18 ديسمبر، 2024 5:54 م

الصورة المثالية

الصورة المثالية

نعرف جميعاً أن فن التصوير يعد فناً حديثاً إذا ما قورن بعمر الإنسان وعمر البشرية، لكن أحلامه وتصوراته وانطباعاته عن نفسه وغيره وكل ما حوله كانت بمثابة (الصورة الأولى) التي كونها في خياله حتى قبل الرموز التي تطورت لاحقاً إلى حروف ٍ وكلمات، والتي خضعت على مر الزمان وبإختلاف البلاد والحضارات إلى تعديلٍ وتجميلٍ وتبديل بدءاً من الرسم على جدران الكهوف وصولاً إلى ما يعيشه الإنسان اليوم من رفاهٍ وتطورٍ ووفرةٍ في أساليب (إخراج) هذه الصورة بأفضل شكلٍ ممكن وأياً كانت الوسيلة أو الفن الذي يعبر عنها ولا يحدها أحياناً سوى العامل المادي..
ورغم تطور الإنسان إلاّ أن مخيلته اليوم تعيش حالةً من التذبذب والتراجع والخلط (أحياناً) بين صورتها الداخلية أو صورتها التي رسمتها وترسمها عن ذاتها وبين صورتها الحقيقية كأحد الأوجه والنتائج السلبية التي خلقها التطور الذي عشنا مراحله مرحلةً تلو الأخرى، وغيّرها ويعمل على تغييرها في هذه المرحلة ما يعرف ب (الذكاء الإصطناعي) الذي (يعتقد) البعض أنه سيقودنا إلى المزيد من التقدم والذي سنكتشف لاحقاً أو تكتشف الأجيال القادمة أنه بالمقابل جردها من إنسانيتها وأن سلبياته ستفوق إيجابياته، وسنخسر معه المزيد من الوظائف والطقوس والنشاطات والعادات والعواطف (الشحيحة أصلاً) والتي تميزنا كبشر، والذي سيحول حياتنا لاحقاً إلى ما يشبه غرف العمليات المعقمة مع فارق أنه داخل غرفة العمليات الجراحية يتواجد عدد محدود من الأشخاص ولضرورة ووقتٍ محدد مهما طالت الجراحة، عكس هذا التغيير الذي لا يعود إلى الوراء ويصادر كل المراحل السابقة له بشكلٍ أو بآخر..
وبالعودة إلى الواقع الذي نعيشه وإلى فكرة الصورة التي تسكن في أعماق كلٍ منا عن نفسه، نجد كثيراً تلك الحالة من عدم الرضا والإنسجام والإتساق مع الذات والتي يحاول الكثيرون تحسينها بشكلٍ عشوائي، فيلجأ البعض إلى قراءة (الكتب التحفيزية) التي يسميها البعض بكتب (تطوير الذات) والتي يرى الكثيرون عدم نجاحها أو واقعيتها، أو قد يلجأ إلى محاكاة شخصياتٍ موجودة ضمن عملٍ فني أياً كان نوعه، أو حتى محاكاة وتقليد المشاهير أو الوجوه المعروفة حيث يستمد منها قوته وثقته بنفسه سواءً كان ذلك من خلال المظهر أو التصرفات أو نبرة الصوت أو الإختيارات بحثاً عن الصورة المثالية التي رسمها في مخيلته لما (ينبغي) أن يكون عليه من وجهة نظره، حتى وإن كان ذلك لا يناسبه أو يناسب شخصيته أو مظهره الخارجي أو بيئته أو يناقض معتقداً يؤمن به، ويشمل الحديث هنا الرجال والنساء على حدٍ سواء والذي ينتج أحياناً عن اضطرابات خلقها المجتمع والبيئة المحيطة والتناقض في التعاطي مع الأشخاص والأمور ومعالجة المشاكل الحياتية ونظرته المزدوجة لنفس الأشياء، وهو ما يؤدي إلى اضطراب أكبر في سلوكيات ومعتقدات البشر ويرافق نسبة كبيرة حتى وفاتها..
فقد يلجأ البعض (لا شعورياً) إلى تغيير أو إخفاء هويته أو لهجته أو أسلوبه أو مظهره (رغم تميزه وجماله) ليبدو (مقبولاً) أو مشابهاً للصورة التي يسوقها الإعلام أو الإعلان بإستمرار للأشخاص الذين يحظون بالنجاح والسعادة والإيجابية، والذين يتم تغييرهم بحسب احتياجات المرحلة الإعلانية دون أن يلاحظ الكثيرون ذلك، فالوجوه التي كنا نراها في لوحات الإعلانات على الطريق أو واجهات المتاجر في الثمانينات أو التسعينات مثلاً مختلفة عن كل العقود التي تلتها بوجوهها ومقاييسها وطريقة عرضها، وقد تعطي المساحة اليوم لنموذج كان محل إقصاء وسخرية بالأمس كما قد يحصل الآن عكسه أيضاً مع فارق وحيد هو قدرة الجميع على توثيق أي حدث من هذا النوع ونشره عبر وسائل التواصل الإجتماعي..
واليوم ومع تفاقم المشكلات النفسية والإجتماعية المرتبطة ببعضها والمرتبطة بالحالة الإقتصادية لأغلبنا، وبالمقارنة المستمرة وغير المنصفة التي يولدها الإعلام والإعلان وتشكل ضغطاً وإن كان بشكل غير مباشر على الناس (خاصةً في غياب العلاقات الأسرية والإنسانية الحقيقية)، يجب أن يكون هناك أصوات كثيرة لننقذ الإنسان من خلال مواجهة هذا التيار الذي لا هم له سوى تحويل كل ما ينبض وكل ما يحمل روحاً إلى مجرد شكل خاوي ومادة للبيع والشراء والتربح، فهذه المشكلات المتعلقة بصورة الشخص أمام نفسه وتجعل تقبله لها مشروطاً قد تقوده إلى الجريمة أو كراهية الغير دون سبب، أو قد تقوده إلى الإدمان أو الإكتئاب أو الإنتحار بكل أسف، ويأتي هنا دور الأسرة والمدرسة والمجتمع والإعلام (الحقيقي) لتكوين الصورة المتوازنة والجميلة والمبنية على فكرة جمال وتميز كلٍ منا بشيءٍ ما، شيءٍ صادق وحقيقي ينبع منه بعيداً عن ما يصدر للبشرية على أنه (الصورة المثالية)، فيما لا تتعدى قيمتها الفعلية تحويلنا وتحويل كل ما ننتجه من فكر وعلم وثقافة وفن وأدب (مهما كان بسيطاً) إلى مجرد قوالب وجثث لا زالت على قيد حياة (منزوعة الحياة)..