مرت الأمة في عهد تأسيس الدولة الإسلامية بمرحلة عصيبة سببتها الظروف الاجتماعية والثقافية والجغرافية التي قادت لصراعات حول تولي أمور المسلمين. إذ كاد المجتمع أن يتشظى وينقسم على نفسه حتى انهيار الصرح الراشدي لولا تدخل الخليفة الراشدي الخامس أمير المؤمنين الحسن بن علي –رضي الله عنه- لإنقاذ المسلمين من ويلات حرب لا تبقي ولا تذر. فماذا كان وراء رؤيته الإصلاحية؟ وما أسباب مصالحته لمعاوية بن أبي سفيان وتنازله عن الخلافة له؟
ساهمت أسباب وأبعاد مختلفة في تكوين رؤية الخليفة الحسن بن علي رضي الله عنهما نحو الإصلاح، وأهمها:
أولاً ـ الرغبة فيما عند الله وإرادة صلاح الأمة:
قال الحسن بن علي رضي الله عنهما؛ رداً على نفير الحضرمي عندما قال له: إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة. فقال: كانت جماجم العرب بيدي، يسالمون من سالمت، ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله. وقال في خطبته التي تنازل فيها لمعاوية:… إما كان حقاً لي تركته لمعاوية إرادة صلاح هذه الأمة، إن استحضار الحسن رضي الله عنه إرادة وجه الله تعالى وتقديم ذلك، والحرص على إصلاح ذات البين من أسباب الصلح ودوافعه عند الحسن بن علي رضي الله عنهما، فمكانة الصلح في الإسلام عظيمة، وهو من أجل الأخلاق الاجتماعية، إذ به يرفع الخلاف وتنتهي المنازعة التي تنشأ بين المتعاملين مادياً أو اجتماعياً، ويعود بسببه الوُدُّ والإخاء بين المتنازعين، لكونه يرضي طرفي النزاع ويقطع دابر الخصام، ولذلك كان الصلح من أسمى المطالب الشرعية التي تتحقق بها الأخوة التي وصف الله عز وجل بها عباده في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، وهي الأخوة التي يذهبها الخلاف والتنازع فيما بينهم، ولذلك اعتنى القران الكريم بالصلح كثيراً، أمراً به، وترغيباً فيه، وتنويهاً به وبأهله.
ثانياً ـ لعل الله أن يصلح بين المسلمين:
إن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين دفعت الحسن إلى التخطيط والاستعداد النفسي للصلح، والتغلب على العوائق التي في الطريق، فقد كان هذا الحديث الكلمة الموجهة الرائدة للحسن في اتجاهاته وتصرفاته ومنهج حياته، فقد حلت في قرارة نفسه، واستولت على مشاعره وأحاسيسه، واختلطت بلحمه ودمه، ومن خلال هذا التوجيه واستيعابه وفهمه له بنى مشروعه الإصلاحي، وقسم مراحله، وكان متيقناً من نتائجه، فالحديث النبوي كان دافعاً أساسياً وسبباً مركزياً في اندفاع الحسن للإصلاح.
ثالثاً ـ حقن دماء المسلمين:
قال الحسن رضي الله عنه:… خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفاً، أو أكثر أو أقلُّ، كلهم تنضح أوداجهم دماً، كلهم يستعدي الله فيما هُرِيقَ دمه! وقال رضي الله عنه: ألا إن أمر الله واقع إذ ليس له دافع وإن كره الناس، إني ما أحببت أن ألي من أمة محمد مثقال حبة من خردل يهراق فيه محجمة من دم، قد علمت ما ينفعني ممّا يضرني، ألحقوا بطيتّكم. وقال في خطبته التي تنازل فيها لمعاوية عن الخلافة وتسليمه الأمر إليه:”.. إما كان حقاً لي تركته لمعاوية إرادة صلاح هذه الأمة وحقن دمائهم.
