لا أحد يُمكنه أن يعرف ما الذي يجري في العراق هذه الأيّام، والتطوّرات الميدانيّة، السياسيّة والشعبيّة، المُتسارعة تجعل الجميع في حيرة من أمرهم!
وتتنامى الوقائع منذ اقتحام الصدريّين قبل عشرة أيّام للمنطقة الخضراء المُحصّنة، وانسحابهم منها بهدوء بعد ساعات مَعدودة، ثمّ تنامت الأزمة ليلة 30 تمّوز/ يوليو 2022 بحرق جماهير مقتدى الصدر لمقار حزب نوري المالكي (الدعوة)، ومقار تيّار عمار الحكيم ببغداد وعدد من المحافظات، وبعد ساعات اقتحم آلاف الصدريّين الخضراء وهم، حتّى الساعة، يَعْتصمون داخلها بعد أن أقاموا أكثر من 48 ساعة تحت قُبّة البرلمان!
ويقال بأنّ احتجاجات الصدريّين تأتي لرفضهم ترشّح محمد شياع السوداني لرئاسة الوزراء باعتباره من رجالات المالكي، الخصم اللدود للصدر.
وبَدَت أخطر التطوّرات الميدانيّة بالتحشيد الجماهيريّ لمظاهرات الإطار المالكي (التنسيقيّ) في الأوّل من آب/ أغسطس 2022، والهادفة للحفاظ ” على الدولة ومؤسّساها”، بحسب بيان الإطار، والمضادّة لفعّاليّات الصدر التصعيديّة!
وكانت ليلة المظاهرات المُتعارضة ببغداد وبقيّة المحافظات مليئة بالرُعب والقلق والحذر والترقّب من ذهاب البلاد نحو الهاوية والنهايات القاتلة والمأساويّة للجميع، وتخلّلتها عشرات البيانات الناريّة، والمواقف الرسميّة والشعبيّة المُتضاربة والمُتصارعة، وتزامنت مع انتشار كثيف لقوّات مُدرّعة في عموم المناطق الحسّاسة والمُهمّة ببغداد، وكأنّنا أمام معركة مُرتقبة بأيّ لحظة!
وقبل ساعات من المظاهرات تَوّعد الإطاريّون في شعاراتهم باعتقال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، المدعوم من الصدر، “وقطع طريق مطار بغداد الدوليّ عليه حتّى لا يتمكّن من الهرب للخارج”، ولكنّهم تجاهلوا شعاراتهم خلال مظاهراتهم الهزيلة!
وكشفت مظاهرات الإطار عن حجمهم الحقيقي في الشارع، ورجّحت كفّة الصدر عليهم، ولهذا انسحبوا بعد ساعة ونصف، ومن يومها هُم في دوّامات نقاشيّة انتهت الأربعاء الماضي بتخويل زعماء الإطار، وبالإجماع، لهادي العامري، زعيم منظّمة بدر، للتفاوض مع الصدر لإيجاد أيّ مخرج للأزمة العاصفة بالبلاد!
وهذا التخويل يؤكّد بداية نهاية هيْمنة المالكي على الإطار وتسليم الأمور للعامري!
ولكن مَنْ يَعرف المالكي يَعي جيدا أنّه لن يستسلم بسهولة، لأنّه مُتخوّف من احتماليّة تقديمه للقضاء إن سيْطر الصدر على عموم الملفّات السياسيّة والقضائيّة!
فهل سيخضع المالكي للواقع الجديد؟
وسعيا لتخفيف الأزمة، دعت حكومة الكاظمي الكتل السياسيّة لحوار وطنيّ عبر تشكيل لجنة تضمّ ممثّلين عن كلّ الأطراف لوضع خارطة طريق للحلّ.
