اعتمد الواقع السياسي في العراق بتجربته المعاصرة على مجموعة من المرتكزات ومنها مابات يعرف بـ ” الصفقات السياسية ” وهذا المصطلح هو ليس من اختراع هذه القوى الا أنها عملت على تطبيقه كلما عجزت عن التوصل إلى حلول بسبب حالة التعقيد والحساسية وتنوع الحسابات التي تمثل العلامات الفارقة للمشهد السياسي العراقي في صورته الحالية والذي ينطوي على آثار ايجابية وأخرى سلبية تترك تاثيراتها على الابعاد السياسية والاجتماعية والنفسية للشعب العراقي ولكي نكون اكثر تفاؤلا سنبدا بالتداعيات الايجابية للصفقات السياسية حيث انها تمكنت من نزع فتيل الكثير من الازمات وتجنب الوقوع في المنزلقات الخطيرة فقد اجتمعت القوى السياسية على موقف موحد تفهم عمق وابعاد واهداف الذهاب بالعراق الى حافات الصراع المذهبي والقومي تمهيداً لاشعال نيران الحرب الاهلية التي تتمنى معظم دول الجوار الاقليمي الاجهاز على التجربة العراقية الناشئة خشية ان تصيب ” العدوى ” شعوبها فتوقظها لتنقض تماماً كما هو حاصل اليوم على الممالك المؤبدة والجمهوريات الملكية وساسة التوريث الديمقراطي نعم فقد تمكنت القوى السياسية من ادراك فداحة المخطط وجسامة ما يترتب عليه من اثار لذلك استنفرت الصفقات السياسية ” أمصال ” الإرث التوافقي واستلهمت معطيات التعايش والانسجام والتنوع التاريخي لدرء خطر السموم التي زرقتها مختلف الاجندات في الجسد العراقي فتم تجاوز مراحل القتل الطائفي – على الهوية – والتهجير القسري واستهداف المكونات ومنها المكون المسيحي والايزيدي واستهداف الكفاءات وغير ذلك من المراحل التي ارى انها تحتاج الى دراسات اكاديمية متخصصة للتعرف على خصائصها وحيثياتها واخضاعها للبحث والتحليل لمعرفة الاسباب والنتائج لتفادي الانجرار الى مثل تلك المراحل البالغة الخطورة وتجنب الوصول اليها قبل وقوعها لاجهاضها وتفويت الفرصة على العابثين بامن العراق وسلامة ابنائه وهنا اود الاحاطة بان ماذكرنا هو نموذج افرزته التجربة العراقية تضمن الكثير من التطبيقات لا يتسع المجال لذكرها جميعاً .
وعلى الجانب الآخر فقد لعبت الـ ” صفقات السياسية ” دوراً سلبياً تمثلت ابرز تمظهراته في عرقلة العملية الديمقراطية الفتيه في العراق الى مستويات تضعها في مصاف التجارب العالمية الكبيرة والراسخة الجذور فقد ساهمت هذه الصفقات في فرض الكثير من الشخصيات غير المؤهلة لادارة مراكز حساسة فعلى سبيل المثال اسهمت عملية ” دمج الضباط ” في التاثير والتسبب في تراجع بل وتدهور الوضع الامني في بعض الحالات لتجاهل تلك القوى ان الامن اصبح يتطلب في عملية ادارته الالمام بالكثير من العلوم العسكرية والخطط وتغيير التكتيك والتفوق على الخصوم معرفياً قبل التفوق عليهم ميدانياً وهذه جميعاً امور تستدعي ان يكون ” الضابط ” على اقل التقديرات متخرجاً من احد الكليات العسكرية لا ان يتم التعامل بمجانية مع ملف يتعلق بارواح الناس ودمائهم والحفاظ على ممتلكاتهم بل ان الامن يشكل قاعدة الاستناد للوضع الاقتصادي والارضية التي يقف عليها الاستثمار هذا فضلاً عن ان مثل هذه الاتفاقات تشرعن عملية الفساد مع اننا هنا نميز بوضوح ما بين ان ينال الرجال الذين تصدوا للدكتاتورية وعملوا على اسقاط النظام السابق استحقاقاتهم من الاهتمام والرعاية والعرفان لتلك المواقف على ان لا تكون عملية التكريم على حساب البناء المؤسساتي للدولة ويمكن الجمع بين الموقفين بمنحهم رتباً فخرية او رواتب تقاعدية تؤهلهم لاكتساب جميع الحقوق المادية والمعنوية دون المساس بتركيبة بناء المؤسسة العسكرية فقد كنا نامل بعد خطوة حل الجيش التي رافقها الكثير من الجدل ان يتم اللجوء الى اعتماد المعايير الفنية والتفاضل حسب الكفاءة القتالية والولاء للوطن في اختيار افراد القوات المسلحة والامن الداخلي .