نلاحظ من كلام سيدنا الحسن رضي الله عنه شدة خوفه من الله تعالى، ذلك الخوف الذي دفعه إلى الصلح، وقد مدح الله أنبياءه عليهم السلام وأولياءه بمخافتهم الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ *} [الأنبياء: 90]، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ *} فالخوف المحمود من الله يحث على العلم، ويزجر القلب عن الركون إلى الدنيا، ويدعوه إلى التجافي عن دار الغرور، دون الحديث النفسي الذي لا يؤثر في الكف عن المعاصي، والحث على فعل الطاعات، ودون الوصول إلى اليأس الموجب للقنوط.
فالحسن بن علي رضي الله عنهما أراد أن يحقن دماء المسلمين قربة إلى الله عز وجل، وخشي على نفسه من حساب الله يوم القيامة في أمر الدماء، ولو أدى به الأمر إلى ترك الخلافة، فكان ذلك دافعاً له نحو الصلح، فالحسن بن علي رضي الله عنهما يعلم خطورة سفك الدماء بين المسلمين، لأن ذلك من أخطر الأمور التي تهز كيان البشرية، ولذلك ورد تحريمه والوعيد عليه، وتحديد عقوبته في كثير من نصوص الكتاب والسنة، والقتل أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة، مما يدل على عظم شأن قتل النفس والاعتداء على حرمة الإنسان.
فقد روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أول ما يقضى بين الناس في الدماء»، فأمر الدماء عظيم يوم القيامة، والعمل على حفظها في الدنيا من مقاصد الشريعة، ولذلك حرص الحسن على الصلح حفظاً لدماء المسلمين.
رابعاً ـ الحرص على وحدة الأمة:
قام الحسن بن علي رضي الله عنهما خطيباً في إحدى مراحل الصلح فقال: أيها الناس، إني قد أصبحت غير محتمل على مسلم ضغينة، وإني ناظر لكم كنظري لنفسي، وأرى رأياً فلا تردوا علي رأيي، إن الذي تكرهون من الجماعة أفضل مما تحبون من الفُرقة، وقد تحقق بفضل الله ثم حرص الحسن على وحدة الأمة ذلك المقصد العظيم، فقد ارتأى رضي الله عنه أن يتنازل عن الخلافة حقناً لدماء المسلمين، وتجنباً للمفاسد العظيمة التي ستلحق الأمة كلها في المآل إذا بقي مصراً على موقفه، من استمرار الفتنة، وسفك الدماء، وقطع الأرحام، واضطراب السبل، وتعطيل الثغور وغيرها ، وقد تحققت ـ بحمد الله ـ وحدة الأمة بتنازله عن عرض زائل من أعراض الدنيا، حتى سمّي ذلك العام عام الجماعة، وهذا يدل على فقه الحسن بالمآلات ومراعاته نتائج التصرفات، ولهذا الفقه مظاهره في كتاب الله وشواهده، فقد رتب المولى عز وجل الحكم على مقتضى النتائج والشواهد، ومثال ذلك:
1 ـ النهي عن سب المشركين:
قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: الآية 108]. رغم أن سبَّ آلهة المشركين أمر جائز لما فيه من إهانة الباطل ونصرة الحق إلا أن الشارع الحكيم لم يقف نظره واعتباره عند هذه الغاية القريبة، بل نظر إلى نتيجة هذا العمل المشروع، وما سينجر عنه من آثار غير مشروعة، ثم قضى بعدم سبّ آلهة المشركين سدَّاً لذريعة سبّهم لله تعالى انتقاماً لآلهتهم، وانتصاراً لباطلهم، إذ إنّ المصلحة التي ستحصل من إهانة آلهتهم أهون بكثير من مفسدة سبهم لربَّ العالمين؛ والمفسدة إذا زادت على المصلحة قُدَّم درءُ المفسدة على جلب المصلحة.
