المجتمع لم يصل الى العصمة بعد، نعم، هناك بعض اﻷفراد وصلوا الى العصمة، والمراد من العصمة هنا العصمة غير الواجبة، وهي درجة عالية من درجات العدالة والتقوى، وهذه العصمة عصمة مكتسبة، ولا يمكن الوصول إليها إلا بعد الوصول الى الورع أولا، ثم التقوى ثانيا ، وحيث أن التقوى درجات عديدة فإن العصمة غير الواجبة هي أعلى تلك الدرجات، وهي عصمة عن الخطأ دون السهو والنسيان، خلافا للعصمة الواجبة التي تكون عن الخطأ والسهو والنسيان وهي عصمة اﻷنبياء واﻷئمة المعصومين عليهم السلام…قال السيد الشهيد محمد الصدر(قدس الله سره) في كتابه أضواء على ثورة اﻷمام الحسين عليه السلام:[{” الوجه اﻷول: إن مثل هؤلاء الخاصة معصومون بالعصمة غير الواجبة، كما أن الأئمة معصومون بالعصمة الواجبة. فإن العصمة على قسمين :-
القسم الأول: العصمة الواجبة، وهي التي دل الدليل العقلي على ثبوتها بالضرورة للأنبياء وأوصيائهم عليهم السلام، كما هو مبحوث في العقائد الأسلامية، وهذه المرتبة عطاء من قبل الله إليهم، لا ينالها غيرهم ولا يمكن أن يكون الدليل عليها دليلاً على غيرهم أيضاً.
القسم الثاني: العصمة غير الواجبة، وهي مرتبة عالية جداً من العدالة، والإنصياع لأوامر الله سبحانه ونواهيه، بحيث يكون احتمال صدور الذنب عن الفرد المتصف بها نادراً أو منعدماً، لمدى الملكة الراسخة لديه والقوة المانعة عن الذنوب فيه.وفكرتها نفس الفكرة السابقة، لأن معناها واحد من الناحية المنطقية، الا انها تفرق عنها ببعض الفروق:
أولاً: عدم شمول البرهان على العصمة الواجبة للعصمة الأخرى.
ثانيا : عدم شمول العصمة الواجبة للخطأ و النسيان بخلاف الأخرى.
ثالثاً: ملازمة العصمة الواجبة مع درجة عالية من العلم، بخلاف الأخرى فإنها قد تحصل لغير العالم كما تحصل للعالم.
رابعاً : انحصار عدد أفراد المعصومين بالعصمة الواجبة بالأنبياء والأوصياء، وأما العصمة الأخرى فبابها مفتوح لكل البشر، في أن يسيروا في مقدماتها وأسبابها حتى ينالوها، وليست الرحمة الإلهية خاصة بقوم دون قوم.
إذا عرفنا ذلك،أمكننا القول بكل تأكيد : أن عدداً من أصحاب الأئمة عليهم السلام معصومون بالعصمة غير الواجبة هذه، ومعه يتعين حمل أقوالهم وأفعالهم على العصمة والحكمة، شأنهم في ذلك شأن أي معصوم. “}] إنتهى
إن الورع والتقوى من المراتب اﻷساسية والضرورية لكل من يريد الوصول الى العصمة غير الواجبة، إذن ينبغي السؤال عن معنى الورع والتقوى؟:فالورع هو ترك المحرمات، والتقوى هي ترك الشبهات.والفرق بين هذين المعنيين هو:(” ان احسن ما يمكن بيانه كفرق للتقوى عن الورع، ان الورع هو ترك المحرمات، واما التقوى فهي ترك الشبهات او قل ترك موارد الشبهات. فاذا كان الفرد شاعرا بالمسؤولية تجاه الله تعالى بحيث يكون مجتنبا لموارد الشبهات، وكل ما يحتمل ان يكون فيه حرمة، او جرأة على الله سبحانه فانه يتركه من اجل رضا الله سبحانه وتعالى والقرب له ونيل الزلفى لديه، فهو متقي. كما ورد في الحديث ما مضمونه: (الامور ثلاثة امر بين رشده فيتبع وامر بين غيه فيجتنب وشبهات بين ذلك فمن اقتحم في الشبهات كاد ان يقع في المحرمات) (گول لا !).واما اذا لم يقتحم في الشبهات ووقف عندها واحتاط لنفسه فيها فهو المطلوب وعندئذ سيكون من المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.وهذا معناه ان المؤمن يمنع نفسه على مستويين وليس على مستوى واحد :
اولا: المحرمات الواضحة الفردية والاجتماعية، وكذلك الباطنية والظاهرية، كسوء النية والوسواس والاعتداء، واي شيء آخر من المحرمات. وهذا معنى قوله (امر بين غيه فيجتنب).
