غير القليل من الضاجين اليوم على سطح المشهد الراهن، نجدهم يرددون من دون كلل أو ملل؛ عبارات وشعارات تدعو الى التغيير والاصلاح، والأكثر عنفواناً منهم لا يجد بديلاً عن الثورة، وغير ذلك من العلاجات التي اندثرت مع نهاية القرن المنصرم. وعندما تطرح عليهم تساؤلاتك حول سبب وعلل كل هذه الحماسة؛ يقولون لك الا ترى كل هذا الضيم والفساد والظلم الذي يحيط بنا من كل صوب. هكذا يفحمونك بامر لا يمكن نكرانه ولا تجاهله، فالظلم والضيم لم يفارقنا منذ زمن بعيد، وهو ليس بالأمر الطارئ أو العابر في حياتنا، وفولكلورنا الغنائي قد دون هذا النشيج الطويل والموجع من الضيم والهزائم والاحزان، على مدى قرون. البعض منهم يرجم مفردة (الفساد) بكل ما لديه من عزم وحجارة وغضب، من دون الالتفات الى حقيقة ان الفساد هو من طبيعة الأشياء، وهو اشارة تدعونا للاستعداد لاستقبال الانبثاقات الجديدة، كون ذلك الشيء قد انتهت صلاحيته، ولابد من الاستعداد للقادم الجديد، أما كيف نستعد لذلك؛ فهذا ما لا يطيق التقرب اليه فرسان الاصلاح الجدد..!
نعم، حجم الظلم والضيم على تضاريسنا المنكوبة لا حدود لهما، لكنهما قديمان ويستندان الى اسس وتقاليد وعقائد وقيم راسخة، ولا يجدي نفعاً كل انواع الاستعراضات لرجمهما وشتمهما، كما يجري مع من أدمن على لعب ادوار المهمش والمظلوم والمغبون، ولا يطيق فراقاً لمثل هذه الادوار العليلة. لم نقرأ عن أمة أو مجتمع ما قد تحرر من قيود العبودية والتخلف عبر اجترار عبارات التذمر والشكوى مما يعانيه من حيف وانعدام لشروط الحياة البعيدة عن العدل والانصاف؛ بل هجروا عصور الذل والخنوع؛ عبر الوعي العميق لعلل كل ذلك، عندما ساروا خلف افضل ما انجبته عقول احرارهم ومفكريهم الطليعيين، لم ينتصروا بالهرولة الى الماضي واوهامه، بل الى المستقبل وحقائقه المستندة الى اساس وطيد من الثورات العلمية والقيمية المجربة. ومن الاهمية بمكان الاشارة الى غير القليل من البلدان التي تواجه مصائر اشد قسوة منا، ولم نسمع انها قد نهضت تحت ضغط ذلك، من أجل مواجهة مثل تلك الاقدار، وبالمقابل هناك بلدان اخرى اجرت تحولات جذرية من دون الحاجة لدفع كل تلك الفواتير الباهظة.
ان التغيير والاصلاح لا يتحددان بحجم الضيم الذي تواجهه المجتمعات والافراد، بل بمتطلبات اخرى اساسها وعي الحاجة للتغيير والذي يترافق ونضج تصور لبدائل واقعية وسليمة الاركان، وهذا ما لم يحصل لدينا، لأسباب عديدة، يحاول البعض الالتفاف حولها من خلال ممارساته وخطاباته وشبخاته الحارقة للمراحل، والتي لن تفضي لغير المزيد من اليأس واللبس والغموض، وبالتالي قطع الطريق أمام النضج والتطور الطبيعي للأحداث. لا نحتاج الى الاستعانة بخبراء دوليين وتقنيات متطورة، كي نكتشف بؤس الامكانات والثروة الفكرية والثقافية، التي يمكن ان تستند اليها مثل هذه الحماسة والاندفاعات. ان اجترار واعادة تدوير ما يتضمنه قاموس التذمر والشكوى من مفردات غاضبة، والعزف على وتر النشيج الطويل من الضيم، من دون ان يرافقه فكر وثقافة وسلوك ارقى حضارياً من السائد، هو من بضائع المغامرين واليائسين من رحمة الله والأقدار، وهذا العجز والخلل الموضوعي لا يمكن تعويضه بجولات اضافية من الصخب والضجيج..
نقلا عن الصباح الجديد