أيام الكلية، كان يحسب الساعات ليغادر الى منزله البعيد في الضواحي، ويحسب الأيام لينتهي العام، وكان هاجسه الوحيد بعد الرغبة في النجاح دون تعثر أن لايقبض عليه رجال الأمن، فقد كان يقرأ ل(سيد قطب) فهو إخواني، وكان يقرأ للخميني فهو من أنصار الثورة الإسلامية، ويشتري كتب الشيوعية من شارع المتنبي فقد كان متعاطفا مع ثوريتهم المهزومة، ويجتمع مع الرفاق البعثيين، ويناقش الفكر القومي وتحديات المرحلة ومايليها.
فتح عينيه على الدنيا، وكان التابوت الخشبي مغطى بالعلم الرسمي، وفي داخله جثمان خاله، وقالوا له: لقد قتله العصاة (جماعة البرزاني) وعرف بعد ان كبر إن العصاة أمة بثقافة وجغرافيا وتاريخ وعادات وتقاليد ولغة مختلفة، وهم ينزعون الى الإستقلال.. بعد سنوات، وعندما إتسعت عيناه رأى جنازة جارهم فرحان، وقيل: إنهم كانوا يغرزون المسامير في جسده، ويعذبونه بوحشية بتهمة المشاركة في إدخال صندوق مملوء بفاكهة الى القصر الجمهوري وضعت فيه متفجرات. وعندما إتسعت عيناه أكثر اخذته والدته في رحلة للبحث عن (ناقة) تركها أبوه قبل موته مع رعاة إبل، وقيل: إن الناقة أصيبت بالجرب، وكان الرعاة يطردون (ناقة اليتامى) كما يسمونها، لكنهما وجدا بعيرين خاويين، وعادا بهما، وتعلم قبل بيعهما أن يلقمهما عجينة من طحين الشعير ليتقويا، ويغريا المشترين فقد كانا ينويان بناء بيت صغير.
عند الحدود كانت عجلات (الفان) الضخمة تنقل الدبابات والعربات المدرعة تحت شعار ( علينا المال وعليك الرجال) .فيما بعد وحين إتسعت عيناه أكثر، وكان يحب القائد الملهم، كان يحسب عدد التوابيت القادمة من الجبهة، وفيها بقايا جثث لجنود ماتوا.كان يسمع بالدولة الجارة الصغيرة، ولكنه قرأ في جريدة (النداء) وشاهد في التلفاز ذات الدبابات تجتاحها، ولكن عيناه ذبلتا فيما بعد حين رأى الجنود ينهارون، وكل شيء يدمر كما كان مقدم البرنامج في التلفزيون الرسمي (فيصل الياسري) يصفه بقوله( لم يستثنوا شيئا).
حين إتسعت عيناه أكثر رغم ذبولهما كان يرى الأطفال يموتون جوعا في مستشفى الإسكان، وكان الحصار الأمريكي يطبق على كل شيء، وكانت الجنائز تمر كل ضحى من أمام كليته في شارع 14 رمضان، بينما الفنانة السورية رغدة تبكي حرقة عليهم، وهي ترتدي الجينز الأسود. في عام 2003 إتسعت عيناه أكثر، ونسي إنهما ذبلتا ليرى تمثال القائد الذي توهم أنه يحبه في الثمانينيات يتهاوى متلفعا بعلم الشيطان الأكبر!
مضت السنون، وعيناه تتسعان وتذبلنان وتضعفان. حرب طائفية، المدن التي يحبها لايصل إليها، يخاف من كل شيء من حوله، يخاف الناس، يخشى النظرات، ماكان يحلم به تحول الى كوابيس، الفساد يطبع الحياة في السياسة والدين والمعاملات في مؤسسات الدولة، والفوضى تنخر البلد الذي أحبه برغم كل خساراته فيه، والسياسيون يجتهدون في تحصيل المكاسب، ويدافعون عن الزيف، ولاأفق يمكن أن ينفذ منه الى مستقبل أفضل، بينما الناس تتذمر وتتظاهر وتحتج، والعديد يسقطون صرعى، ولايبدو من حل، فالجميع يفكر في جني مايرغب فيه دون الإهتمام بمايريده الآخرون.
منذ أيام مر بساحة النصر المجاورة لساحة التحرير، ودخل مختبرا طبيا، وأخبره الفاحص: إن ضعف بصره سببه التقدم في العمر، وقرر إنه بحاجة الى نظارة طبية. خرج من المختبر وبيده النظارة، لكنه لم يحتج إليها ليرى الحواجز الكونكريتية عند مدخل شارع السعدون التي تفصل النصر عن التحرير، وتساءل في سره: متى تنتهي أيها العمر؟