أشياء لا ينساها أبدا … قنينة الخمر, و حبات الفستق , و النار حتى في أشهر القيظ !! … و الشيء الأخير هو صورة حبيبته المهاجرة مع عائلتها إلى أصقاع بعيدة من الأرض في موجة هجرة غير مسبوقة !! … كانت صورتها العتيقة و البالية لا تفارق جيبه و يضعها في أي مكان يسمح له برؤيتها حيث يجلس و يضعها في جيبه عند مغادرته صباحا !!… كل يوم يبدأ استعداداته للجلسة بوقت مبكر .. يبدأ بتنظيف المكان من مخلفات الليلة الماضية و تنظيف الأواني التي كانت قد بدأت تنبعث منها رائحة العفن , و يضع بعض أعواد البخور ومن ثم رش المكان و الباحة الأمامية للغرفة الملحقة بالمراب الذي يعمل به نهارا و يقوم بواجب حراسته ليلا !!.. كان قد عدل عن فكرة الزواج بعد محاولة يتيمة باءت بالفشل بسبب خوفه من ضياع الصورة في خضم فوضى الزواج و دخيل غير مأمون العواقب !!.. بدأ العيش وحيدا منذ أن قرر والده الرحيل متتبعا خطى الكثيرين ممن ضاقت بهم الدنيا في ديارهم ليبحثوا عن ملاذا أكثر أمنا و دفئا ,,,كان يرى إن رحيل والده أعطاه بعض الحرية التي يفتقدها بوجود رقيب صارم و فرصة الاختلاء بالصورة التي كان ينزوي بها طويلا بحيطة و قلق من مداهمات والده الشريرة !.. هو لا يملك من حطام الدنيا شيء سوى الطاولة و الكرسي الخشبيين و دولاب ذو مرآة و حصيرة متهتكة و الطباخ النفطي وإبريق الشاي و بعض الأقداح و العلب المعدنية الفارغة و حبل الغسيل و مجموعة كتبه التي انفق عليها جانبا مهما من دخله الشهري لاقتنائها رغم انه لا يجد وقتا كافيا للقراءة , فوقته موزع بين العمل و الخمر و السبات الطويل !!.. في إحدى جلساته كان قد وضع الصورة أمامه بعد أن أسندها بعلبة فارغة ,,, غالبا ما كانت جلساته تلك تنتهي بنوبة حادة من البكاء و النحيب المر لا تنتهي إلا بيقظة الصباح !.هو عدمي التفكير و السلوك لكنه لا يبدي امتعاضا من مكبر الصوت للمسجد القريب , فهو يكتفي بوضع الوسادة على رأسه و يعود للنوم !.. في تلك الليلة نفذ كيس الفستق فقرر الذهاب لجلب آخر من دكان قريب فترك الباب مفتوحا , عندما عاد وجد الصورة الأثيرة إلى روحه قذفتها الريح إلى الموقد لتحترق و تحترق معها آخر ما يمنحه فرصة التمسك بالحياة … لجمت الصدمة روحه … فاتخذ القرار بسرعة .. قطع حبل الغسيل و ربطه في إحدى أعمدة السقف و وضع كتبه على الطاولة و بعد عدة محاولات تمكن من الصعود و الوقوف على الكتب و وضع الحبل في رقبته و بدأ بالتأرجح ! ,,,هرع السكان المحيطين بالمراب ليخرجوه من تحت أنقاض السقف المنهار و بأضرار جسدية بالغة !. لم يكن الخمر هي الدافع لمحاولته تلك لأنه يملك الشجاعة و اليأس اللتين تمكنانه من تكرار المحاولة مع تجنب أخطاء المحاولة الأولى و التي هي أيضا جعلته يعيد النظر بالكثير من الرؤى التي كان يعتبرها من المسلمات التي لم يفكر مرة واحدة بإعادة النظر بها أو التفكير بأكثر عمقا و واقعية لان القافلة لا تعبأ بمن سقط من الرحل و من الذي بقى متشبثا, فهو بالنتيجة لن يخسر سواه , فلا ام ثاكل و لا امرأة ثيب و لا أب أو أخ مفجوع أو يتيم , فبمجرد أن يوارى يكون الأمر قد انتهى و يكون نسيا منسيا !,,, رغم كل هذا لم يكن من الهين التخلص من عادات رافقته لسنوات طوال !,,, و لكن لابد من وضع حد لهذا البؤس الذي يحيط به نفسه… لذلك قرر و على مضض الاستغناء عن تلك الأشياء التي لم يكن ينساها على أن يحتفظ بذكريات تلك الصورة في مخيلته المتعبة و روحه القلقة ليواصل الحياة بأمل هارب !. فربما يستطيع إدراك ما فاته يوما ما …