18 نوفمبر، 2024 5:38 ص
Search
Close this search box.

الصراع على السلطة : في سوسيولوجيا التداول السياسي  

الصراع على السلطة : في سوسيولوجيا التداول السياسي  

على الرغم من ثبات موقف علم السياسة التقليدي حيال موضوعة (الدولة) ، باعتبارها فكرة مؤسسة لمختلف ضروب الاجتماع البشري ، فضلا”عن كونها المعيار المحدد لكل ما قد يتمخض عن هذا الأخير من علاقات وسلوكيات . بيد إن واقعة (السلطة) – من وجهة نظر علم السياسة المعاصر- كانت وستبقى الموضوع الراجح لمختلف ما تنطوي عليه الظاهرة السياسية ؛ من أطر اجتماعية ، وميادين اقتصادية ، وحقول ثقافية ، ومضامير نفسية ، وأبعاد تاريخية . وبصرف النظر عن سعة هذه الشبكة السوسيولوجية وما تشتمل عليه ؛ من تعقيد في نسيجها ، وجدلية في علاقاتها ، وشمولية في ديناميتها ، فان مسألة (التداول السياسي) لتلك السلطة ، ما بين مكونات المجتمع ومؤسسات الدولة ، قمينة بجعلها واحدة من أكثر القضايا راهنية وحساسية في الوقت نفسه . ذلك لأنها لم تبرح – منذ أن أدرك الإنسان طبيعته الاجتماعية – رابضة في صلب هذه السيرورة ؛ تتحكم بحراك عناصرها ، وتتصرف بأواليات تفاعلها ، وتؤثر بخلفيات تمظهرها . ولأن واقعة (السلطة) وجدت طريقها لشتى أنواع الوجود الاجتماعي ، بصيغة تواضعات جمعية (أعراف وتقاليد وعادات وقيم) ، حيث (( الجميع – كما خلص العالم الاجتماعي الفرنسي (جان وليم لابيار) –  يحترمون العادات والتقاليد ويحافظون عليها ، وليس لأحد وظيفة خاصة ، غايتها فرض هذه المحافظة ، باستعمال وسائل الضغط أو الإقناع المشروعة . لا ترهيب في هذه السلطة ولا عقاب سوى الشجب الجماعي والتكفير الضروري تحاشيا”للإبعاد . فكأن الطاعة هنا هي طاعة غريزية )) . قبل أن تتبلور كنمط من أنماط ؛ تنظيم العلاقات ، وتقنين الارادات ، وإدارة الأزمات ، وتسوية الخلافات ، وضبط النزاعات . بمعنى أن تتحول من طابعها العرفي / الأهلي ، إلى طابعها المدني / السياسي ، حيث (( إن تأسيس السلطة – يضيف العالم المذكور – من وجهة سوسيولوجية ، يكشف درجة من الوعي الجماعي ، يعترف الأفراد عندها بالجماعة كحقيقة لها حقوقها التي تسمو على حقوقهم )) . ولهذا فليس من الغريب ولا من الشاذ أن تختلط الأمور وتتداخل القضايا ، في وعي المجتمعات الراكدة حضاريا”، حيث لم يشهد تاريخها السياسي أي شكل من أشكال السلطة الممأسسة ، سوى تلك المعنية بسلطان شيخ القبيلة ، ونفوذ زعيم الطائفة ، وهيبة قائد الحزب . ولهذا تزدهر بين أوساطها الرسمية والشعبية ، العامة والخاصة ، ظواهر من قبيل ؛ التأليه للزعامات والشخصنة للمؤسسات والاستزلام للعلاقات . بحيث تندرس الحدود وتضمحل الفواصل ما بين المجتمع السياسي بمجمل سلطاته (التشريعية والتنفيذية والقضائية) من جهة ، وبين المجتمع المدني / الأهلي بمختلف مكوناته (أحزاب منظمات جمعيات) من جهة أخرى . وهو الأمر الذي يقود المجتمع – عاجلا”أم آجلا”- إلى الوقوع بين شقي الرحى ؛ فتارة حين يسلم المجتمع زمام أموره إلى العناصر الطارئة من نخبه ، ويتنازل عن دفة قياده إلى الجماعات الهامشية من مكوناته ، فانه لا سبيل أمامه سوى الرضوخ لعواقب تغوّل الدولة ، ولا مناص له من تحمل تبعات توحّش السلطة ، ولا مهرب أمامه للإفلات من مصائب تعسّف القانون . وتارة ثانية عندما يعتقد إن الحظ قد حالفه ، وان الفرصة قد واتته ، وان الظروف قد سنحت له ، عبر الانخراط بمظاهر