23 ديسمبر، 2024 1:03 ص

كلما شاهدتُ ضابطاً في معسكرٍ ما أو يسير في حارةٍ ما أو يظهر في فلم أجنبي أو عربي أو في أي شكلٍ من ألأشكال يسافر ذهني الى زمنٍ بعيد الى عام 1966 السنة التي تخرج فيها شقيقي الكبير- الرائع- بكل مقاييس هذه الكلمة من معنى – من كلية ألأدارة وألأقتصاد وإلتحق لأداء الخدمة العسكرية كضابط إحتياط كما يحدث مع جميع الخريجين في تلك السنة . كنتُ في الصف الثاني ألأبتدائي . لم أكن أفهم ماذا تعنيه الخدمة العسكرية ولماذا إختفى فجأة من البيت. توالت ألأيام ..ركضتْ سريعاً كأنها حلم في ليلةٍ صيفية مقمرة. إسبوع مر وتلاه ألأسبوع ألآخر وأنقضى الشهر ألأول وإزاد على الشهر أيام. هنا بدأ الحنين يزحف الى روحي رويداً رويداً وراح ذهني الصغير يستفسر عن سر هذا الغياب. فجأة شعرتُ أن شوقاً عارماً يجيش في خاطري يتحرك في كل زاوية من زوايا جسدي الصغير . سألتُ أمي عن شقيقي الكبير ولماذا هو لا يأتي ؟ هل هو متخاصم مع فرد من أفراد عائلتنا المكونة من تسعة نفرات أكبرهم هو. شرحتْ لي سر غيابه إلا أنني لم اع أي كلمة من كلماتها. لايهمني ماتقول . كان كل فكري ينصب على حدث واحد ألا وهو الغياب الطويل. كانت السياقات العسكرية في ذلك الزمن وحسب مافهمته حينما أصبحتُ ملماً بما يجري حولي. كان مثلي ألأعلى في كل شيء. وراحت الرسائل الخطية تصل منه بين الحين وألآخر وفي داخلها صورة واحدة أو أكثر. لم يكن يذكر أي شيء سوى أنه بخير ويشتاق لرؤيتنا جميعاً. 
كانت والدتي تطلب مني أن أقرأ لها رسائله –  لأنني كنت الوحيد من يستطيع أن يتهجى مايكتبه بشق ألأنفس. لم تكن في القرية البعيدة طاقة كهربائية في ذلك الزمن. كنا نجتمع نحن ألأطفال حول –  موقد النار- الذي نغذيه بأغصان ألأشجار وفانوس صغير يرتعش لهيبه عند نسمات الهواء الداخلة من نوافذ صغيرة جداً في الباب الخشبي المتهريء. كنتُ أتهجى بعض الكلمات ووالدتي وشقيقاتي الصغار يلتففن حولي ينظرن نحوي كأنني أستاذ حفظ عن ظهر قلبه كل معادلات الجبر والكيمياء. الجملة التي علقت في ذاكرتي حتى هذه اللحظة هو ماكان قد دونها في نهاية الرسالة وكنا نسميها –  مكتوب- كانت عبارة –  ولدكم الضابط المفلس- . سألت والدتي عن معنى الضابط المفلس وضحكت وهي تشرح لي أنه يمزح. كان يحب أن يقول كلمات ترسم البهجة في صدر أمي وأبي. الضابط المفلس –  يالها من عبارة كبيرة بالنسبة لي. لماذا مفلس؟ الكلية توفر له كل شيء في ذلك الوقت من الطعام والمنام ولايحتاج فلساً واحداً لينفقه على نفسه إلا أجرة العودة وكانت بسيطة جداً.