ورغم الدعم المحلّيّ والدوليّ المُتنامي لمبادرة الكاظمي إلا أنّ الصدر حَسَم القضيّة بخطاب، الأربعاء الماضي، دعا فيه أنصاره لمواصلة اعتصامهم داخل الخضراء لحين تلبية مطالبهم، ومنها الانتخابات المبكّرة والتعديلات الدستوريّة غير المُحدّدة وغيرها!
وهذا الخطاب الصدريّ الحاسم جاء بعد تداول أنباء عن لقاء مُرتقب، قد يكون مساء اليوم الجمعة، بين العامري والصدر لحلحلة الأمور، وبالتالي، إن لم تنجح وساطة العامري، وإن لم تُنفّذ مطالب الصدر فأعتقد أنّ الأمور سائرة نحو المواجهات المليشياويّة – المليشياويّة!
وهنالك تسريبات أخرى تُشير لاتفاق بين الإطار والتيّار يتضمّن عودة النوّاب الصدريّين للبرلمان، وحصول الصدر على تسع وزارات، وأنّ منافسة رئاسة الحكومة ستنحصر بين حيدر العبادي وقاسم الأعرجي وجعفر الصدر!
ولا ندري كيف يُمكن تَرتيب عودة نوّاب الصدر بعد أداء النوّاب (البُدلاء) الجدد اليمين الدستوريّة داخل البرلمان؟
والملاحظ أن جماعة الإطار يُناورون في مواقفهم، فهم يُؤيدون الانتخابات المبكّرة ومن باب آخر يُصرّون على ترشيح السوداني؟
ومع ذلك أعتقد أن تفاعل غالبيّة الكتل السياسيّة، بما فيها الإطار، مع مطالب الصدر الأخيرة، وبالذات مع إصرار الصدر عليها وهذا ما أكده بخطبة صلاة اليوم، الجمعة الموحّدة بساحة الاحتفالات الكبرى، ربّما سينزع فتيل الأزمة!
إنّ التجارب المريرة الماضية أثبتت أنّ غالبيّة خلافات ساسة العراق هي صراعات شخصيّة وحزبيّة لا حَظّ فيها ولا نصيب لمصلحة العراق، وإن أُلبست الثياب الوطنيّة والدينيّة والمذهبيّة!
إنّ القوى العراقيّة الحاكمة على يقين بأنّها تَسير بطريق مليء بمنزلقات خطيرة ولهذا فهي، جميعها، لن تسمح لأيّ طرف أن يحاول تطبيق القانون حتّى لو كان هذا الطرف من (رفاقهم)؛ ولهذا لاحظنا كم الاتّهامات الخطيرة التي وُجّهت للصدر من قبل الإطار بسبب دعواته الضاغطة على بعض الأطراف لتطبيق القانون ومحاربة الفساد، وهذا يؤكّد أنّ المتصارعين لن يستسلموا، ولن يُلقوا سلاحهم بسهولة لأنّهم يَعلمون عِلم اليقين أنّ النهايات الدمويّة والقانونيّة هي مصيرهم المُرتقب بسبب فشلهم في بناء الدولة والظلم القانونيّ والسياسيّ والإداريّ والاجتماعيّ والإنسانيّ الذي وقع منهم على عموم العراقيّين بمن فيهم شيعة العراق!
الحقيقة الناصعة في العراق أنّ ادّعاءات تلبية طُموحات العراقيّين غير ظاهرة في الأفق، والقول بأنّ الذهاب لانتخابات برلمانيّة مبكّرة من الحلول الناجعة قول سقيم لا يَحمل في طياته أيّ تغيير، أو تطبيق للقانون، وسنبقى أمام شخصيّات (حُرّة وطليقة) رغم أنّها مُتّهمة بالقتل والنهب والتخريب وبالأدلة القطعيّة الثابتة!
فأين التغيير والإصلاح المزعوم؟
لقد وصلنا، مع الأسف، لمرحلة لا ندري فيها أنبكي على مصيرنا المجهول أم نضحك على واقعنا المُتناقض!
أيّ مصير مجهول ينتظر العراق؟
dr_jasemj67@