لقد سمح وجود مثل تلك الصفقات للكثير من المسؤولين ان يتلاعبوا بمصير الشعب ورزقه فقد شهدنا ” صفقات مشبوهة ” في ملفات اجهزة الكشف عن المتفجرات ومعدات التسليح والأسماء الوهمية وكذلك فاحت عفونة صفقات اخرى تتعلق باستيراد الشاي المدعم ببرادة الحديد ونشارة الخشب التي مثلت دور الشاي على مسرح وزارة التجارة وفضيحة الزيت الفاسد والحليب المغشوش فيما كانت الأراضي والعقارات تباع وتنقل ملكيتها لقاء مبالغ رمزية ضمن صفقات والاعيب قانونية تفنن في تمريرها واحكام ابوابها القانونية ساسه متنفذين وكل هذا يجري على مراى ومسمع من لجان النزاهة ومكاتب المفتشين ودواوين الرقابة بعد ان تعذر على الجميع التدخل وممارسة ادوارهم نتيجة احتماء الفاسدين بكتلهم واحزابهم وحتى وصل الامر الى التدخل في التأثير على القضاء الذي نفخر جميعاً انه يمارس استقلاله لضمان المستوى الذي يليق ببلد أسس مفاهيم العدالة .
ان الرهان الحقيقي للقوى السياسية يجب ان يكون منطقيا باعتماده على الشعب الذي يمثل مصدر الشرعية وبذلك يكون لزاماً عليهم مراجعة كافة الملفات المعرقلة لوصوله الى حالة الرفاهية التي يستحقها واجد في خطوة القوى السياسية في الاتفاق على ترشيق الوزارة بداية مشجعة للانطلاق نحو مرحلة جديدة تلجا فيها القوى وتعمل على ارضاء الشعب وتقديم مصلحتة على جميع الاعتبارات الاخرى ويتم فيها مراجعة جميع الاتفاقات التي جرت على طريقة الصفقات السياسية التي تجاهلت ما يعانيه هذا المواطن وهو يدفع من حياته ورزقه وامانه فواتير باهضة الثمن امتداداً لمعاناته في ظل الحكم الصبياني البائد وهذا هو اهم مشاريع المصالحة الوطنية حيث ينال المواطن استحقاقاته التي فقدها تحت مختلف العناوين ولتكن هذه الدعوة الى الترشيق مؤشرا لتصحيح الأخطاء التي علينا جميعاً مراجعتها والعمل على تصحيحها وفي مقدمتها إبعاد الصفقات السياسية والاعتماد على الاستحقاقات الدستورية والقانونية والشعبية وإلغاء مبدأ العمل بطريقة” تصويت السلال ” التي يتلذذ بها السياسي في الوقت الذي لم يجد فيه المواطن لا سلة ولا عنب .
الهرولة إلى الإحباط
العلاقات غير المشروعة في الكواليس تنجب الصفقات السياسية وتجري الامور فيها بطريقة سوريالية غريبة الاطوار فالعقد الاجتماعي الذي اوصل الساسة الى مقاعدهم كان يقتضي تفضيل المصلحة العامة وتقديمها على جميع المصالح الخاصة مهما تباينت واختلفت تلك المصالح في الوقت الذي نرى حصول العكس تماماً حيث ان المصالح العامة لا تكاد تذكر وانما يتم الاتفاق على المصالح الشخصية والحزبية والكتلوية والقومية ونادراً ما نسمع عن المطالبة بحقوق الشعب وليس أدل على ذلك من طريقة تشكيل الكابينه الوزارية ” التحاصصية بامتياز ” والتي اعترفت الكتل المشكلة لها بترهلها وضرورة ترشيقها ليبقى السؤال قائماً هل فرض الشعب – بوصفه الطرف الاول في ابرام العقد الاجتماعي – هذه الحكومة ام انها من صناعة الكتل السياسية – الطرف الثاني في العقد – وعلى ذلك يترتب ان تتحمل تلك الكتل مسؤوليتها امام الشعب كذلك فان الامر الطبيعي في ان تؤدي الاختلافات السياسية بين الفرقاء الى اختلاف في الادوار السياسية بمعنى ان نرى كتلة تحرص على الظفر بالامتيازات الحكومية وتنبري كتلة اخرى لمطالبتها بـ – امتيازات الشعب – غير ان المنحى السياسي السوريالي العراقي انتج لنا كتلاً تختلف في التوجهات وتتفق فيما بينها على الحصول على المزيد من الامتيازات السياسية