18 ديسمبر، 2024 4:53 م

الصورة على عمود النور

الصورة على عمود النور

لم يبق عمود للنور في البصرة إلا وعُلّقت عليه صورةُ لشهيد، وكذلك كان الأمر على أعمدة الضوء في مدن الوسط والجنوب وفي بغداد، بخاصة. هذه الكواكب باتت تضيء ليل مدننا، وها نحن نستظل بنور الحياة التي وهبها لنا اولئك الفتية، نعيش اللحظات المتبقية لنا على الارض بفضل قرابين أرواحهم، بالطمأنينة التي بخلت الحكومة به علينا، بالنور الذي لولاه لغدت مدننا مظلمة، ولباتت شوارعنا وأسواقنا خامدة، موشحة بالسواد وبالرايات الداعشية القذرة، ومهما كتبنا وسنكتب، لن نفي حق الارواح العظيمة تلك، لن نفي تمزق الاجساد الطاهرة، التي اندفعت بكل عنفوانها للموت والشهادة، حتى ازدانت بشواهدهم وأسمائهم شعاب واودية مقبرة السلام .
ليست الحرب التي يخوضها اولئك الشبان نيابة عنا مزحة يرويها لنا محلل وباحث في الشان العسكري، لم يدخل العراق منذ ان باتت العواصم الآمنة له نعيما ووطنا مستعارا، أو مساحة حرة لقول كل شيء، كما ليست ورقة يقول فيها فلان وفلان ما يحلو لبغضائه وأمزجته إبداء المزيد من التنكر والجحود، لا نريد أن نسمّي احداً، لكن المروءة تقتضي منا قول كلمة الفصل، هل أنت مع ام ضد؟ لا وقت لتجميل المشهد بكلمات ترتجلها امام الكاميرا، القضية بعمق الدم الذي يسيل بيننا، بحجم ذهاب ابنك للموت، ويتم اطفالك، وترمل زوجتك، نعم، هي الحقيقة، اما المناورة في الكلام وتقديم العاطفة العاطلة لبيان الحجة ومحاولة استنطاق الصور على الشاشة، وما الى ذلك فهذا ما لا وقت
يناسبه الآن.
يسألني ابني ما إذا كنت قد كتبت قصيدة في مشهد العراق اليوم، فاقول: أي قصيدة أكتبها او يكتبها شاعر آخر لن تبلغ عظمة حرف واحد من معاني البطولة التي ذهب اليها هؤلاء الفتية ، الذين هبوا لإقتحام أوكار داعش في نينوى وصلاح الدين ومن قبل في الرمادي والفلوجة، من انا لكي أمنح حروفي معنى من معاني كبريائهم وبسالتهم، كل شعر يتقزم، يصبح بلا جدوى ازاء ما فعلوا. لا أقول أبناء الوسط والجنوب حسب، أبداً، هذا عراق بطول الصبر والثبات، هبَّ ووقف يستمطر الدنيا رجولة وبطولات، لذا، وجدت الشعر أجمعه والكلمات بطولها وعرضها، مهما علت وعظمت خارج محيط الوفاء.
كنت أعيب على أحد القادة في الحشد- من الأحياء- وضع صورته كبيرة أزاء صور الشهداء، الذين اصطفوا على طول الشارع الرئيس، وسط المدينة، هو بنظارته السوداء عابساً، وهم مدججون بالسلاح ومبتسمون، ساخرون من الموت، لا ينبغي لحي بيننا، مهما عظم وجوده أن يستعرض بطولته جنبا الى جنب هؤلاء، في صورة على عمود كهرباء. علينا أن بمستوى تضحياتهم، في القليل، عبر الصورة التي نختارها ممجدةً لنا قربهم، هذا إن كنا نملك مجداً ما. يوجع قلبي ما أتذكره من حديث سائق التاكسي، الذي أقلني من وسط المدينة الى إحدى ضواحيها الشمالية، هو يقول إن اعمدة الكهرباء في المدينة لم تعد تكفي لصورة واحدة، أصبحنا نعلّق صورتين أحياناً .

نقلا عن صحيفة المدى