ثانيا: ان الفرد يترك كل ما هو محتمل ان يكون كذلك من الافعال والاقوال، ولا يحاول المشي في هذا الطريق المشبوه مهما امكنه، وانما يقتصر فقط على الطريق الواضح لرضاء الله سبحانه وتعالى ونيل ثوابه. وهو معنى قوله (امر بين رشده فيتبع) اي الطريق الواضح الذي يوصل الى رضاء الله سبحانه.
وهذا هو ايضا فرقه عن الورع، فان الورع هو ترك ما احرز الفرد كونه حراما وما علم الفرد كونه حراما دون ان يترك الشبهات، فيكون ورعا ولو بعنوان ان الشبهات مما لم تثبت حرمتها، وكل ما لم يثبت حرمته فهو جائز باصالة البراءة عن الحرمة ونحو ذلك وهذا صحيح فقهيا. الا انه لا يصل به هذا النحو من السلوك والافعال، لا يصل به الى درجة التقوى ما لم يقف عند الشبهة، ويتجنب كل ما يحتمل ان يكون سببا لغضب الله سبحانه وتعالى.-بقيت خطوة بسيطة- ولكن من الواضح في هذه الدرجة من التفكير، ان احتمال السوء ينبغي ان يكون واضحا او معتدا به لكي يتجنبه، بالرغم من جريان اصالة البراءة في نفيه. واما اذا كان احتمال السوء ضعيفا مرجوحا جاز له عمله مع وجود اصالة البراءة في نفيه.”) [المصدر: الجمعة التاسعة والعشرون للسيد الشهيد محمد الصدر].إن الأفراد يتفاوتون في الدرجات، فبعض اﻷفراد قد وصلوا الى العصمة غير الواجبة، وبطبيعة الحال هم أقل عددا، اما الورع والتقوى فإن عدد الواصلين الى هاتين الدرجتين اكثر نسبيا من أصحاب العصمة غير الواجبة ولكنهم أقل بكثير عن غيرهم من عامة اﻷفراد، فأغلب الافراد متورطون بالمحرمات والمعاصي، بل ان المليارات من البشر لا إيمان لهم فضلا عن الورع والتقوى!! وأن المسلمين أكثرهم لم يصلوا الى درجة الورع بالرغم من سهولتها النسبية، وهذه النتيجة المؤسفة لها أسبابها ومبرراتها وهي تنقسم الى نوعين من اﻷسباب:1- اﻷسباب الذاتية: فالنفس اﻷمارة بالسوء هي التي تحث الإنسان على التمرد والعصيان.
2- اﻷسباب الموضوعية: وهي تشمل أمورا عديدة، أخطرها التقصير في التربية وإهمال الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والتبليغ واﻷرشاد، وهذا التقصير والإهمال تارة يكون بالترك، وأخرى يكون بالتطبيق الخاطئ عن قصد أو غير قصد، ﻷن فاقد الشئ لا يعطيه، وما يخرج من القلب يدخل الى القلب…أيضا من جملة اﻷسباب الموضوعية الدور الخبيث الذي يلعبه أعداء اﻹنسانية من نشر الانحراف والخلاعة والمجون وترويج اﻷفكار الإلحادية ومحاربة اﻹيمان والإسلام، ويقف على رأس القائمة الثالوث المشؤوم(امريكا-بريطانيا-اسرائيل).
