني في ان تكون حكومة الدكتور العبادي سباقة في طريق اطفاء نار الفتنة واستعادة المبادرة مستفيدة من كل الطاقات العراقية في دحر قوى الظلام الداعشية ، وخصوصا تلك الطاقات العسكرية الموجودة في محافظتي نينوى والانبار اللتين لم يدخر ابناؤهما جهدا في محاربة الغزاة الذين دنسوا تراب العراق.