وان كانت على حساب الشعب الذي مازال معطلاً عن دوره في غربلة الرموز السياسية لكي تقود الى نتائج اقل ما يمكن القول عنها انها خطيرة ذلك ان شعوراً بالاحباط سوف يتمكن من العاملين في الحقل السياسي وصعوبة ان لم نقل استحالة تطبيق البرامج التي يخطط لها لنقلها الى برامج عمل تنفذ على ارض الواقع ومصدر هذا الاحباط هوا لشعور باللاجدوى حتى بعد الحصول على ثقة الجماهير وتاييدهم بسبب قدرة تلك القوى السياسية على ممارسة لعبة الاقصاءات واعادة هيكلة قوالب اللعبة الديمقراطية وتسييرها بالاتجاه الذي يضمن بقاءها في السلطة خاصة اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ان تلك القوى اصبحت تملك كافة اسباب القوة والخبرة في التعامل مع المتغيرات سواء المحلية او الإقليمية او حتى الدولية منها وتوظيف الحسابات المختلفة لمصلحة بقاءها واستمراها وتحويل عملية الفساد الفردي الى عملية فساد منظم فعملية ” تبادل الكرم الباذخ” ما بين الكتل السياسية عبر المنح المجاني للوزرات تنطوي على أسس خاطئة للعملية السياسية ليس فقط لأن أموال الوزرات تؤخذ من حساب الشعب بل لان هذه العملية ترجّح كفة الميزانية التشغيلية على حساب الميزانية الاستثمارية وبالتالي بقاء الاقتصاد العراقي – يرواح اذا لم يتراجع – والتسبب في حرمان ذلك الاقتصاد من إمكانية دخول دماء اقتصادية جديدة إلى جسده المنهك الأحادي وهذا الأمر الستراتيجي يجب ان يكون مقدماً في المناقشات خاصة وان التفاضل العالمي الآن يحدد الغلبة فيه الجانب الاقتصادي ولكي لا نصل الى النقطة الحرجة والمشكلة الحقيقية التي قد تترتب على انخفاض أسعار النفط العالمية او التعرض للهزات الاقتصادية العنيفة لأسواق المال العالمية وكذلك فانه يجب على الجميع استثمار الفرصة المتاحة للنهوض الحقيقي بواقع الإنسان العراقي في جميع المجالات وفي مقدمتها الحفاظ على كرامته وتامين متطلبات الحياة له من خدمات وأمن غذائي وصحي ودعم الحقوق والحريات المتاحة فالانسان العراقي هو الآخر قد وصل الى حدود متقدمة من الاحباط واليأس من تكرار الفشل والاخفاقات ورؤيته للوعود الكبيرة والشعارات البراقة وهي تتساقط تباعاً على محك التجربة وهذا الامر يقودنا الى المنعطف الأخطر في طرقات الإحباط حين يشيح المواطن بنظره عن صناديق الاقتراع وينتهي إلى القنوط من فاعلية العملية السياسية ويصبح الخيار الديمقراطي خارج الحسابات وهذا الأمر يفسح الطريق أمام ظهور دكتاتوريات جديدة والتهديد بالعودة الى تجارب الانقلابات العسكرية والبيان رقم (1) والتي دفع الشعب قوافل من القرابين لتجاوزها وكذلك قد يمهد لعودة التطرف والاجندات الراديكالية في إحياء دورها بذريعة فشل الديمقراطية وانهم يملكون ” الحل ” لجميع المشاكل التي يعاني منها المواطن .
إن امراً في غاية الغرابة والسوريالية يفرزه المشهد العراقي الراهن وهو حرص السياسي على الإثراء عبر مختلف الوسائل المشروعة والتفكير وبشكلم نهم بالحصول على الامتيازات وهذا الأمر طبيعي في حدود تأمين العيش الكريم واللائق لا أن يتحول بعض الساسة الى ” خزنة أموال ” و” قاصات مشاريع ” يحدث كل هذا على حساب الرصيد السياسي والبصمة التاريخية التي يحلم كل سياسي ان يضعها في هذا السفر العظيم الذي ” لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا احصاها ” ولنتذكر فقط ما قاله السيد المسيح “ع” ” وماذا ينفع المرء لو كسب العالم بأسره وخسر نفسه “