إن هذا الواقع المرير بالرغم من ظلامه وظلمه إلا أن هذا لايعني أن نستسلم له أو نقنط أو نيأس، بل لابد من المحاولة في اصلاح الذات والدعوة الى إصلاح الغير بالحكمة والموعظة الحسنة، وهي ليست مستحيلة، ﻷن هذا الواقع المظلم أستمر مئات السنين ولكنه لم ينجح في القضاء التام على المؤمنين فمازال هناك من الورعين والمتقين بل وحتى بعض المعصومين بالعصمة غير الواجبة، وهؤلاء وصلوا بفضل الله، وخير شاهد على ذلك التجربة العظيمة التي خاضها السيد الشهيد محمد الصدر ﻷجل تربية وهداية المجتمع والتي عبر عن نتائجها الطيبة في لقاء الحنانة ” التيار الإلهي اللطيف”..، فقد صلح حال المجتمع بعد أن كان في أسوأ حالاته…فالمجتمع يحتاج الى من يربيه ويرتفع به نحو الهداية والورع، شأنه شأن الفرد الاعتيادي، بل إن الدولة لابد ان تنبثق عن مجتمع عادل (ورع) والا كانت الدولة احد اخطر العوامل في زيادة انحراف المجتمع وهذا اﻷمر دائم الحصول ولمئات السنين فإن مجرد ترك الدولة تربية المجتمع تربية صالحة يؤدي الى انحرافه فضلا عن ممارسة الدولة لتربية المجتمع على اسس وقيم وافكار ضالة منحرفة كما هو ديدن الدول بصورة عامة!!! إن الوضع المأساوي الذي تمر به شعوب المنطقة نتيجة للابتعاد عن الله، وعدم الورع ، فاﻷحزاب الدينية لا تتصف بالورع بل هي تحارب الورع والتقوى، وتنشر الفساد والرذيلة والقتل والطائفية، فهي مجرد أسماء مرتجلة ليس لها بالاسلام وشرعه العادل المقدس أية صلة!! وليس هذا اﻷمر مقتصرا على داعش الذي يسمي نفسه ( تنظيم الدولة ألاسلامية) بل هو شامل لكل الحركات والاحزاب من مختلف الاديان والمذاهب في عصرنا الحاضر والعصور السابقة، فالعصر الاموي والعباسي هما عصر الظلم والفساد والفسق، سفكت فيه دماء اﻷولياء والابرياء…ولكن آفة الطائفية وغيرها من اﻵفات هي التي تجعل الكثير من الناس يتعصبون للدفاع عن ذلك التاريخ المظلم الحافل بالجور والتعسف والظلم البشري. فالحاكم الظالم لا يشفع له ان يكون شيعيا او سنيا كما لا يخفى على كل عاقل منصف…إن قراءة التاريخ بعد التجرد عن الطائفية والتحلي بالورع والتقوى والإنصاف والموضوعية لا محالة تكون قراءة واعية واقعية…في السابق كان الكثير يمجد ويدافع عن يزيد الاموي او هارون العباسي بدافع طائفي…في الحاضر هناك الكثير ممن يدافع عن ساسة الفساد في العراق بدافع طائفي…إن الاسلام حارب كل أشكال التعصب القبلي والعنصري والعرقي، والطائفية هي شكل آخر من أشكال التعصب الجاهلي، وحسب فهمي أن الطائفية والاسلام ضرتان لا تجتمعان…وما لم يصل الفرد والمجتمع على اقل تقدير الى الورع فسوف يبقى هذا الواقع المرير على حاله أو يزداد ظلاما وسوءا..