/ الجزء الأول /
تستحضرني وأنا أكتب هذه الصفحات صورتان .
الأولى : صورة الشباب العراقي وهو يخرج في بدايات تفتحه متفائلا مستقبلا للدنيا ، مقبلا ، يفتح لها ذراعيه ، تنغرس في ذهنه أحلام واسعة بالنشوء والتطور وتحقيق الأمنيات .
والثانية : صورة عوائل عراقية ، شباب وشابات ، أطفال ، نساء ، منهكة تتلظى على السواحل وتطفو على أمواج البحر وهي تتمسك بخيط واهن يفصلها بين الحياة والموت ، اذ تهرب من واقعها ومحيطها الحياتي الذي تربت ونشأت به باحثة عن ظل آمن في أصقاع الأراضي والمنافي البعيدة .
بين الصورة الأولى والصورة الثانية ، وبين هذه النقطة وتلك النقطة ثمة الكثير مما يجب قوله وثمة الكثير من الصفحات السوداء التي لابد من الحديث عنها وتسليط المزيد من الضوء عليها .
لم يخرج العراقيون من كل القرون السالفة الحافلة بسلسلة الخلافات الأسلامية التي جاءت بعد عصر الخلافة الراشدة وسلسلة العروش التي قامت على هذه المنطقة – الأموية – العباسية – عصور الغزوات وقرون الأحتلالات – لغاية تمزق الدولة العثمانية ، الا خالي الوفاض من كل شيء وممزق الرداء ، يلتهمه العوز والحاجة وتنهش به التمزقات الفكرية التي بصمت على وجدانه وفكره وتركت آثارها السلبية على كل سلوكياته ، خاصة بعد أن تم توظيف كل معتقداته – الأقرب اليه – ومنها (( الدينية )) وتحريفها وتحويرها بما يؤدي الى خضوعه وتابعيته وبما يفضي لخدمة مصلحة السلطة والسلطان والى تعميق جهله المدقع وعبوديته للسلاطين .
ولم تفلح محاولات التصليح والأصلاح التي سعى اليها الكثير من المجاهدين والعلماء وأصحاب الفكر والرأي والشأن من ايصاله الى حافة الوضع السوي السليم ، ولم يتمكن رجال الفكر والتنوير من اداء دورهم الذي يفضي الى النتائج المرجوة لبحثهم وتنويرهم أمام جبروت وغلو وتعسف السلاطين والطغاة وأتباعهم الذين شكلوا طيلة هذا التاريخ طبقات متراكمة ، متعددة الوجوه ، من تيارات التردي والأنحطاط الذي يخدم سلاطينهم ويعود عليهم بالنفع والأستمرار .
فكانت الحصيلة ، بلد ممزق اسوة بغيره من بلدان المنطقة التي تناوشتها على عجل مخططات مؤامرة (( سايكس – بيكو )) وماينطوي في الخفاء وراءها من غايات وأهداف وأهمها : وضع الأسس المتينة لأنشاء دولة اسرائيل على أنقاض دولة عربية كبيرة تم تمزيقها لاحقا وتمزيق وطن قائم ومحيط عربي يمتلك من التشابه والتداخل والتواحد الكثير لأجل تمكين القوى العالمية الأستعمارية وقتذاك من زرع هذا الخنجر في خاصرته ، ومن أجل استجداء الصهيونية والغرب في توفير المناخ الملائم لتحقيق نبوءاتهم التوراتية التي رسختها الصهيونية بأن عودة المسيح ودخول اليهود في المسيحية مرتبط بعودة اليهود الى فلسطين . حلم خطير ، غنت له الكثير من دول الغرب الفاعلة والمؤثرة في القرار لتخفي وراءه أطماعها الأستعمارية وتلطف به وجه الحقيقة الأستعمارية القبيح .
وقد كان العرب فعالون في انجاح هذا المخطط وتهيئة السبل والحجج لأجل تحقيقه مقابل عروش على أراضي الصحراء في الجزيرة العربية وشرق نهر الأردن .
فتم توزيع المنطقة بين المستعمرين ، بأستعمار مباشر تحول لاحقا بفعل رفض الشعوب العربية وبعض ثوراتها الى صيغة الأنتداب – الأنتداب البريطاني – الأنتداب الفرنسي – حيث بقيت قوى الغرب تضع يدها على مناطق الخيرات والمناطق العربية التي تمتلك القابلية للتطور والتحضر وتم ترك الجزر والقفار والصحارى بيد الممالك العربية الناشئة لأنها لم تعد مهمة للمستعمر الباحث عن خيرات البلدان والساعي لأسكات تململ وتطلعات الشعوب الى التحرر .
ترسخت الحدود التي تم رسمها في سايكس بيكو وأصبحت لاحقا حدودا ثابته لهذه البلدان تم تثبيتها والأتفاق على المناطق المختلف عليها وترسيمها رسميا من قبل حكوماتها اللاحقة .
دخل العراق خلال هذه الحقبة في سلسلة من الحركات والثورات والأنتفاضات التي أفضت الى انسحاب أقدام المحتل البريطاني الذي فقد مايزيد على عشرون ألف من عساكره من الهنود الذين قتلوا في معركة انتزاع العراق من الأمبراطورية العثمانية ، ومن ثم قيام الملكية العراقية ، ثم سقوطها . كل النتائج والمحصلات في محطات التاريخ العراقي الحديث تؤشر الى ان القوى الأستعمارية الفاعلة موجودة في الساحة العراقية ولن تغادرها بكل الأشكال ولها أصابعها وخيوطها التي تجر فيها وتحرك أحجار رقعة الشطرنج ،
يتبع الجزء الثاني