الثورة على الحكومة والانقلاب على النظام ، فانه سرعان ما يجد نفسه وقد أصبح صيدا”سهلا”وفريسة مغرية ؛ لعنف جماعاته المتبربرة ، وتطرف ثقافاته المؤسطرة ، وتعصب مرجعياته المتحجرة . وهكذا تغدو السلطة – بما هي حقل نسقي يعلو الحقول النسقية الأخرى جميعا”كما أوضح ذلك الفيلسوف وعالم الاجتماع بيار بورديو – محور صراع لا يهدأ أواره ولا يستكين سعيره ؛ بين دولة عنينة في أصل بنيتها حتى وان بدت قاسية ومدججة بالعنف ، تحاول إثبات وجودها المهدد بالسقوط ، وفرض سيطرتها الآخذة بالانكماش ، وبسط سيادتها المدموغة بالزوال . وبين مجتمع آيلة مكوناته إلى التصدع والتشظي ، حتى وان بدا انه يقاوم عوامل تآكله الذاتي ، عبر التناحر بين قبائله والتباغض بين طوائفه والتنابذ بين أقوامه . وذلك ليس من منطلق إن (السلطة) هي الميدان الشرعي ؛ لضبط التوازنات السياسية ، وتسوية الخلافات الإيديولوجية ، وحلّ الأزمات الاقتصادية ، وتهدئة الاحتقانات الاجتماعية . أي باعتبارها مضمار مؤسسي للتداول السياسي والتحاور السلمي . ولكن من اعتقاد كونها وسيلة فعالة لاحتكار مصادر القوة لقمع المعارضين وردع المخالفين ، وأداة مجربة لحيازة مقومات فرض التوجهات الواحدية حتى وان كانت راديكالية ، ونشر المعتقدات الخلاصية حتى وان كانت أصولية ، وطريقة مضمونة للاستحواذ على الامتيازات المادية والمعنوية حتى وان كانت لا شرعية ، هذا بالإضافة إلى قدرتها اللامحدودة على توظيف رصيد الرموز الوطنية واستثمار خزين الذاكرة التاريخية حتى وان كانت لا أخلاقية . وإذا كانت المرحلة التاريخية الماضية ، والظروف السياسية السابقة ، والأوضاع الاجتماعية المنصرمة ، والعوامل الاقتصادية السالفة ، قد هيأة – بالنسبة لمجتمعات بلدان العالم الثالث – مستلزمات استخلاص أواليات صيرورة الدولة كفكرة ، وتحليل خلفيات تشكيلها كمؤسسة . حيث استطاع كل من المفكر الجزائري (عبد الله العروي) الكشف عن طابعها السلطاني / الثيوقراطي ، من خلال كتابه الموسوم ( مفهوم الدولة) ، في حين تمكن المفكر السوري (برهان غليون) من إماطة اللثام عن طبيعتها اللوثيانية / الاستلابية ، عبر كتابه الموسوم (المحنة العربية : الدولة ضد الأمة) ، بينما توصل المفكر العراقي الأصول الكويتي الجنسية (خلدون حسن النقيب) ، إلى فضح دورها التسلطي / الاستبدادي ، من خلال كتابه الموسوم (الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر) . بينما عرّى المفكر اللبناني (مهدي عامل) نزوعها الطائفي / التفكيكي ، من خلال كتابه ( في الدولة الطائفية) . في حين نجد إن المفكر المصري (نزيه نضال الأيوبي) قد أزاح الستار عن طبيعتها الإشكالية / التغريبية ، ضمن كتابه الموسوم (تضخيم الدولة العربية) . هذا بالإضافة إلى الكثير من الأعمال الجادة والرصينة ، التي انتهجت سبل تجريم الدولة كبنية دخيلة وتأثيم مواقفها كسلطة مستتبعة ، حيال قيادتها للمجتمعات التي أحكمت قبضتها عليها طيلة عقود القرن العشرين الآفل ، كما تجسد في أعمال مشروع الاستشراف المستقبلي ، الذي صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية خلال فترة الثمانينات . واللافت انه حتى الدراسات الغربية ذات المنهج التحليلي / التركيبي ، التي تطرقت للمجتمعات النامية من خلال علاقتها الإشكالية بدولها الوطنية ، اقتصرت محاولاتها على نقد الطابع العسكري / التوتاليتاري للدول الآخذة بالترهل