رغم إن العراق يمتلك عددا كبيرا من الموظفين ، ولعله الرقم الأكبر بين العديد من دول العالم من حيث نسبة الموظفين إلى عدد السكان الذي يتجاوز نسبة 10% ، إلا أن قوانين الخدمة والتقاعد التي يتبعها تعد من التشريعات المتخلفة التي لا تواكب التطورات الحاصلة عالميا ، إذ لا يزال بلدنا يطبق قانون الخدمة المدنية رقم 24 لسنة 1960 الذي مر على صدوره أكثر من نصف قرن ويتم ترقيعه بالتعديلات ، كما يطبق قانون التقاعد الموحد رقم 9 لسنة 2014 الذي صدر بالتوافقات السياسية ويحمل العديد من الثغرات والأهداف المصلحية لبعض الفئات وقانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم 14 لسنة 1991 الذي يحتوي على العديد من الثغرات ، ومما زاد الطين بلة إن حكومة ( الاصلاحات ) أخذت تنظر للوظيفة العامة والموظفين نظرة متدنية وتتعامل مع الموظفين وكأنها متفضلة عليهم وقد تجسد ذلك بإصدار سلم الرواتب الجديد ، الذي لم يحظى برضا أغلبية الموظفين واشعر بعضهم بان استمرارهم في الوظيفة لا يمكن أن يطاق من خلال جعل مستقبلهم ومدخولاتهم كبيضة ألقبان لتعديل اعوجاج الموازنة الاتحادية ، فتتلاعب بها كيفما تشاء بقرارات من مجلس الوزراء أو بناءا على توصيات لجان تشكل لإعطاء غطاءا لشرعية التغييرات .
وليس سلم الرواتب هو من يشعر الموظفين بالتضييق على رواتبهم ، فقد أخذت الاستقطاعات من الرواتب تصدر بين فترة وأخرى ومنها استقطاعات التوقيفات التقاعدية التي أوجدها قانون التقاعد رقم 9 لسنة 2014 وتبلغ نسبة الاستقطاعات 10% من الراتب الاسمي وهذه النسبة واحدة لكل الرواتب أي إنها ليس متصاعدة ولا تأخذ بنظر الاعتبار تأثيرات الاستقطاع على الحالة الاجتماعية والمعاشية للموظف ، والاستقطاعات الأخرى تتعلق بضريبة الدخل وهي استقطاعات تثير التساؤلات باعتبار إن الموظف منتج للدخل الحكومي فكيف تستقطع منه الضرائب ؟ ، ومسوغ فرض الضرائب ومضاعفتها جاء لأسباب غير مقنعة وبسبب إهمال الجهات المعنية ، فنظرا لعدم إصدار قانون موازنة 2014 وضياع أكثر من 150 مليار دولار صرفت عن طريق السلف ولم تتم تسويتها, فقد أصدرت وزارة المالية / الهيئة العامة للضرائب كتابها ذي العدد 8/ 1158 في 14 / 4 / 2015 وهو كتاب موجه إلى أجهزة الدولة كافة , ويتضمن هذا الكتاب الطلب من الجهات المعنية إعادة احتساب ضريبة الدخل المفروضة على الموظفين بإيقاف مضاعفة السماحات ابتداءا من 1/ 1 / 2014 نظرا لعدم تشريع قانون الموازنة الاتحادية لعام 2014 المالية ولعدم تضمين تلك السماحات في موازنة 2015 , ويطلب الكتاب أيضا احتساب مقدار الضريبة المتحققة على رواتب الموظفين واعتبارا من 1 / 1 / 2015 .
ويعني ذلك من الناحية العملية إن مقدار الضريبة تحول إلى 3% للموظفين الذين تقل رواتبهم الشهرية عن 250 ألف دينار و5% للموظفين الذين تتراوح رواتبهم بين 250 – 500 ألف دينار و10% للموظفين الذين تتراوح رواتبهم بين 500 ألف- مليون دينار و15% للموظفين الذين تزيد رواتبهم الشهرية عن مليون دينار شهريا , ويكون التطبيق بأثر رجعي أي من 1 / 1 / 2015 , أما فيما بخصوص فروقات سنة 2014 فان وزارة المالية سوف تعلم الموظفين لاحقا ما يتم بشأنها ، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد إذ تم إصدار أعمام يلزم الوزارات والدوائر باستقطاع مبالغ لصالح الحماية الاجتماعية وبنسب ومعدلات غير مسبوقة ، ناهيك عن الاستقطاعات التي ظهرت في الآونة الأخيرة لصالح الأندية الرياضية ففي وزارة الكهرباء يتم استقطاع مبالغ لنادي الكهرباء الرياضي وفي الداخلية يتم استقطاع لنادي الشرطة وفي التعليم العالي يتم الاستقطاع لنادي الطلبة ، ولا توجد حدود أو موانع قانونية لتلك الاستقطاعات ، رغم إن قانون أصول المحاسبات العامة ينص على انه لا يجوز استيفاء أي مبلغ إلا بتشريع ، وهذه الاستقطاعات جعلت الموظفين يشعرون بحالة من عدم الاستقرار بما يستلموه شهريا لان الاستقطاعات مذعنة أي إنها تنفذ من قبل الأجهزة التنفيذية بغض النظر عن علم أو عدم علم الموظف أو موافقته ، وهو ما يجعل الوظيفة لا توفر الأمن والاستقرار رغم إن الغالبية العظمى من الموظفين قد لجئوا إليها لأنها توفر دخل شبه ثابت للموظفين والضمان لهم ولعوائلهم .