وجاء العيد وسمعت والدتي تقول بأن شقيقي سيأتي هذا اليوم بمناسبة العيد في إجازة. كنتُ فرحاً بشكل لايمكن تخيله. ذهبت الى الشارع ألأسفلتي الذي يربط القرية بالمدينة. جلستُ هناك ساعات وساعات أنتظر قدومهِ لكن دون جدوى. كان كل أصدقائه من أبناء القرية قد عرفوا أنه سيأتي هذا اليوم. إستعدوا جميعاً لأستقباله. وغابت الشمس ولم يظهر له أي شبح في ألأفق البعيد. شعرت أن كل أحلامي قد تلاشت في الفضاء وأن غصة مرعبة سكنت كل زاوية من زوايا روحي. أتذكر كل دقة من دقات قلبي في ذلك التاريخ. دب اليأس الى روحي وعدت الى البيت ألعق جراح الخذلان. غداً سيكون العيد فلماذا لايأتي؟ كنتُ أمنيَّ النفس من أنه سيعطيني عيديه ربما –  عشرة فلوس أو أكثر وربما سيجلب لي كرة صغيرة وربما أشياء أخرى. كل تلك ألأحلام تناثرت في الفضاء وراحت الدموع تنهمر من عيني كأنهار لايمكن السيطرة عليها في زمن الطوفان. أقنعتني والدتي بأنه سيأتي الليلة ..ولكن نحن ألأطفال ننام بعد العشاء مباشرة فماذا لو جاء عند منتصف الليل؟ سأكون قد سبحتُ في ألأحلام ولن أركض نحوه صوب الباب الخارجي ليحملني بين ذراعيه ويقبلني. وماذا لو جاء ولم يجلب لي أي شيء؟ . عند الغروب جاءت –  أم علي الراضي –  رحمها الله وهمست في أذنها أنه سيأتي في الليل فقد شاهده إبنها في أسواق بغداد . كان لايريد أن يأتي أثناء النهار كي لاتتجمع القرية برمتها في بيتنا مما يسبب له ولنا إرهاقاً كبيراً- حسب ماكان يعتقده- إلا أن شباب القرية من أصدقائه تجمعوا عند الشارع ألأسفلتي وقرروا أن يرافقوه الى البيت. بعد أن تناولنا العشاء بلحظات سمعت طلقات تهدر في البستان وعرفتْ أمي أنه قد جاء. كنتُ مرعوباً من الطلقات النارية التي كانت تنطلق في الفضاء الفسيح فيرتد صداها في كل زاوية من زوايا البستان الجميل. كان –  طه الياس –  رحمهُ الله يطلق العيارات النارية بسخاء وكأن أحداً من أشقائه قد عاد من المجهول. تجمع أبناء القرية البعيدة في غرفة الضيوف وكنا نطلق عليها –  الربعة –  وكان ذلك العرس الكبير. حينما ذهب الجميع قدم لي أشياء لم أكن أحلم بها هدايا كثيرة وعيدية العيد. حينما إنتقل والدي الى العالم ألاخر كان بمثابة ألأب لي من كل النواحي. أي شيء أطلبه يقدمه لي . حينما أصبحت في المتوسطة كنت أسرق كتبه حينما يذهب وأطالعها . أي رواية يقرأها أقرأها أنا حينما يذهب الى العمل في بغداد ويعود للبيت في نهاية النهار. في عام 1975 ولأربع سنوات بعد ذلك كنتُ الفتى الوحيد من أبناء القرية البعيدة الذي يمارس هواية تبادل الرسائل مع كل العالم . كان لدي أصدقاء مراسلة بالمئات. كل يوم أكتب مالايقل عن 30 رسالة وأعطيها له ليرسلها من بغداد وكان يدفع ثمنها كلها. حمّلته عبئا إضافيا على عبء المعيشه. لم يتذمر مني يوماً واحداً. كان آنذاك في وزارة الخارجية. فجأة سافر الى أستراليا للعمل في سفارة العراق هناك لمدة أربع سنوات. وجاء فراق آخر.. ومن هناك الى إيطاليا والهند وجمهورية مالي . سنوات مرت علي كطعم العلقم بسبب فراقه. في الكلية كان يبعث لي أموالا كثيرة تعادل راتب مدرس في ذلك الزمن. لم أشعر يوماً بالحرمان من أي شيء. كلما إحتجتُ شيئا أكتب له رساله ويحول لي فوراً تلك النقود. كان مشروعاً من عطاء لايتوقف. حتى هذه اللحظة وقد ناهز السبعين وهو يقدم لي أشياء لم يقدمها لي أي شخص على هذه ألأرض. سلاماً أيها الضابط المفلس..لم تكن مفلساً يوماً ما. كانت أخلاقك أعظم من كل كنوز ألأرض.