2 ـ خرق الخضر للسفينة:
قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا*} [الكهف: 79]. الاعتداء على ملك الغير بغير حقٍّ من الأمور المحظورة على وجه القطع في الشّرع، لكنّنا رأينا الخضر عليه السلام يهوي على السفينة بالخرق الذي هو في ظاهر الحال تعييبٌ، وإلحاق للخسارة بأهلها؛ ولمّا أنكر عليه موسى عليه السلام فِعْله، وقرّره بالجميل الذي أسداه إليهما أهل السَّفينة حين أركبوهما بغير أجرة؛ بيّن له أن هذه المفسدة لم تُرتكب إلاّ لما فيها من دفع مفسدة أعظم وهي غصب السفينة وذهابها جملة؛ حيث إنّ وراءهم مَلكِاً يأخذ كل سفينة سالمة من العيوب غصباً، ولا شك أنّ ارتكاب ضرر يسير في الحال إذا كان فيه دفع لمفسدة أعظم في المآل؛ يعتبر أمراً محموداً؛ والشريعة جارية على ملاحظة النتائج ودفع المفاسد العظيمة المتوقعة في الآجل؛ حتى وإن كان ذلك بارتكاب مفاسد أقلّ منها في الحال، ثم إنّ مفسدة خرق السفينة وتعييبها يمكن تداركها بالإصلاح؛ بينما ذهاب ذات السفينة إذا تحقق؛ لم يتعلّق بإصلاحه أمل.
3 ـ مظاهر اعتبار المآل في السنة النبوية دفع أعظم المفسدتين بأدناهما:
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين؛ فَسَمعَها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: «ما هذا؟» فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار؛ وقال المهاجري: يا للمهاجرين؛ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «دعوها فإنها منتنة»؛ قال جابر: وكانت الأنصار حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أكثر، ثم كثر المهاجرون بعد؛ فقال عبد الله بن أبي: أو قد فعلوا؟ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله! أضرب عنق هذا المنافق؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : «دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»، إن قتل المنافقين واستئصالهم فيه مصلحة ظاهرة للمسلمين، وتطهير لصفهم من أن تندسّ إليه عناصر التخذيل والإفساد؛ لكن لمّا كان في ذلك هزُّ الثقة بالمسلمين وزرع للدعاية السيئة عنهم بحيث ينتشر في الناس: أن النبي صلى الله عليه وسلم يعامل الذين يعتنقون دينه بالقتل والتّصفية الجسدية، فإن الأمر يتغّير، وأصبح التّغاضي عن قتلهم مصلحة أعلى وأولى من المصالح الأخرى التي تتأتى من استئصالهم، ورغم أن بقاء المنافقين فيه من المفاسد المحقّقةِ ما لا ينكره عاقل؛ إلا أنّ في القضاء عليهم مفسدة أعظم من مفسدة بقائهم؛ لذا اقتضت حكمة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن تُدفع المفسدة العظمى بالمفسدة الصغرى.
هكذا علمنا أمير المؤمنين وخامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي أصلاً عظيماً من أعظم أصول الإسلام وهو المحافظة على الجماعة والاعتصام بحبل الله، وألا تتفرق الأمة إلى جماعات وهو من أعظم أصول الإسلام وحضارة المسلمين. فقد قام الحسن بن علي بمحاربة الشقاق والاختلاف، وعمل بالتوجيهات القرآنية الهادفة لتوحيد الأمة قال تعالى: {ولاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ*} [آل عمران: 103 ـ 106].
وهذا الخليفة القدوة – أمير المؤمنين الحسن بن علي – يعلمنا معنى التسامح في خلافاتنا الدنيوية، وأهمية التقريب من وجهات النظر بين الفرقاء والخصوم السياسيين والعسكريين، وبين أصحاب المذاهب الفكرية في أوطاننا وعوالمنا العربية والإسلامية في وقتنا الحاضر، وذلك لبناء لبنات المجتمع الحضاري الفاعل، والمساهم في نهضة الإنسانية ورقيها، وفي تأدية رسالتها في التآخي، وحفظ الحقوق، ونشر السلام.
………………………………………………
المراجع:
- ابن كثير، البداية والنهاية، ج11.
- عبد الحميد، خلافة علي بن أبي طالب، 65.
- عقيدة أهل السنة في الصحابة، 2/ 748.
- علي الصلابي، أمير المؤمنين الحسن بن علي بن أبي طالب: شخصيته وعصره، دار التوزيع، القاهرة.
- منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين، مخطوطة بالمدينة المنورة، رقم 253.
- نعيم بن حماد، الفتن، تح: سمير الزهيري، مكتبة التوحيد، القاهرة.