وهناك مشكلة أخرى تواجه الموظفين وهي ارتباطهم بأشكال متنوعة من السلف والقروض ومنها سلف المصارف الحكومية والأهلية وقروض المصرف العقاري والإسكان والقروض الخاصة بشراء أو إشغال الشقق والوحدات السكنية وبعضها تشكل مبالغ كبيرة من مجموع استحقاقات الموظفين ، وهذه المسائل جميعا بدأت تحرك رغبات الموظفين في الإحالة على التقاعد ، اعتقادا منهم بان تقاضي رواتب تقاعدية معروفة أفضل من الاعتماد على رواتب وظيفية قابلة للتخفيض شهرا بعد شهر نظرا لتنوع الاستقطاعات وخضوع الوظيفة العامة إلى قرارات بدلا من القوانين ، ومشكلة الإحالة إلى التقاعد إنها ستخرج الكفاءات من الوظيفة العامة فقد كان عدد الموظفين لا يتجاوز 1.5 مليون موظف قبل سنة 2003 وتحول عددهم إلى أكثر من 4 ملايين موظف في الوقت الحالي ، ومن يحق لهم الإحالة على التقاعد هم فئة المليون ونصف لان لديهم خدمات تقاعدية تزيد عن العدد المطلوب بموجب قانون التقاعد النافذ ، وفي هذا العدد نجد خيرة الكفاءات العراقية من مختلف المهن والحرف والاختصاصات حيث تولد لديهم خزين كبير من الخبرة والمعرفة والمهارة ، ونحن نتكلم عن اغلبهم وليس جميعه طبعا كما نتكلم عن المتبقي منهم بعد تطبيق المساءلة والعدالة والهجرة خارج العراق والإحالة على التقاعد بسبب السن التقاعدي وحالات العجز والوفاة ، أي إن من سيخرج للتقاعد ليس من المعينيين بعد 2003 وهي مسالة جديرة بان يعرفها من يريد الضغط لإخراج الموظفين إلى التقاعد .
ودون أن نبخس حق الموظفين الذين اثبتوا الجدارة ممن تم تعيينهم بعد 2003 فان خروج الموظفين المخلصين والأكفاء إلى التقاعد وبهذه الظروف بالذات ، يشكل خسارة حقيقية للعراق والعراقيين ومنهم أساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين والحرفيين والإداريين والقانونيين وغيرهم من العاملين ، فهم في مستويات الإدارة الوسطى أو في الدرجات الفنية والتقنية الإشرافية والذين سيتركون فراغا مهما في الوظائف الحكومية ، اخذين بنظر الاعتبار إن بقاء اغلبهم متوقف على رغبتهم لأنهم لم يبلغوا السن القانونية للإحالة على التقاعد ولديهم خدمات وظيفية تجعل إداراتهم ملزمة بإحالتهم على التقاعد عند تقديمهم طلبات الإحالة إلى التقاعد ، وهناك إدارات تشجع خروجهم إلى التقاعد لأنهم يلتزمون بأخلاقيات الوظيفة العامة التي يعدها البعض عائقا أمام توجهاتهم في الفساد الإداري والمالي وغيرها من أنواع الفساد ، ونظرا لعدم وجود معايير محددة للحفاظ على كفاءاتنا الوطنية في الوظيفة العامة ونظرا لما يمثله خروجهم المبكر من إحداث فراغ مهم يتعلق بخدمة العراقيين جميعا ، فإننا نوجه دعوتنا إلى الجهات المعنية ومنها مجلس الوزراء إلى مراعاة هذا الجانب واتخاذ ما يراه مناسبا لأغراء الكفاءات الوطنية للبقاء في الوظيفة العامة ولحين نقل كامل خبراتهم إلى الأجيال التالية ، فالضغط على أمثالهم لترك الوظيفة والتحول إلى التقاعد لا يقل خطورة وضرر من الإجراءات التي اتخذها السفير الأمريكي بول بريمر ومن اصطف معه في إلغاء الأجهزة المهمة وغيرها من الإجراءات تحت مسوغات كاذبة حقيقتها تدمير العراق .