والتكلس من جهة ، والى التعاطف المشوب بالتملق السياسي والتعالم الأكاديمي للمجتمعات من جهة أخرى . كما تبلور ، على سبيل المثال لا الحصر ، بأعمال المفكر الأمريكي (صموئيل هنتنغتون) في أحد مؤلفاته المعنونة (النظام السياسي لمجتمعات متغيرة) . أو بالدراسة التي وضعها الباحث (بيري أندرسون) بعنوان (دولة الشرق الاستبدادية) ، أو – وهذا أقرب إلى هاجس موضوعنا – بالدراسة التي خصصها مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة رتجرز ( اريك دافيس) للدولة العراقية ، عبر كتابه الموسوم ( مذكرات دولة : السياسة والتاريخ والهوية الجمعية في العراق الحديث) ، وغير ذلك كثير لا يسع المجال هنا لذكرها جميعا”حيث تتطلب وضع ببلوغرافيا كاملة . للحد أن أحدا”من هؤلاء المفكرين والباحثين لم يشر بأصابع الاتهام إلى انحراف المجتمع وتجاوزاته ، حيال أحقية الدولة بامتلاك مقومات السلطة وحيازة مصادر القوة ، التي غالبا”ما كانت موضوع تنافس محموم وصراع دموي ، كلف الطرفان خسائر لا تعوض في مجال عقلنة وعي الأول وأنسنة علاقاته ، وعلمنة مؤسسات الثانية وشرعنة سلطاتها . وإذا ما اضطر سياق البحث المعنيين لإبداء الرأي هنا أو إسداء المعلومة هناك ، فان الإشارات والملاحظات تأتي عابرة ومتفرقة وكأنها كتبت على استيحاء أو من باب إسقاط الفرض . وهكذا فان بحثا” أو دراسة كتبت بوحي من مقاضاة المجتمع في علاقاته بالدولة ؛ لجهة تطاوله على دور هذه الأخيرة في مجال التوازن السياسي ، وتماديه على صلاحياتها في إطار الضبط الاجتماعي ، وتجاوزه على واجباتها في مضمار الاستقرار الاقتصادي ، وتدخله في شؤونها المتعلقة تجانس النظام الثقافي . وهنا تنتصب أمامنا حالة المجتمع العراقي كنموذج / مثال لهذه المفارقة السياسية الصارخة ، حيث الجماعات المتحزبة والمتعصبة ، وليس الدولة – ولا نقول الأحزاب السياسية إذ ليس هناك ما يمكن مقارنته بتكوين وتنظيم الأحزاب في صيغتها المعيارية ، كما أجاد عرضها وتحليلها الفقيه الفرنسي (موريس دوفرجييه) في كتابه الكلاسيكي (الأحزاب السياسية) – هي من يوزع الأدوار ويقسم الصلاحيات ، كما أن المليشيات الدينية المتطيفة والمتطرفة ، وليس الدولة هي من يضع القوانين ويشّرع الأنظمة ، مثلما أن اللوبيات المالية والتجارية العابثة ، وليس الدولة هي من يقسم الثروات ويوزع الامتيازات . والحال إن أمورا”تجري على وفق هذه الوتيرة الملتبسة من العلاقات والتجاذبات ، قمينة ليس فقط بتعطيل عمل الدولة وإرباك سلطتها ومسخ هويتها ونسخ سيادتها فحسب ، وإنما بالإضافة لذلك ضعضعة بنى المجتمع ككيان حضاري ، وتفكيك أواصر لحمته كمكونات إنسانية . وتركه ، من ثم ، يتآكل ذاتيا”تحت طائلة ؛ طغيان الفوضى في السياسة ، وإمعان العنف في الاجتماع ، واستشراء الفساد في الاقتصاد ، وإسراف الخراب في الثقافة ، واندياح التهتك في القيم ! . ومما يزيد من تعقيدات المشهد العراقي الراهن ويضاعف في غموض تفاصيله ، هو إن كلا من الدولة الكاريكاتورية القائمة والمجتمع المتهرئ الحالي ، لا ينيان يجهلان – أو يتجاهلان – إن السلطة التي يتصارعان حولها ، هي حصرا”مضمار إدارة الشأن العام لا الخاص ، وميدان لتوازن الحقوق والواجبات المواطنية وليس حلبة لفرض المحاصصات الطائفية ، ومجال لتحقيق الأمن والاستقرار بدلا”من تنمية العنف الكيفي وتسويق العدوانية الاعتباطية .

[email protected]

أحدث المقالات