18 ديسمبر، 2024 9:06 م

الصغار لايتواضعون

الصغار لايتواضعون

لاأدري إن كان المعنى مطابقا للعنوان في قول المتنبي
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
أراقب سلوك بعض المتوهمين إن التعالي يرفعهم وهم صغار في حقيقتهم، فيتصرفون بإستعلاء متناه، وينعزلون عن من هم أفضل وأرفع منزلة منهم لعلهم أن يحظوا ببعض الإنتباه، وواحدهم حين يتكلم يرفع الحروف ويخفضها ويرميها في الهواء، ثم يشفطها، وتراه يقولها كأنه يقرصها، وأمثال هولاء من التافهين كثر خاصة في زمن الفوضى التي ترفع شأن الجبان والتافه والحرامي، وتكون لهم الحظوة بين الناس، ويعتمد أمثال هولاء على تفاهة العقل الجمعي للمجتمع، فترى الناس وتسمعهم يشتمون الحرامي والقاتل والمتجبر، ولكنهم يتغيرون حين يواجهونه، فإذا دخل عليهم محفلا عاما، أو في مناسبة دينية، أو سياسية، أو في مجلس عزاء تنادوا مصبحين يتراكضون، ويقفون كأنهم تخطفهم الطير، وقد يصطدمون ببعض لفرط السكر والدهشة من زيارته المفاجئة، ويقدمون له كل الترحاب والكلمات المعسولة، وحين يمضي يتباهون أنهم إلتقطوا معه الصور، أو تكلموا إليه أحصلوا منه على موعد للقاء قريب.

لهذا فالصغار لايعرفون التواضع، ولايفهمونه، لأنهم يمثلون التكبر، والتكبر لايرفع صاحبه، بل يحط من شأنه وقيمته، فهو يتوهم رفعة المكانة، ولكنه في الحقيقة لاوجود له، لأنه ظهر بصورة من يدعي شيئا ليس فيه، وكمن يقرض الشعر، وهو لايعرف الأوزان، أو يحاول أن يكون صحفيا وهو حمار، أو يريد أن يشتغل في السياسة، وهو لايفقه منها شيئا، وهو مايعانيه العراق الذي يعاني الخراب بسبب أبنائه حين دخلوا في دوائر ليست لهم، ولامن شأنهم طمعا بمنزلة ومكانة ومال وجاه وسلطان، فصار كثر يريدون أن يكونوا سياسيين وقادة للبلد، ولكنهم تاهوا وتيهوه معه، ويريدون ، يكونوا سادة وينتسبون الى الأسر رفيعة المنزلة، ويريدون أن يكونوا كتابا وصحفيين ونجوما في التلفزيون، ويريدون أن يكونوا أطباء ومهندسين ونوابا في البرلمان ومدراءا عامين وأصحاب مناصب ومراتب عليا وضباطا في الجيش والشرطة ومقاولين وتجارا وأصحاب شركات ووزراء.

سباق المسافات الطويلة يغري الناس ليشاركوا فيه طمعا في الوصول الى النهاية التي يأملون أن يجدوا عندها صندوق العجائب ليفتحوه، ويجدوا أوراقا مكتوبة فيها أسماؤهم، فهذا نائب، وهذا وزير، وذاك صحفي، والآخر مستشار ووكيل، وكل يغني على ليلاه، بينما البلد يضيع بين أطماع الجوار، وعنجهية الكبار، ولاأمل في الخلاص من الوهدة التي وجد العراقيون أنفسهم فيها، وفوق كل ذلك يزداد عدد الصغار المتعجرفين الذين يرون في أنفسهم أفيالا، وهم فئران مذعورة، متجاهلين إن الكبر كبر النفس والعقل والوجدان، وليس بالنظرة والطفرة واللباس والمكتب الفاخر والسيارة، فكلها لاتجعل من الحمار غزالا، ولامن العنز نسرا.